وإذا الموؤودة سئلت...(4) /د. إلياس عطاالله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(4) /د. إلياس عطاالله
كنّا تبهدلنا* مع الحمرنة الرّجوليّة منذ أسبوع، متحدّثين عن الزّوج والعديل وشقّة الخرج، مصطلحات ذكوريّة حصريّة، ولكم أن تعتبروا أو تعتبرن هذا الختام نوعا من المساواة مع النِّسوان، أو إكراما لعلاقة المودّة التي يفرضها النير، أو إمعانا منّا في حمرنتنا ونزولنا عن حقوقنا، وكلُّ ما في الأمر أنّ مصطلح سِلف، سِلفة تُرِك لمعجميّة النّساء وللعلاقات الرّابطة بينهنّ، مع أنّ العديل مرادفة للسِّلف، فنحن، السِّلفين، الرّجلان المتزوّجان من أختين، والسِّلفتان، المرأتان المتزوّجتان من أخوين، ولا أعرف لم لا ترِدُ في مصطلحات الرّجال: هذا سلفي، بمعنى عديلي؟ لقد هيمنتِ النّساء على المصطلحين كما هيمنَّ على القلوب، فصارت الواحدة تقول هذا سلفي أي أخو زوجي، وهذه سلفتي، أي زوجة أخي زوجي... وأيّ مساواة تريد النساء بعدُ؟ أولم أسقِطْ بهذا التسلُّفِ والتّسالفِ كلَّ دعاواهنّ بالغبن والتّبعيّة والتّمييز؟ أوَلَمْ تخرجْهُنّ اللغة بهذه المصطلحات من دائرة الثيران والحيوانيّة التي اختار الرّجالُ أن يدرسوا في بيدرها؟

والسِّلفانِ، كما يرى أهل اللغة، متزوّجا الأختين، وليس في النساء سلفة، كما ذكر ابن سيده نقلا عن ابن الأعرابيّ، أمّا غيرُهُ فقد أنّثَ وقال: السلفتان المرأتان تحت الأخوين، و"تحت" الظرفيّة هذه، تعبير عتيق كناية عن الزواج لا عن الدّونيّة، وهو ممّا يندرج في باب الكناية أو لطف العبارة( euphemism)، وفي تهذيب اللغة للأزهريّ: "السّلفان رجلان تزوّجا بأختين كلّ واحد منهما سِلف صاحبه، والمرأة سلفة لصاحبتها إذا تزوّجت أختان بأخوين. أمّا الجوهريّ في الصّحاح فيرى: "سلف الرّجل: زوج أخت امرأته". ولا بأس، كي لا نقع في إشكال نحن في غنًى عنه، أن نرى أنّنا نزلنا آنيّا عن المصطلح لحُرُماتنا المقدّسات، من باب التسلُّف أو الإعارة، أو من باب كونهنّ سلافةَ حياتنا... وللمسترجلين أن يفرحوا بالأولى، وللبشر أُبْقي الثّانيةَ.

وستّي "إم ذيب"، طيّب الله ثراهما، أميرة سمراء من "علما الشعب"، عاشت في بيت ميسور من السّراة بمصطلح ذلك العصر، وهي التي أهدتني المثلين اللذين أوردتهما في حلقة سابقة: " شخّاخة ولباسها قطن"، و" بتّرِّسْ وبتنام بالنُّصّ". دار الزّمان بستّي إمّ ذيب دورات مدوّخات، غربة نحو إقرت، ثمّ نكبة اللجوء، ولذا تعطّلت حركة الزّمن عندها، وصار الماضي معشِّشًا في الحاضر والمستقبل، ولم يكن بالغريب أن تذكر يوميّا أنَّ "منصورْ لِبْراهيمْ"، وهو من سراة القوم، ابنُ عمّها، وأنّ حليم الرّومي- والد ماجدة الرّومي- ابن خالتها، وأنّها "من بيت الغفري" في "علما الشعب"، وتصرّ على "بيت" هذه، فهو من بيوتات العرب، ورغم دورة الزمان، ما أمكنَكَ أن ترى فيها إلاّ عزيزَ قومٍ... ما ذلَّ وما استدرَّ رحمةً، تجاوزتْ تقسيماتِ الزمن، وتعلّلت بابنها الوحيد- والدي رحمه الله- الذي أرادت أن تعلّمه، ويوميّا، كانت تمتطي حصانها- كعادة بنات العوائل-، وتردفه خلفها ليرتادَ المدرسةَ الأسقفيّة الكاثوليكيّة في البصّة، كبرى قرى فلسطين في الشمال بعد ترشيحا. وكانت، لأسباب بيّنة، تختصر بنًى اجتماعيّةً كاملةً بأهمِّ مقوّماتها بسؤالين: "شو بيته هذا"؟ "شو دينه هذا"؟ تعمُّدٌ أصبح حياديّا اليوم، وللبيت والدِّين أهميّة قصوى... ولا ننسى أنّها من جنوب لبنان. لم تفارقها نزعتها الطبقيّة الدّينيّة الإقطاعيّة يوما، وبها تعاملت مع النّاس، حتّى أقربهم إليها نسبا، وظلّت نبعا فيّاضا يغرقني بهذه الأرستوقراطيّة، وبأمثالها الخاصّة أو المحمولة من ضيعتها، ومن هذا:ومعناه: إن لم تكنْ قادرا على مهر واحتياجات الحرائر والكريمات فانقلع من طريقهن، وإيّاك أن تحلم بالزّواج منهنّ. وللحمرا المقصورة عن الحمراء معنيان في هذا السّياق: الأوّل: النّوق الحمراء، والزهر، أجمل النياق وأشرفها أصلا وفصلا، فيها العافية والخير والأصالة، ومن هذا، قول مهلهل بن ربيعة وهو يبكي كليبا بطل ربيعة والعرب:
كليبُ لا خيرَ في الدّنيا ومنَ فيها إنْ أنتَ خَلَّيْتَها في مَنْ يُخَلِّيها
...
القائدُ الخيلَ تُرْدِي في أعِنَّتِها زهوًا إذا الخيلُ بُحَّتْ في تَعَاديها

النّاحرُ الكُومَ** ما ينفكُّ يُطعمُها والواهبُ المئةَ الحمرا بِرَاعِيها
وتأكيدا على أصالة هذا النوع من الإبل الحمرِ والزّهرِ، نقرأ لكعب بن زهير معتذرا للرسول العربيّ الكريم:

يمشون مشيَ الجمالِ الزُّهرِ يعصِمُهُمْ
ضربٌ إذا عرّدَ السّود التّنابيلُ

أمّا المعنى الثّاني للحمرا، فهو من فصيح كلام العرب، فالمرأة الحمراء هي المرأة البيضاء، ويوضح لنا ثعلب صاحب المجالس: إنّ العربَ لا تقول رجل أبيض من بياض اللون، إنّما الأبيض عندهم النّقيّ من العيوب، فإذا أرادوا الأبيضَ منَ اللون قالوا الأحمر. ومن هذا قالوا: الحسنُ أحمر، ومنه نداء تصغير التحبّب لأم المؤمنين عائشة: " الحميراء" أي البيضاء.

أما العليق والعلائق والعليقة والعلاقة والعُلَقة والعلاق، فهي ما تراضى الأهل عليه من مهور، أو هي ما يتبلّغ به من الطعام... ها هو مثل يضجّ بالفصاحة المحفوظة على ألسنة النّاس، وكأنّهم مهلهلُ هذا العصر أو كعبُهُ، ولم يبق من المثل/ الحكمة إلاّ قلب القاف غينا في "بغدرش" ، وهي شائعة بين أهلنا، وهي من الكلمات النادرات الّتي تنقلب فيها القاف غينا، أما الشّين الكاسعة*** للكلمة، فهي من بقايا كلمة "شيء"، والتي وُظِّفت فيما بعد أداةً للنفي، قد تنضاف إليها أداةُ نفيٍ تصديريّة: ما بغدرش! لتوكيد النفي، أو لتعيدَ للشين وظيفتها الأساسيّة المجتزأة من شيء، وإمعانًا منّا في جعل الشين أداةً للنفي ما نقوله نحو: بعرفش إشي، والتي أصلها بعرف إشي إشي، ولكنّ المقصودَ هو النفيُ ليس إلاّ، وتُعرفُ هذه الظاهرة المتأتّية عن المزج بين الأسلوبين النقيضين بـ: " التّلويث الأسلوبيّ" أو "المزج الأسلوبيّ"، ويسمّيه الألسنيّون الغربيّون: contamination.

وأترك ستّي في غفوتها، لا أقضّ مضجعها، لأستحضرها مع أمثال أخرى.


تظلّ موضوعة السبونريّة، بانسيابيّتها التلقائيّة أو المتكلَّفة موضوعا محبّبا، وإن كستها التلقائيّة وقعًا أعمقَ وأبهى، وبلاغةً هي السّحرُ. عطفا على " النِّكْنِه والجَبْنِيكْ"، وعلى ما أتحفني به أخي الدّمث المدْنَف بالمجد والأسَل والعربيّة وإطلالة الصباح- ولن أشرح شيئا- حنّا النُّوْرْ- والّذي لهدوئه يلتقي في اسمه ساكنان- في الرواية العبلينيّة، وفي رواية أخرى حنا نور حاجّ، معقّبا مسندا القولَ إلى صاحبه: " حضورُكَ ضارٌّ وهموميٌّ"، - وحقيقةُ ضبطي للمقولة بالشّكل قتلتْ فيها تلقائيّتَها، وهذا بعض ما يميّز انسيابيّةَ المحكيّةِ عن الفصيحةِ الْمَقِيسةِ المدروسة المرعبة-... قال، مُؤَيْمِلاً لي ( يعني باعثلي E. Mail) مشيرا إلى جاره الأستاذ خفيف الظلّ يوسف موسى أبو غنيمة، والذي سأل زوجة شقيقِهِ حين عنّ لها أن تسأل أحدَ الأساتذة عن تحصيل ابنها الدراسيّ: "ليه، هو مصفّي ربُّه؟" أي مربّي صفُّه؟ وأضاف قولَ أحدِ أصحابِهِ عن الحليب: "تارِخْ خَلِيصُه"، أي خالِصْ تاريخُه. ويظهر يا حنّا يا أخي، أنّنا في عصر صفَّيْنا فيه ربَّنا، أو فلنقل "خلص تاريخه"، وأستغفر الله لكم ولي.
ولا نلتقي إلا بإذنه.

* تبهدلنا: دلالتها معروفة، وإن كان الفصحاء قد بهدلوها ووأدوها... وما عليهم إلا الجمع بين دلالات" بدل" الحامل للتغيّر والتقلّب، و" بهل" الحامل باللعنة، و "هدل" المثقلة بالاسترخاء والتدنّي، ليقفوا على إبداعنا العامّيّ، فهي نحتٌ منها جميعا، أو من الثّانية والثّالثة.

** الكُوم: المجموعة من الإبل من ذوات السّنام المكتنز، أو البعير ذو السّنام العظيم.

*** الكاسعة: ما يلصق بجذر الكلمة في آخره، ونقيضه اللصوق التّصديريّ، أي ما يلصق به في أوّله.


التعليقات