وإذا الموؤودة سئلت..(1)/د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت..(1)/د.إلياس عطا الله
والمفعول المطلق هذا، من مباحث النحو التي يستسيغها الطلبة غالبا، رغم كرههم للمبحث البندوق* المختلَق؛ نائب المفعول المطلق، خاصّة حين يكون اسم إشارة، أو ضميرا متّصلا بالفعل، وإن كان الخليل وسيبويه والفرّاء والمبرّد ومن عاصرهم لا يعرفون هذا المصطلح**، إلاّ أنّهم حدّدوا وظائفه، وما يعنينا من وظائفَ في هذا المقام جعلُهم الإتيانَ بمصدر الفعل من باب التّوكيد: "ضربَ ضربًا"، "كسّر تكسيرًا"، "أكلَ أكلا"... والأفعال العربيّة لا تعدّ، ولا أعرف علّة لهذا الميل عند الأساتيذ إلى كثرة التمثيل بضرب وكسّر وأكل! لعلّ الأمر يتطلّب دراسة سيكوألسنيّة، أو سوسيوألسنيّة، أو الاستغناء ببساطة عن الدراستين، فالأمر تصوير للواقع، ومحاكاة للتمثيل المتوارث، فمنذ سيبويه لم ينزل المثال:" سرتُ والنّيلَ" (وللدّقّة، أوْرَدَ سيبويه: ما زلْتُ أسيرُ والنّيلَ، الكتاب: 1: 298) من كتب القواعد في باب المفعول معه!! ولا أعرف حتّى الآن متى زار سيبويه مصر، وسار على الكورنيش، أو قعد يقزقز اللبّ على ضفة نجاشي مصر الحليوه الأسمر***؟ أمّا "جاءَ البردُ والطّيالسةَ"، فأمرُه عجب، مدبّق على الصفحات في المبحث نفسه، ولئن كان النيل مشهورًا معروفا يمثِّل به من رآه ومن لم يره- وهذا ما يشفع لسيبويه- فإن الطيالسة**** هذه تقع على رؤوس الطلبة كجلمود صخر امرئ القيس، أو كالْمَخَافِضِ أو الْمَخْفَضِيَّاتِ (جمع لـ" مَخْفَض"، " مَخْفَضِيّ" واللتين نحتُّهما من: "مخلوق فضائيّ"، راجيا لهما، أو لإحداهما، السّيرورة وطــول العمر).

ونعود إلى توظيفات أهلنا لهذا المصدر، متجاوزين وظيفة التوكيد إلى التكثير الفعليّ والزمنيّ، يختصرون الحدث والزمان إلى يوم الدين بقولهم: "وَلَكْ أكلنا أكِلْ... أيِ شْرِبْنا شُرُبْ"، نوعا من التكثير الكمّيّ والإفراط، ونراهم، وكأنّ هذا الأسلوب يضيق بمرادهم، يضيفون: "شربنا ليوم الشرب"... "ضحكنا ليوم الضحك"، مختصرين بـِ "لَيُومِ اِلـ" هذه دلالة الإتيان على الحدث وشموليّة الزمن، فما خلقه الله وأنبتته الأرض من مأكول حتى قيام الساعة، وما رُوِي من نكات وأضحك، اختصرناه في جلسة واحدة... والأفعال كثيرة، ولك أن تضع الفعل، أيّ فعل، وبعده "ليوم" مضافة إلى مصدره، لتولّد أسلوبا يكتنف الزمان والحدث إلى أن تقوم الساعة. وقد يحشر المفعول به نفسه في هذا المقام، وتظلّ عمليّة الإحاطة بالزّمن حاضرة، كأن تسمع أحدهم يقول: " أكلنا تين ليوم التين"... وبدِّلْ أو عوِّضْ وفق قوانين علم الجبر ما شئتَ.

ممّا يليق بمبحث الألسنيّة الاجتماعيّة، حيرتنا مع أهلنا وهم يربّوننا على الدّماثة وحسن الإجابة ولطف العبارة، فإن قلنا «لأ» هكذا بتحقيق الهمزة، يأتيك الردّ المقوّم مباشرا: « لؤوأة تلألئ( تلقلق) اسنانك»! وحين نجيب بـ « آ» قبولا وموافقة، أو «ها» ردّا أو استفسارا، نُصْلَى بِصَلْيَةٍ كلاميّة: « أوا! هوا/ي تكسر حنكك»، فعلينا أن نقول «نعم» حين الموافقة، وأن نجد لنا أداة استفهام غير «ها» المغرقة في حمرنتها وسوقيّتها، وويل لنا إن أسأنا الاختيار فلجأنا إلى كنف «شو» و « إيش»، فعندها ستنصبّ على آذاننا وجلودنا نار جهنّم: « شاوي يشوي لحمك»، أو سنَغصُّ أو نشرق ونتشردق من « قشّة» دخلت حلوقنا ... ومن باب التعلّم من كثرة التكرار، أو من باب التأدّب الفعليّ، أدركنا أنّ علينا أن نلجأ إلى مفردات أخرى، ولدهشتنا، وجدنا «التقويم» لا يحلّ عنّا، فإجابتك بنعم المهذبة الفصيحة ذات الحسب والنسب، قد تجرّ : «نعامة ترفش ببطنك»، ولجوؤك إلى» كيف» يقابل بـ « كفّ تخلع نيعك/ بوزك»، أمّا التعبير عن حاجاتك ورغباتك، فما أفلت من الكليشيه الجاهز، فما إن تقول :» بدّي»( بودّي)، وقبل أن تكمل، تجد نفسك ممعوسا تحت حجر المعصرة؛ « بدّك بدّ» وقد يتمّم بعضهم السجعة مضيفا: « يقطع راسك يوم الحدّ»، وإن حدثت المعجزة، ولم تتمعمس تحت الرّحا/ الرّحى، وتمكّنت من التقاط أنفاسك والتلفّظ ببقيّة ما بودّك- إن بقي لك ودّ في شيء- : «... أطلع»، « ... أنزل»، « ... ألعب»، « ... أروح»... فالإجابات تنزل عليك زخّات زخّات، لا تترك فيك مقتلا:» يِطْلَعْ لَكْ طُلُِعْ»، «ينزل لك نُزُِلْ»، «تِلْعَبْ بأربعْتَكْ وراسك الخامس»، « روحة بلا رجعة»... وإن استغثت بأخيك قائلا: « خيّا»، صفعتك «: خوا يخوي مخّك»، وما عليك إلاّ أن تتخيّل جمجمتك قد انفلقت وتطاير منها مخّك! ولا يبقى أمامك من مجير إلاّ « يابه»، فإن قلتها سمِّ على روحك، وتعوّذ وبسملْ واتلُ آية الكرسيّ، أو صلِّ» أبانا» خمس مرّات، فالإجابة على طرف اللسان: « بوّ ينفخ باطك» *****... وككثرة وقاحتنا ولجاجتنا، إبداعات أهلنا التي تشرّف كتب البلاغة العربيّة، ودروس الألسنيّة في الخبوّ الدّلاليّ... ففي نهاية المطاف أدركنا أنّها كلمات تقال، منزوع منها القصد الدّلاليّ، والشاهد على هذا أنّني ما زلت أمارس أعمالي وأكتب، وأنّكم ما زلتم تمارسون أعمالكم، وتقرأون.

ومن باب تحديد المراد، والإشارة إلى الحقيقة، ما كانت هذه التقويمات تقال لوجه التهذيب وانتقاء اللفظة السليمة... كلّ ما في الأمر لا يتعدّى اتفاقك مع الوالد/ة إيجابا أو نفيا، فإن كانت إجابتك بـ " نعم" موافقة لـ" نعم" المتوقّعة عندهما، فإنّك لن تسمع: نعامة...، وكذا الأمر في بقيّة الحالات، فالإجابات الإبداعيّة المذكورة لا يثيرها جوابك أو مطلبك، إنّها قضيّة الموافقة على ما ينبغي أن توافق عليه، والامتناع عمّا يجب أن تمتنع عنه، بحيث يكون التوافق والتناغم مشتقّين من الطاعة، تريحك من هذا الرّدْح الّذي يصرعك، أمّا ما " بدّك ايّاه" فرهْنٌ بالمزاجيّة على الغالب.

ويبقى، طمأنة لمزاجيّة الأهل، أو نزولا عند ودّهم أن نكون أوادم، أن أقول إن "ها" الاستفهامية أو التنبيهيّة، من صميم فصيحنا، أمّا إيش وملحقاتها، فقد كتبها الفصحاء أيضا: أيشَ هذا؟ اختصارا لـ " أيّ شيء هذا"؟

ومنّا، نحن العَقَقة، مَن لا يعجبه العجب، نرفض أو نقبل من باب التتنيح أحيانا؛ «تروح يمّه/ يابَه...»؟ وتأتي الإجابة رفضا، وتكثر العروض، ونحن متَنِّحون مبدئيّا، ثمّ تندفق الخيارات من باب الإغراء، ونبقى محرنين، لا نعرف إلاّ الرفض والتبويز، إلى أن يفيض الكيل، وتفقد الحيلة، فيرفع الوالدون الراية البيضاء: اصطفل! سيبه يصطفل! و» اصطفل» هذه، من إبداعات أهلنا النحتيّة الاختصاريّة المتّكئة على أصلين فصيحين؛ فعل وحرف، أو على فعل فصيح واسم موصول عامّيّ، فهي من اصطفى أي اختار، ومن اللام الجارّة، فاصطفِ لك، أو لنفسك ما تشاء، أي افعل ما تشاء، أو اصطفِ اللّي بدّك ايّاه، ومن باب كثرة الاستعمال والدوران على الألسنة كما يقول القدماء، صارتا كلمة واحدة « اصطفل»، وهذه الظاهرة الاختصاريّة محبّبة في العربيّة بمستوييها، ومن الشائع في عاميّتنا من هذا الباب إبداع الناس للفعل «جاب»، وجعله تام التصرّف، له مضارع وأمر واسم فاعل ومصدر... وما هو إلا اختصار لـ : « جاء بـِ»، وكما «جابتنا» أمّهاتنا، ستظلّ لغتنا الأمّ المحكيّة في عمليّة «الجيابة» تملأ معاجمنا وكتبنا وألسنتنا بكلّ بديع رائع.




* البندوق: أوردتها قلّة من المعاجم، ومن أوردها أشار إلى عامّيتها، وقال في معناها: الدّعيّ في النسب، أو ابن الحرام أو النّغل. انظر من باب المثال: تاج العروس للمرتضى الزَّبِيديّ، محيط المحيط للبستانيّ، والمعجم الكبير، مجمع اللغة العربيّة في القاهرة. مادّة: بندق.

** وضع ابن السّرّاج هذا المصطلح.

*** إشارة إلى أغنية «النيل نجاشي»، التي كتبها أحمد شوقي بالعامّيّة، وغنّاها عبد الوهّاب.

**** الطيالسة: ومفردها الطيلسان، وهو كساء أخضر من صوف، يلبسه الشيوخ والعلماء، وهذا النوع من الثياب غير عربيّ، كاللفظة نفسها المقترضة من الفارسيّة: تالِسان.

***** البَوُّ: ما يحشى من جلد بالحشيش أو التبن، كشكل الحُوار( ولد الناقة إلى أن يفطم ويفصل عن أمّه) أو الفصيل( الحُوارُ بعد فطامه وفصله عن أمّه) إذا مات، فيقرّب من الناقة لتستمرّ في درّ اللبن. وهو أيضا ابن الناقة الحيّ. أمّا الباط، فهي الصيغة المحكيّة لإبط الفصحى، بعد تعرّض الهمزة للتليين، والتبادل المكاني مع الباء.


(مدينة حيفا)

التعليقات