لن ينتهي هذا المشهد، الى جوليانو../ تيسيرخطيب

إلى جوليانو..

لن ينتهي هذا المشهد، الى جوليانو../ تيسيرخطيب

والآن، وصوتك لا يزال يهز جدران المسرح السوداء، وبعض الممثلين الشباب الهاربين الى زوايا المسرح، لعدم إتقانهم هذا الدور، تسمح بفسحة من الوقت لعلاج العضلات المنشدة من عرض يمزق الجسد لشظايا ويجمع قصص تحكي الحب والعشق، الخراب والشهادة، الفرح والأمل في جنازة شهيد تتحول لعرس يحكي طقوس يوميات فلسطينية، لتحكي القصة بكل تفاصيلها الصغيرة... الآن.. أراك تنهض من موتك لتعلن:

أنا لم أمت، ولكن التحول هو الحقيقة الوحيدة! والرصاصة وإن استقرت في الجسد، فالروح وحدها ستكفي لتخبرنا ان الحرية فكرة ورسالة، والرسائل لا تفنى ولا تموت.

هل كنا نعي يا جول أننا نحبك ونغمرك حبا أكثر من هذا اليوم؟ ولو كنا نعي ذلك فلماذا تركناك تتسلق وحدك هذا الجبل؟ وحدك كنت تصعد وكنا نخاف الصعود! وحدك كنت تصرخ في الأعالي، وكانت حناجرنا لا تقوى بعد على تسلق الأفكار العالية!

ومن مثلك يعلم الفارق ما بين مجموعتين: تسلحت أحداهما بصكوك إلهية وإستحواذ تام على دور الضحية في غرف الغاز، وآخر ما تفتقت عنه ذهنية الأبيض من ألآت الفتك البشري، فكان تزاوج لمركبات مشروع ما تم مثله في التاريخ، وبين مجموعة أخرى دافعت عن نفسها واحتمت بجذور الشجرة الخضراء العتيقة والتكامل شبه الكامل ما بين الفصول الأربعة ورائحة الزعتر في بلادها. ووحدك كنت القادر والممسك بطرفي هذا الصراع، فقد منحك هذا الزواج الفذ ما بين الضحية الأولى والضحية الثانية التي كانت جلادا قبل أن تلسعها شمس البلاد، وما بين المستعمَر والمستعمِر، وما بين الصليب وما بين من أعلي على الصليب، قبل أن تصرخ أمك أرنا لتتبرأ من أبيها ومن تاريخ والمستعمِر، وتعلن انفصالها كي تتحرر من وطأة الخرافة وتتحد مع صوت الإنسان فيها، فتكون أنت ثمرة من ثمرات هذا الاتحاد!

كنت تضحك بصوت مرتفع وتثير الشك في ذات اليهودي الذي يسألك: أأنت فلسطيني؟ وتعيد ترتيب العالم من جديد في نفس طفل فلسطيني يجلس مع أترابه بين ركام منزل أحد جيرانهم هدمته جرافة كاتيربيبلير أميركية الماركة، حين يشير إليك احدهم: هياتو اليهودي! فتؤدي لهم حركة بهلوانية تنتهي عند أعالي إصبعيك راسمة لهم شارة النصر، فيضحك رتل الأطفال الجالسين ويستوي وعيهم في لحظة عابرة.

يعود الممثلون الصغار من الفسحة، وهم يعلمون انك الآن وبعد فنجان قهوة أعدته روند، بعد أن غسلت أنت فناجين القهوة، لن تحل عن أكتافهم حتى يُضبط إيقاع الحركات في الصوت، والتعابير في رقصة الفتاة، فتعمل ويعملون، وتصرخ فيهم، وتمازحهم لتشد من ثقتهم في نفسهم حتى يعتلي القمر ظهر المخيم لتصرخ براحة: طيب، بنكمل بكرا.

والحركة فعل دائم مستمد ربما من ملل السكون، وأنت تكره السكون، فالسكون موت وقد قارعته في نظراتك وفي المظاهرات والكتابات والتحريض على مقاومة الموت في كل أشكاله: في رفض السلطة ورفض الاستعباد، في رفض القمع والسجون، في رفض كل ما يُكبل الإنسان في إنسانيته.

المشهد الأول:

أتلو جوليانو... أتلووو

الثورة في مصر لا زالت تحرر الملايين من الاستعباد! أنصاف الثوار في ليبيا يعدون بربيع حرية جديد! استشهاد المناضل والمخرج المسرحي جوليانو مير خميس! اغتيال المخرج الفلسطيني جوليانو خميس على بعد 200 متر من مسرح الحرية في مخيم جنين! جوليانو كان يقود سيارته وابنه "جي" ابن السنة معه في السيارة! تصلني مكالمة تنبأ عن مقتلك! تعلوا الجدران أعلى وأعلى، لا يسقط حجرا من أسوار الكراهية والعنصرية. لا لن أصدق مواقع الانترنت ولكن الرصاص أصدق أنباءً من الكتب! ابحث عن مهرب وأنا في عكا، أهاتف روند في جنين، صرختها كانت قاطعة وحادة: قتلوا جوليانو... ولك تيسير قتلووووه....! صمت.

على الطريق إلى حيفا، نحاول أن نعرف أينك؟ أين جوليانو؟ اختفت الجثة لساعات. ما من أحد يستطيع أن يدلنا على الجسد الضائع ما بين معابر وحواجز الاحتلال! حياة جوليانو كانت دراما مستمرة، اختفاء الجثة لساعات بدا وكأنه جزء من هذه الدراما، أو بلغة الأدب عقدة صارت تبحث عن حل. لو لم أكن على يقين من موتك لكان من الطبيعي ان أقول انك أنت "جول" هو من دبر بطريقة جهنمية طريقة اختفاء الجسد، فالحياة على المسرح كانت تتصاعد وفقا لتصاعد الدمار الهائل من حولنا والخراب في أنفسنا.

في مسرح الميدان في حيفا تُشعَل الشموع. الساعات الأولى لانكسار الضوء والحركة. أشباح تمر من هنا وهناك في داخل المسرح، وما من شيء يدل على بشريتها سوى بكائها وأنينها. يجتمع لاحقا أفراد في إحدى الغرف في المسرح ليدور نقاش حول أحقية من في تمثيل فقيدنا، بطلنا، وشهيدنا! كنا هناك، في تلك الغرفة. أنت، ونصف أناي، وما تبقى من أناتهم وأحزابهم وكُتابهم ومُمثليهم ومُهرجيهم ومُغنياتهم ولجانهم. أنت ترفرف وتحلق في الغرفة، تهبط وكأنك لا زلت تمشي على قدميك، تمسك بهذا وتشير الى ذلك وتهزأ من تلك وتستفز أولئك وتمسح على صلعة تلمع، وانا أقف مع أولئك الأرضيين في إحدى الزوايا في الخلف وبصمت كعادتي، أراقب المشهد الذي يتبلور: نريد جنازة حضارية! سنهيأ وننظم كل أساليب الوداع الحضاري! سيعلم العالم كم نحن حضاريون! سيكون الموكب صامتا للتعبير عن ألمنا وتعاملنا الراقي مع المصيبة!

أفكر في نفسي وفي استعمار لا زال يسكننا، ولا زلنا نبحث عن إثبات واحد لنستحق أن نكون من الشعوب التي يُعترف بها ولها. وأما أنت، أراك تتحضر للهجوم بسخرية على حبنا لك وخوف الجميع من أن يكون شيئا ما قد أفلت من يدهم. يبدأ لسانك بالاستعداد، تقترب مني فأهرب منك، تستمع إليهم وتراقبهم وتهزأ من كيفية تقاسمهم الجسد سياسيًا. من سيقف على منصة كنت أنت أطول قامة منها ليرثي فقيد هذا الحزب، ويجعلوك ابن ذلك الحزب فتضحك بصوت مرتفع وتقول: "عربا وستبقوا عربا... ها.. ها.. لنضع حدا للمسألة: الكف والأصابع لهذا الحزب، اليد اليمنى لليسار، الرجل اليسرى لليمين، وللوسط أعطي أصابع قدماي لمن يعرف الرقص على الحبل، اما قامتي والعيون ليست لكم، ولكن لي وللشهداء من بعدي".

تقهقه ضاحكا وتغادر الغرفة وأبقى أنا مع ضوضاءهم ومراسيم الجنازة.

 المشهد الثاني:

مطر كثير.. السماء تبكي

في اليوم الثاني.. في مسرح الميدان مرة أخرى. تلتقي السماء بالأرض في بقعة في الكرمل، المطر الكثيف أختزل المسافة الفاصلة بين الغزالة والصقر. يظهر الممثلون، مصممي الديكور وتقنيي الإضاءة، ومعدي الجنازة، لكل دوره المعد بإتقان وترتيب. يتوافد الجمهور المرتبك الحزين والمحبين، يهطل مطر، يغرق شوارع حيفا، الستائر تُعد لاستقبالك لآخر مرة، ودرجات المسرح لتعتليها على أكتاف الممثلين لا قدميك. صورك توضع في كل مكان، والشموع وبعض الزهور، ومطر غزير.

المشهد الثالث:

اليوم الأخير. اليوم ستختبر مدى قدرتنا على إتقان أدوارنا في حبك. يبدأ المشهد. كل شيء معد بإتقان، ومثلما تحب ان يكون يوم وداعك. يُدخلك الرفاق محمولا على الأكتاف على خشبة المسرح. يوضع النعش/ العرش في وسط المسرح، بدقة السنتيمتر الواحد. يصطف الممثلون الأربع في زوايا المسرح الأربع. الضوء مسلط على وسط المسرح والإضاءة جيدة. الموسيقى تلائم الحالة النفسية، عزف جنائزي كلاسيكي، باقات ورود وبعض العاشقات يختلسن لمسك في وداع سريع قبل أن يلحظ الجمهور ارتباكهن على الخشبة. يصعد الجمهور ليتحول الى ممثلين في لحظة لم تتسن إلا لك لتصبح التراجيديا أعمق وأكثر إيلاما: يودعونك فرداً فردا بلمسة، كلمة، قبلة، أو دمعة على ما كان سوف يكون لو لم نقتل الشعراء والرؤيا فينا. لا وجود للعذراء هنا، ولكن المحامي جيراردو سيحاول إقناع زوجته المغتصبة أن تنسى وتغفر لمغتصبها الطبيب في تشيلي الدكتاتورية، قبل أن تطلق الرصاص عليه. على منصة المسرح الآن هناك فقط موت يا جوليانو. ينتهي الوداع الفردي ليحملك الرفاق ويطوفوا بك شوارع ما تبقى من عروبة حيفا، وبصمت تام تمشي جنازتك والنعش والورود. قبل أن توضع في السيارة، يعلو التصفيق لك، كما أردت أو أحببت. 

حيفا – جنين - صبارين

تسير القافلة لتلتقي بطلابك ومريديك للمرة الأخيرة في ال 67 بعد ان تقطع ال 48، هل نسينا رقما آخر؟ ستعبر كما يعبر نصف الفلسطينيون في موتهم من بلد الى آخر ومن مطار الى منفى، ومن جنازة الى أخرى، وستعبر من بلفور الى الزمن الذي توقف فينا، الى الهزيمة النكسة، وتلقي برفضك لأوسلو مرورا باللحظة الدايتونية الراهنة وسخرية التاريخ من ضحايا صاروا حراسا لجلاديهم! يعبر نعشك بقرب جندي روسي ليختبر إنسانية الاحتلال الذي سيسمح لنا اليوم بالدخول عبر الحاجز الى جنين ليودعك من أحبك. يجهز الجنود الماء وبعض المسعفين للسائرين على خُطاك، فقد يطلق احد ممن أحببتهم قبلة من خلف الحاجز فتصيب دورية احتلالية ببعض الأنسنة، فينهار الحاجز ويصبحون كما نحن بشرا سويا. هناك يودعك الطرف الآخر بطريقته ويسمونك وبحناجر تصدح: بالشهيد. يرفعونك كما لو كنت بعد العرض الأول لإحدى مسرحياتك. هنا لا سلطة لمنظمي الجنازة على جسدك ولا على الأجساد التي حملتك. يبدأ الهتاف العالي ضد المحتل والمستعمر. هنا جنازة شهيد عادية، عفوية، مستعجلة وهتاف.

يعود بك المشيعون مرة أخرى وأخيرة باتجاه حيفا. كم مرة عبرت هذا الطريق في التسع سنوات الماضية يا جوليانو؟ في منتصف الطريق تقع قريتك الجديدة، بيت لمنفيين لا زالوا يذكرون اسم ينابيع الماء، حتى وإن تغيرت المعالم في هذه القرية، فالطريق إليها يحفظها عن قلب كل من أخرجهم التاريخ من الجغرافيا وبيوتهم، ولو لم تسرق الرواية المغتصبة من الرواية المغتصبة اسم الصبار، لظلت حتى شمس هذا اليوم تسمى: صبارين! لا صبارين في صبارين. هنا يقطن أحفاد الجنود الذين جاؤوا من بلاد بعيدة. وهنا أمك. سنسلمك لها ليطمئن قلبها ويهدأ حنينها. يضعك جيرانك وأحبابك في الحفرة المعدة سلفا. يؤبنك من يؤبنك. وتؤبنك ضحية من ضحايا المشروع في وطننا، صديقة لك: انا ابنة لعائلة يهودية هاجرت من بلاد العرب لتأخذ مكانا ليس لها. ما أكثر الضحايا من حولك يا صديقي! لو لم يكن الاحتلال، لم تكن أنت ضحية ايضا!

ميلاي يا ميلاي. أيتها الصغيرة الجميلة، من أين لك كل هذه الصلابة حين تقفين أمام قبر أبيك لتقولي لنا: "لا تبكوا... جول كان يحبنا كلنا وكان يحبني كتير ودايما يوخدني معو وبيعلمني اشياء كتيرة. انتو مش لازم تبكو ولازم نكمل مع بعض كل شي عملو جول"

ميلاي يا ميلاي.

 مشهد لم يكتب بعد:

عمو جوليانو

كيف تشرح لطفلة في الثالثة سر غيابك؟

قبل يومين حاولت لانا أن تشرح لابنتنا الصغيرة، يسرى، ابنة الثلاثة أعوام انك انتقلت للعيش في السماء، حين رأتها تبكي.

واليوم سألت الطفلة أمها ونحن نقف على قبرك، لماذا تبكي، فأخبرتها انك ترقد هنا. يلعب الطفلان حول تلة الزهور الصغيرة على قبرك وينادون باسمك. عمو جوليانو... عمو جوليانو ... ثم ينحنون فوق تلة الورود الصغيرة ليهمسوا لك ويودعونك، ويلوحون لك بأيديهم ببساطة: باي عمو جوليانو.

حين وصلنا جنين وفي مسرحك، مسرح الحرية، سألت الأم طفلتنا وهي تداعبها: وين راح عمو جوليانو؟ فأجابتها بلا مقدمات وبدون بلاغتنا التافهة نحن الكبار في الأحداث الجليلة: عمو جوليانو... تخبا تحت الوردات!

 

                                                                                          عكا

التعليقات