وإذا الموؤودة سئلت...(7) / د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(7) / د.إلياس عطا الله
لم تكن الخُِواريّة ( والخاء بالكسر والضمّ) التي نقلتها في الحلقة الماضية أسلوبا حصريّا لأبنائنا في المعاهد العليا، فقد نقلت قبلها حواريّات لأبطال آخرين في موقعين مدرسيّين مختلفين، وأشرت إلى أنّ الأمر يشملنا جميعا على اختلاف تخصّصاتنا وأماكن عملنا... ولعلّ أقسى ما في الأمر أنّ المسألة أصبحت تَعَبْرُنًا بمحض إرادتنا، ولا أنكر علاقة العَبْرَنَة التي نكون فيها مفعولين، بالتّعَبْرُن الّذي نكون فيه فاعلين، ولكنّنا في الحالتين كلتيهما نملك حقّ الرفض، وليس لنا أن ندّعي أنّ أحدا قد أرغمنا على التخلّي عن عربيّتنا الفصيحة أو
المحكيّة، وإن كانت الفصيحة صعبة المتناول غالبا، فإنّ الدردشة والحوار غير الرسميّين تكفيهما المحكيّة، ولذا، ما المُعِيب في: بحياتك، المقال، المتحف، حسنا، لوحة الإعلانات، البحث، الموعد الخاصّ، التقرير الطبّي، الأمانة( ولعلّ هذه أكثر ما يستفزّني، فإن سمعوا احتجاجا على استعمال المزكيروت، قوّموا خطأهم باستعمال السكرتاريا! وكأنّها من من صميم العربيّة. أذكر، حين عملتُ مديرا لمؤسّستين - ولثلاثة عقود-، أنّني كتبت في كلّ النشرات والإعلانات والأوراق الرسميّة: أمانة المدرسة، الكلّيّة، المؤسّسة... وليت المسؤولين في المدارس والمؤسسات العامة والخاصّة يستعملون الكلمة، فهي لا تكلّفهم - ولا أصحابها- ميزانيّات ينوؤون بحملها) وما أشبهها من هذه المفردات حتى تتربّع العبريّة محلّها؟ قد نجد ألف شفيع للمتحدّث في استعماله لبعض الكلمات العبريّات التي لا يعرف مقابلها العربيّ، ولذا لا أضعها تحت مظلّة الكلمات الأخرى، وأتساءل؛ وإن عرف المقابلَ العربيّ، هل سيستعمله؟ لا شكّ عندي في أنّ المتحدّثين يعرفون المقابلات العربيّة لكلّ ما قالوه بالعبريّة، فما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ القضيّة لا تحتاج إلى إتمام الواجب الوطني أو القومي بالتنظير والتشخيص وكَيْل التهم والبحث عن كبش فداء... الدّاء يستشري، والظاهرة تعمّ وتطمّ، وآن لنا أن ننتقل من مرحلة الشكوى والصرخة والولولة إلى مرحلة العلاج، حتى لو تطلّب الأمر هدما أو استئصالا، وبناءً من جديد... ما عادت المسألة - ولم تكن أصلا- وقفا على معلّم/ ة العربيّة لنقول له/ ا "قَلّعُوا شُوكّو بإيديكو"، لقد أصبحت قضيّة شعب بمؤسساته، وعلمائه، وأجسامه التمثيليّة السّياسيّة، والتربويّة، والقانونيّة، والأبحاثيّة... أقولها، آملا أن يسمعوا جميعا قولي هذا؛ مخيفةٌ هي حالة الاستسلام أو التسليم التي نعيشها.وما يطيّر ضبان العقل، أو يقلق ويؤرّق، هو تلك الدردشة ومثيلاتها، وما أشرت إليه أعلاه من حالتنا في التعامل مع قدس أقداس الانتماء. ومَثَلُنا المحكيّ هذا يعبّر به عمّا لا طاقةَ لنا في عقله أو هضمه، أو في ما يقلقنا ويئدُ راحتنا، وزوال الراحة هو الّذي أقحم" الضّبان" هذه، والتي شاع استعمالها اسما لقطعة من جلد توضع في الحذاء، إما لتضييقه، أو لإراحة باطن القدم أثناء السير. والكلمة عند طوبيا العنيسي في كتاب " تفسير الألفاظ الدّخيلة في اللغة العربيّة" من أصل تركيّ " تابان" وتعني نعلَ الحِذاء، وعنه أخذ فريحة في
" معجم الألفاظ العامّيّة"، ولست بصدد الخوض في دقّة تحديد الأصل أو إنكار ما ذهب إليه العنيسيّ، إلاّ أنّني أشتمّ رائحة عربيّة في الدلالة، فالضّبن: الإبط والحِضن. وضِبنةُ الرّجُل: خاصّته وبطانته وعياله. الضَّبـِنُ من الأشياء: الضّيّق. أمّا أن يصير العقل، أو المخّ في رواية بعضهم، نعلا... فليس بالغريب، ولكم أن تتخيّلوا أن يكون الواحد حافيا في الرأس لا في القدم، أو أن تتذكّروا ما نقوله ساعة نغضب ويفيض الكيل بنا: عقلي في راس منخاري... طربوشي... عقلي في راس كندرتي... حلّ عنّي. أمّا "كندرتي" هذه، وأجلّ الله الأقدار، فهي تركيّة أصلا وفصلا، وتنضاف إليها لاحقتها " جي" الدّالة على الصانع أو الفاعل: كندرجي، والتي نقلناها إلى ألفاظ عربيّة وغير عربيّة مازجين بين عوائل لغويّة: طوبجي: تركيّة تركيّة= مدفعجي: عربيّة واللاحقة التركيّة، بوسطجي: ساعي البريد: هندوأوروبيّة واللاحقة التركيّة، وهنالك العشرات من هذا التركيب الّذي يسمّي بعض علماء الألسن نتاجَه: الكلمة الهجين hybrid word" ".

ولا يستهجنَنّ أحدٌ أن يكون العقل حذاءً أو حتّى بسطارًا أو أستيكا/ لستيكا، مجازًا لا حقيقة، فقد بلغ الأمر بقدماء العرب أن يوظّفوا "البلاغة" في جعل النعل كنايةً عن المرأة أو الزوجة، وهذه الموضوعة أتركها للبشر من الرجال والنساء، ولعلماء المجتمعيّة، إذ لا شأن للعلوم اللسانيّة المحضة بها، ولا أعرف أيّ مجتمع هذا الذي يكون نصفُه رجالا ونصفُه نعالا؟ أعرفتم الآن كيف اشتُقّ الإنصافُ منَ النّصف؟
ويضرب أهلنا هذا المثل في من انخدع بالمظاهر، وجاءت التجربة حاملة بالخيبة، وهو يشبه إلى حدّ ما قولهم: " من برا رخام ومن جوّا سخام" -1-، وفي الفصيح من اللغة حشد من الأمثال المؤدّية لهذه الدّلالة. كلّ ما ورد في المثل واضح جليّ من حيث المعنى، ولا تبقى إلا فصاحة أهلنا في انتقاء كلمة " الزّول"، ولئلا يُربطَ بين هذا السّياق والحواريّة الماضية، أشير إلى أنّ لا علاقة لهذه الزّول ب" זול" العبريّة، فالزَّول العربيّة الواردة في المثل، تعني: الخفيف الظّريف يُعجَبُ من ظرفِهِ. ولعلّ أكثر الأقوال قربا إليه من الفصيح، ما روي منسوبا إلى العبّاس بن مرداس، أو إلى كثيّر عزّةَ، أو إلى غيرهما، ومنه:

ترى الرجل النّحيلَ فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ مَزيرُ -2-
ويعجبُكَ الطّريرُ فتبتليه فيُخلِفُ ظنّك الرّجلُ الطّريرُ -3-
ويهمز بعضهم القاف لتصير "بلا آفية". والقافية هذه المنفيّة نفيَ الجنس، من أسلوبيّات المتقدّمين في السنّ، غالبًا، من الرّجال والنساء، وذلك حين يوردون ألفاظا تحتمل دلالات أو إشارات غير مرادة، ولذا من باب التحديد الدّلالي، ولئلا تشطح عقولنا، ويتّسع خيالنا الخصب في التصوّرات، يقطعون الطريق علينا، أو هكذا يُظنّ. تسمع أحدهم، أو إحداهن، قائلا: " أي شو جبت خيارات، الوحدة هلقدّ"، ويتابع بالكليشيه " بلا قافية"، بعد أن مثّل لِسُمْكِ الخيارة بإبهامَيْهِ وسبّابَتَيْهِ صانعا حلقة، أو بعد أن أشار إلى طول الخيارة واضعا حافّةَ كفّه عموديّا على اليد الأخرى بعيدا عنِ الكفّ. وتنزل علينا ال "بلا قافية" هذه في مواضع وسياقات لا نتوقّعها في الحديث: " قُمْتْ طَلّعْتِلُه، بلا قافية ... اللي بدّو ايّاه"... " ليش الجَزَرَات - بلا آفية- كبار"؟، ولكَ أن تكونَ ذا خيال خصب أو قليل الخصوبة، لتجد موضعا لهذه البلا قافية بعد كلّ جملة أو وصف أو فعل فيه طول وعرض وحركة... إلى ما هنالك من مفردات قد توحي بدلالة مفضية إلى معجميّة الجنس أو فعل الجنس.

تحتمل "بلا قافية" هذه أن تكون خطابا للنفس، لا طلبا أو نهيا للمتلقّي، وكأنّ قائلها يصرّح لك بأنّه لا يقصد دلالاتٍ تأويليّة أو مبطّنة لما قاله، وفي كلتا الحالتين، تظلّ الغاية واحدة، وهي الانحصار في المقول بدلالته الحرفيّة، ولعلّ إقحام القافية في حالة التعبير عن مراد المتحدّث نابعة من وصم الشعراء بأنهم يرمون إلى ما هو أبعد ممّا يقولون، وبأنّهم " يتّبعهم الغاوون"، أقولها من باب الاجتهاد، غيرَ متيقّن منها، أو بشيء من التحفّظ، لأنّ تأويلا كهذا يفترض قائلا ناقدا عارفا بالشعر والشعراء... قلت بشيء من التحفّظ، لكي أبقي متّسعا لصدقها، فلطالما ردّدنا مقولات دون أن نعرف دلالاتها الأصليّة، ولو في السياق المناسب.

قد يكون نزع القافية هذا من باب التأدّب، أو أسلوبا قريبا من لطف العبارة البعيد عن البذاءة والابتذال، ولكنّ الحقيقة الحاصلة، هي أنّ الكلام يصير بمئة ألف قافية، رغم لا النافية هذه، بل إنّ السامع يكون في حالة قبول للجمل والأوصاف بشكلها الحياديّ، دون أن يفكّر للحظة بدلالات أخرى، فما إن يسمع البلا قافية هذه، حتى يقفّيها ويشطّ به الفكر إلى ما لا يراد، وكأنّها وظّفت لاستدعاء الدلالة غير المرادة... وأحمد الله لأنّ الصغار- بلا قافية- منّا ابتعدوا عن هذه الأسلوبيّة المستفزّة للقافية.

والقافية المذكورة هذه على صعيد اللغة تعني أصلا آخر الشيء، ومن هنا سمّي آخِر البيت الشعريّ قافية، ورغم الاختلاف في مفهوم الآخِر، فإنّ بعضهم سمّى القصيدة كلّها قافِيَةً، من باب تسمية الكلّ باسمِ الجزء. وللجذر "قفو" والّذي منه القافيةُ والقفْوُ والاقتفاءُ دلالاتٌ معروفة، فالقفوُ تتبّعُ الشيء، أو النسج على منواله. يقال: قفوت فلانا أي رميته بأمر قبيح. أتبعته كلاما قبيحا. ومن هذه الدّلالات نرى أنّ المقصود في قولهم بلا قافية هو ألا تُتبع ما سمعتَ بشيء ولو في الخيال، وألا تتخيل أشياء قبيحة، أو أنّني لا أقصد إلا ما يقال...

ليطمئنّ كبارنا، فحين سيكفّون عن طلب اللا تقفية، لن نذهب بأفكارنا بعيدا، وستظل الخيارة والجزرة، من المشتريات التي يشغلنا سعرها، وطلاوتها، وكونها مثل " أصابع البُبّو"، أو إن كانت تصلح للتخليل أو لا تصلح... ناهيك عن أنّنا في عصر لا يحتاج أحد فيه إلى التقفية أو إلى لطف العبارة، هذا عصر موسوم بالانفتاح وحريّة التعبير وكثرة الولوج، بلا قافية، في الإنترنت، وفي ما نعرف وما لا نعرف.

1- السّخامُ: سوادُ القِدر أو زجاجةِ القنديل أو المدخنةِ، وهو الفحم أيضا، وهو السّوادُ مطلقا. ( وله الدلالة المناقضة كلّيّا: النعومة والحسن).

2- المَزير: الجريء المقدام. نافذ العقل. ويرد البيت ببعض التغييرات، إذ قد تجد "الضعيف" أو "النحيف" بدلا من النحيل، و" رجل" بدلا من أسد، و " المرير" بدلا من المزير.

3- الطّرير: من طرّ شاربه، أي نبت. تبتليه: تختبره، تجرّبه. وقد تجد "فيخلّ" بدلا من فيخلف.

التعليقات