وإذا الموؤودة سئلت...(19)/د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(19)/د.إلياس عطا الله

وأخيرًا...


 


 


لسنةٍ كاملةٍ وأنا أحملُ وألِدُ أسبوعيّا، ولا يعرفُ وجعَيَّ هذينِ، ممارسةً، إلا النّساءُ،       أمّا مجازًا، فيعرفُه كلّ الغُيُرِ على العربيّة حصنًا ومظلّةً.


لسنةٍ كاملةٍ وأنا أذرُّ المساحيقَ، وأرشُّ الطّيوبَ على جثثِ المفرداتِ، رغبةً في إحيائهنَّ ورؤيتهنَّ نابضاتٍ مختالاتٍ على الأوراقِ والألسنة.


فإنْ كنتُ قد أحيَيْتُ وأبلغتُ، فليَ النّشوةُ وأجْرَا الأرضِ والسّماء...


وإن لم أبلِغْ، فالحمدُ لله الذي لا يحمَدُ على مكروهٍ سواه، أقولها دون ندمٍ أو حسرةٍ، وما عليّ إلا الانتظار...


 فقد يُبْرِدُ الله عينيَّ برؤيةِ الجنى،


وقد يُطيلُ العهدَ إلى أن تنضجَ أجيالٌ تأتي بعدي...


وفي كلتا الحالتين كفايةٌ من فرحٍ وطمأنينة.


وتبقى في الجعبةِ أو في القبرِ مئاتُ الموؤوداتِ، أنبّشُ عنهنّ مزيحًا ما تراكمَ من غبارِ السّنين، ممنّيًا النّفسَ بالانتشالِ حتى يُبعثْنً معًا في كتابٍ يحضنهنّ، يذكِّرُ ولا يسيطرُ، تُزَيَّنُ به الجدرانُ ليوأدَ من جديد، أو تعانِقُه الأناملُ لتبعثَ فيه دفقةَ دفءٍ أخرى...شأنُ الخالقِ هذا، لا شأني.


أترُكُ الموؤوداتِ في هجعتهنّ، تطولُ أو تقصرُ، وانتقل إليّ، أنا الجلاّد العربيّ، مفعولا فيه وبه، وفاعلا في ذاتِه تقويضًا وهدمًا، أقولها، تحاصرني، حتى لوعة التّحليق أو الانسحاق، نفائسُ العربيّة تكاد ترتّلُ ما فيها، مخترقةً الأوراقَ والنّاسَ والمسافات، فمن آيةٍ كريمة تتلو نفسَها، إلى إطلالةِ بيتٍ أفْلَتَ من ديوان أبي الطيّب، إلى أنفاسٍ حرّى تتلظّى بين فواصلِ الطّائيّ والمعرّيّ والنّواسيّ... إلى قاعدةٍ قامت، أو أقِيمَتْ قيامتُها، تُطِلُّ خجِلةً من الكتابِ أو العينِ... وتتقافزُ حولي أسماءٌ صاغَتْ حضارتي وتراثي، ماضيَّ وحاضري، تنظر بكبرياءٍ كسيرٍ إليّ وإلى من خالَتْ أنّهم سَدَنَتُها، فإذا بينهم من يرطنُ بالعبريّةِ هنا بين طوْعٍ وقسرٍ، وبالفرنسيّةِ والإنجليزيّة في بعض دول الجوار، من المقهى القريب من الجامعة الأمريكيّة في القاهرة، إلى مقاهي عمّان وبعض مدارسها، إلى لبنانَ خارج المخيّم والضِّيع، إلى الشّمال الإفريقيّ الذي خرج بعض أكاديميّيه من الفَرْنسةِ إلى التّفرنُس... حسنٌ أن نجيدَ اللّغات، وأن نتعرّفَ إلى ثقافةِ الآخر، ولكنّ الأمرَ ما عنى يومًا أن تكون هذه بدائلَ للغةٍ هي الهويّةُ، وما عنى بالطّبعِ أن نفاخرَ مُكابرينَ منفوشينَ كالطّواويس بأنّ لغتَنا ميتةٌ لا تواكب العصرَ، وكأنّها أضحَتْ كأهلِها مرميّةً بالإرهاب والتّخلّف... أن ينظرَ الغريبُ إليها هكذا، أمرٌ قد أفهمه على ما فيه من إغاظة... أمّا أن أتعاملَ أنا ابنها معها هكذا، فهذا هو العقوقُ مجسّدا.


لا تخسر الخمرةُ شيئًا إن جَهِلْنا تاريخَ الدِّنانِ، ويظلُّ انسيابُها في الأوصالِ محبّبًا...


ولا يضيرُ شذا الرّبى شيءٌ إن جهلنا تاريخَ الزّهر...


فالأرَجُ سيظلُّ يعطِّرُ الآفاق...


وستظلّ الزّهرةُ تمارسُ العشقَ، علنًا أو بخفَرٍ، مع الفراشة والنّحلة شهدًا ورحيقًا. 


ما قيمةُ ما نُحييهِ إنْ كانَ أهلُ اللّغة يعيشون في غربةٍ عنها؟ وما أقسى أن أجدَ ذرائعَ لأفلسف غربتي واغترابي وتَمَغْرُبي!


لا أعرف والله، وحالتُنا هذه الحالة، إنْ كان إبراهيم اليازجيّ قد كتب:


تنبّهوا واستفيقوا أيّها العربُ    فقد طمى الخطبُ حتّى غاصتِ الرّكبُ


بعثًا ليقظةِ العرب الرّازحين تحت الحكم التّركيّ، أو إنذارًا بحالة العربيّة بين العرب الرّازحين تحت الانفتاح المعطوب؟


لغتُنا ذَوْبُ الجمالِ وصحوةُ الجيادِ وتغريدةُ العصافير... صانتْنَا حضارةً وأمّةً وكينونةً... فلْنَصُنْها، وأطفالنُا بشوقٍ إليها، قادرون على التّغنّي بها إن نحن علّمناهم وأكسبناهم...


هي دعوةٌ للنّفير، وإن شئتم هي الجهادُ الأكبرُ، ولو غضِبَ المتصوِّفَة،


لا حقّ لأحدٍ أن يبحثَ عن وطنٍ وهو يبعثِرُ لغتَهُ،


وهزيلٌ انتماؤُنا وسقيمةٌ تطلّعاتُنا إن تظاهَرْنَا نحن ولغتُنا...


لا أعرفُ شعبًا تخلّى عن لغتِهِ ولم ينقرضْ!


تريدون لها تحديثًا ويُسرًا وديمومةً، فافعلوا... فهي بين أيديكم مطواعٌ مغناجٌ، فارتقُوا إليها لترقى بكم... أقول مقالتي هذه غيرَ ناسٍ أنّ ثمّة عشّاقًا للعربيّة سبقوني ذودًا عنها، وأنّ ثمّة من يجايِلُني ويكتبُ لصونها، وأنّ الكثيرين من أبنائنا يعشقونها، وسيكونون لها حماة... فحماهم الله جميعًا... وتبقى العربيّة بألف خير، ثروةً أرهقتِ الزّمن، وتمرّسَتْ بتجاوز الْمِحَن.


ولقرّاءِ وقارئاتِ هذه الزّاوية وعدٌ بأن نلتقيَ، تربطنا العروةُ الوُثقى؛ العربيّة. 


 

التعليقات