لطلاب المرحلة الثانوية: "الناس" وقنديل أم هاشم".. / حنا نور الحاج

جولة في نص أدبي وزيت "قنديل أم هاشم"

لطلاب المرحلة الثانوية:

زيت "قنديل أمّ هاشم" في عجالة

[خلال تجهّز طلبتنا في ثانويّة مار الياس في عبلّين لامتحان الدبلوم في اللغة العربيّة في الشهر الفائت، تواصلتُ مع بعضهم عبر "الفيسبوك" في شأن الامتحان. أحد الطلبة الأعزّاء استصرخني قائلاً: يا أستاذ، لقد اختلط الأمر عليّ؛ هل إسماعيل في معالجته الأخيرة الناجحة لعيني فاطمة النبويّة قد استخدم الزيت حقًّا؟

عبر موقع التواصل الاجتماعيّ نفسه قدّمت إليه وإلى زملائه إجابة أودّ هنا أن أعرضها على الطلبة، وهم على عتبة التقدّم إلى امتحان البجروت، متمنّيًا لهم التوفّق دومًا]

 

إسماعيل لم يستغنِ عن علمه/ طبّه في معالجة فاطمة. ما فعله هو أنّه استخدم بعض الزيت خلال تقديم العلاج الطبّيّ. لم يستخدم الزيتَ بديلاً للطبّ، بل استخدمه رديفًا مُسانِدًا.

كان إسماعيل قد ثار على القنديل وحاول تحطيمه، وقبل ذلك طوَّحَ بزجاجة الزيت المقدّس الذي حاولت به أمّه أن تعالج فاطمة. في المستوى الرمزيّ، هذا السلوك يمثّل رفضًا حادًّا أو ثورة أو تمرّدًا على التراث (الدين والموروث والمعتقدات الشعبيّة وغيرها من عناصر الحضارة المصريّة/ العربيّة/ الشرقيّة) قام به بعض مثقّفي الشرق الذين ظنّوا أنّ العِلم لوحده هو الكفيل بتحقيق التقدّم لأوطانهم. مثل هذا التمرّد العاتي الحادّ المتعالي لم يحقّق المُراد، بل ولّد خرابًا روحيًّا، وأخفق في تحقيق مبتغاه: النهوض بالأوطان تقدُّمًا.

ما فعله إسماعيل قد يراه البعض خداعًا أو تلفيقًا، لكنّه كان جزءًا حاسمًا في العلاج. حين تعالى على ما تؤمن به فاطمة فقدتْ إيمانها به وثقتها، فازداد وضعها سوءًا. حين استخدَم بعضَ الزيت كسب ودّها وثقتها واستعاد إيمانها بقدراته، فتمكّن من تحقيق الشفاء. إيمان المعالَج بالمعالِج وثقته به وارتياحه له أمور ضروريّة لتحقيق الشفاء، وكذلك من الضروريّ في بعض الأحيان أن يقدَّم الدواء دون طعم المرارة، كما هو الحال في أدوية الأطفال، حيث يضاف إليها بعض الموادّ الحلوة المذاق كي يَسهل ابتلاعها، كي لا يرفضها الطفل المعالَج.

-----------------------------

جـولـة فـي نـصّ أدبـيّ

(المادّة مقدَّمة إلى طلبة المرحلة الثانويّة)

 

قصّة "الـنـاس" - يـوسـف إدريـس

 

الـعـنـوان:

          عنوان القصّة شديد الإيجاز (إذ هو مكوَّن من مفردة واحدة فقط)، يلائم الإيجاز الملاحَظ في عدد صفحات القصّة نفسها، وقد يصحّ اعتباره اختزالاً أو إشارة لما يبتغي الكاتب تصويره أو طرحه عبْرَ هذا العمل الأدبيّ. ونقصد بهذا أنّ الكاتب يرمي إلى تصوير حالة مجتمَعيّة عامّة، وأنّه -كما هو الشأن في الحياة والواقع- أهمّ ما في القصّة هو الناس. من هنا يميل البعض إلى اعتبار الناس بطلاً لهذه القصّة (الناس لا الشجرة، ولا ابن الصرّاف، ولا الراوي، ولا الشبّان المثقّفين).

 

الـرمـزيّـة لـتـصـويـر واقـع:    

تكتسب هذه القصّة أهمّيّتها ومعناها من رمزيّتها؛ فشجرة الطرفة والقطرة الطبّيّة كلتاهما رمزان. الشجرة رمز للمفاهيم القديمة، أو للعادات والتقاليد الشرقيّة، أو للحضارة الشرقيّة بعامّة؛ أمّا القطرة الطبّيّة فرمز للعلم أو للمفاهيم الحديثة، أو للحضارة الغربيّة الأوروبيّة بعامّة.

بعض التفاصيل التي يوردها الكاتب تدعّم هذه الرمزيّة. على سبيل المثال، يقول الكاتب في وصفه شجرة الطرفة تلك: ..."ولا تعرف ربيعًا أو خريفًا فهي تورق على الدوام، ولا تعرف ضعفًا ولا قوّة، فهي لا تنمو ولا تصغر، ولم يزد حجمها أو ينقص طَوال أجيال". في هذا الكلام الوصفيّ إشارات إلى ما يتّصف به الرامز والمرموز إليه؛ فالحضارة الشرقيّة تصوَّر هنا -عبر وصف شجرة الطرفة- حالةً من الثبات والجمود، حالةً من انعدام التطوّر. هذا ما يوحي به الإيراق الدائمُ وانعدامُ ازدياد الحجم وانعدامُ نقصانه. في موضع آخر يقول الكاتب: "ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزليّة، تحفّ بها القداسة وتكتنفها الأسرار، فكنّا نخاف منها ونرهبها". يرتبط هذا الكلام بما يُؤخَذ على الشرقيّين مِن تعامُل مع العادات والتقاليد تعاملاً تقديسيًّا (يماثل الموقفَ المعروف الشائع من الدين -حيث لا اعتراض ولا مناقَشة ولا استئناف، بل ثمّة قبول وتسليم)، تعاملاً يُفضي بالتالي إلى "تصنيم" الموجود والرضا به والرضوخ له. هكذا تتحوّل العادات والتقاليد -التي هي نتاج بشريّ- من مخلوق إلى خالق، إلى متحكِّم لا اعتراض على مضمونه. ومن هنا يأتي الوعي الذي يختزنه أبناء الشريحة المثقَّفة ليستأنف أو يعترض على الواقع القائم الثابت، بحثًا عن وسائل تنهض بمجتمعهم من التأخّر نحو التقدّم.

          في البداية، كان موقف المثقّفين من الإيمان بقدرات شجرة الطرفة وقداستها موقفًا رفضيًّا. رفضوا هذا بعد أن اكتسبوا العلْم، وذلك أنّ العلْم بالأشياء والكشف عن غوامضها يزيلان ما يضفيه الإنسان على ما يجهله من هالات القداسة (فالإنسان مستعبَد للمجهول)، والمعرفة هي الوسيلة لتحطيم أوثان المجهولات.

كان أوّل مَن تجرّأ من بينهم فجاهَرَ بالرفض ابن الصرّاف. ومن الملاحَظ أنّ الكاتب لا يُظهِر أيًّا من شخصيّات هذه القصّة على نحوٍ مفردٍ مستقلّ قائم بذاته، إلاّ شخصيّة ابن الصرّاف الذي -على ما يبدو- خَصَّهُ الكاتبُ بهذا الظهور المنفرد المستقلّ ليشير بذلك إلى كونه شخصيّة متفرّدة رياديّة قياديّة مبادِرة (وهو ما تشير إليه أحداث القصّة وسلوك هذه الشخصيّة ودورها المهمّ).

          وسرعان ما تحوّل الرفض إلى حالة علنيّة جماعيّة لدى الشبّان المثقّفين أولئك، فبدأوا بالقيام بحملات توعية لأهل قريتهم، محاولين إقناعهم بأنّ الاعتماد على أوراق الطرفة في معالجة أمراض العين (وفي هذا الاختيار للمرض على وجه الخصوص والتحديد ما يرمز أو يشير إلى أمراض البصيرة والتبصّر أكثر ممّا هو إشارة إلى مرض في البصر)، أنّ هذا الاعتماد ينطوي على تخلّف يحمل مَضارَّ حقيقيّة. تحوّلَ الرفض إلى حماسة وفعل تنويريّ تثويريّ، من خلاله أدّى المثقَّفون دَوْرَ مثقِّفين يدْعون إلى نبذ معتقَدات الأهالي (فهم يرونها معتقدات بالية متخلّفة يزيد تمسُّكُ الأهالي بها من تخلّفهم)، وإلى تبنّي عناصر الحضارة المعاصِرة ليعيش الناس عصرهم بمفاهيم عصريّة وأساليب عصريّة.

          وإزاء صعوبة إحداث التغيير لدى الأهالي، يشعر الشبّان المثقَّفون بالعجز واليأس من إمكانيّة التأثير والتثوير والتغيير نحو الأفضل (من وجهة نظرهم)، يغدو موقفهم هروبيًّا مستسلمًا. لكن في نهاية القصّة، يتّخذون موقفًا توفيقيًّا، وذلك في أعقاب ما تكشّف عنه تحليل أوراق الطرفة مَخبريًّا، إذ ثبتَ أنّ الموروث الشرقيّ وعناصر الحضارة المعاصرة (وهي ذات سِمات علميّة وغربيّة جليّة) ليسا على طرفَيْ نقيض. هذا ما يرمز إليه اكتشاف ابن الصرّاف الذي لم يتخلَّ عمّا يتّصف به من رياديّة وعناد، وأبى التسليمَ بالهزيمة رغم ما اعتراه من يأس كسائر أصحابه المتعلّمين. اكتشف بالبحث والتحليل أنّ في أوراق الطرفة بعضًا من مادّة هي نفسها تشكّل بعضًا من تركيبة قطرة العيون الطبّيّة ("وفوجئنا حين أثبت التحليل أنّ في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي تُصْنع منها القطرة"). ذاك الاكتشاف مَدلولُهُ الرمزيُّ أنّ في الحضارة الشرقيّة (التي تراها بعض الفئات المتطرّفة من المتعلّمين تخلّفًا وجهلاً) عناصر إيجابيّة غير ضارّة، بل مفيدة، وبالتالي فمن غير الصحيح ولا من المنصف النظر إلى الحضارتين بمنظار الأبيض والأسود (المنظار الذي ملخَّصُهُ: الشرق جهلٌ وتخلُّف؛ الغرب علْمٌ وتقدُّم). من المنصف الأخذ في الاعتبار أنّ لكلّ حضارة خصوصيّتها، وأنّ التقدّم لا يتأتّى للشرقيّين بانسلاخهم عن كلّ عناصر حضارتهم، وبتبنِّيهم لكلّ ما هو غربيّ غريب عنهم.

         

الـتـكـثـيـف:

وهو من سِمات القصّة القصيرة بعامّة، حيث التفاصيل الوفيرة والجانبيّات شبه مهمَلة، وحيث الاهتمام ينصبّ -أكثر ما ينصبّ- في المركزيّ. وَ "الناس" قصّة قصيرة تتناول تحوّلاً عامًّا في الفكر والموقف استغرق حدوثه سنوات عديدة؛ ولذا يعمد الكاتب -في معظم فقرات القصّة- إلى التكثيف البارز.

القصّة القصيرة، في المعتاد، تعالج موقفًا أو جانبًا من جوانب الحياة، وتتركّز فيه مسلِّطةً الكثير من الأضواء عليه لإبرازه وكشفه وتحليله، لا تعالج سيرةَ حياة كاملة، مثلاً، أو مجموعةً كبيرة من المواقف أو الجوانب الحياتيّة، كما هو الأمر في الرواية. لذا، نجد التفاصيل في هذا اللون الأدبيّ القصصيّ قليلة (قياسًا إلى الرواية؛ ففي الرواية المجالُ أو الطولُ يتيح الخوضَ في التفاصيل بيُسْرٍ وعلى نحوٍ فنّيّ مقْنِع). فالقصّة القصيرة، عامّةً، ذات إطار قصصيّ ضيّق وإطار زمنيّ ضيّق. أمّا هنا -في "الناس"-، فالإطار الزمنيّ للأحداث واسع يمتدّ على سنوات غير قليلة، أمّا الإطار القصصيّ فضيّق، ولذا نجد الكاتب يلجأ إلى التكثيف، مستغنيًا عن الحذافير، وعن وصف الشخصيّات أو الإطالة في هذا الوصف، وعن إقامة حوارات طويلة وكثيرة.

 

لـغـة الـقـصّـة:

          تتّسم لغة هذه القصّة بالبساطة واقترابها أحيانًا من اللغة المحكيّة المحلّيّة (المصريّة). وبساطة اللغة من أبرز خصائص أسلوب يوسف إدريس القصصيّ. هذا صحيح على وجه العموم أو التعميم؛ لكن يلاحَظ أنّه وردت بعض المفردات والتعابير (في السرد وفي الحوار) من فئة الفصيحة الرفيعة، نحو: "قميئة"؛ "وَهَن"؛ "يغالي"؛ "لا ضَيْرَ عليكم"؛ "أن يثنيه عن عزمه"...

في بعض السرد يبدو أثر المحكيّة المصريّة. على سبيل المثال، في قول الكاتب "يحمدون الله على وجودها في بلدنا دون سواها"، يظهر تأثير تلك المحكيّة حين يؤنّث كلمة هي مذكّرة في العربيّة الفصيحة ("بَلَد")، وحين يصف ورق الطرفة بأنّه "رفيع" (والصواب: دقيق؛ فالرفيع هو السامي المرتفع). ويظهر كذلك في استخدامه كلمة "البنادر" (قاصدًا بها المدن -وفي الفصيحة يُقصَد بها المدن البحريّة على وجه التحديد)، وفي قوله "الكلّ يؤمن بها. الكبير والصغير، والفقير وصاحب القرشين"، ففي التعابير الفصيحة، من المألوف والشائع أن يقال: "الجميع يؤمنون بها". أمّا "صاحب القرشين" فهو التعبير المحكيّ الذي به يُكنّى عن المقتدر مادّيًّا أو عمّن ليس محتاجًا. وفي نهاية القصّة موضع آخر يبدو فيه هذا الأثر حين يقول: "ونحن مذهولين"، غيرَ مُراعٍ أو عابئ بكون الكلمة الثانية خبرًا لمبتدأ وبكونها من جمع المذكّر السالم، فيسوقها كما تُلفظ في المحكيّة بياء لا بواو. بل إنّ الكاتب هنا يختار إيراد هذه الكلمة بصيغة اسم مفعول رغم أنّ الصواب أن تكون بصيغة اسم الفاعل (فالصواب، إذًا، أن يقال بالفصيحة الصحيحة المعياريّة: ونحن ذاهلون).

واستخدام إدريس للمفردات العامّيّة في السرد لا ينبع (في رأي الأستاذ البروفيسور ساسون سوميخ) من عجز الكاتب عن استحضار بديل تقريبـيّ ليحلّ محلّها، بل إنّ الكاتب يفضّل المفردة الحياتيّة الأصليّة لِما تحويه هذه من ظلال المعاني ولِما تعكسه من أجواء محلّيّة، ولأنّ هذه المفردات تخلق جوًّا من الألفة بين القارئ والنصّ، ولأنّها تقترب بالقارئ من نفسيّة الشخصيّات ومن حَيَواتهم الداخليّة.

وفي السرد ثمّة ما يشابه محاولة خلق حوار أحيانًا يضفي على النصّ ديناميّة وإثارة وجذب انتباه واهتمام لدى القارئ، كالذي نلحظه في ما يلي: "وأغرب ما في الأمر أنّ الشفاء كان يحلّ فعلاً. صحيح أنّه في أحيان كثيرة لم يكن يحلّ الشفاء. أحيانًا كان يتضاعف المرض وأحيانًا نادرة كان يحلّ العمى أو العَوَر"... فهنا، إضافة إلى ما في هذا السياق من تناقض يبلغ حدّ الفكاهة أو السخرية (إذ إنّ مضمون العبارة الثانية ينسف مضمون الأولى)، تأتي كلمة "صحيح" أشبه باستدراك أو ردٍّ على سؤال خفيّ يطرحه مُحاوِرٌ افتراضيٌّ في الإمكان صياغته على النحو التالي: هل ما تقوله صحيح أو مؤكَّد؟ هل أنت متيقّن حقًّا من أنّ الشفاء كان يحلّ فعلاً؟

أمّا في الحوار، فيستخدم إدريس مستويين لغويّين: واحدًا للشبّان المثقّفين، وآخر للقرويّين الأمّيّين:

- كلام الأهالي بالمحكيّة المصريّة ("كلام حلو يا أخي. كلام مضبوط"؛ "لا مؤاخذه يا فندي انت وهو. أصلنا جهلة. والجاهل أعمى. والعتب عالنظر"؛ "جالكوا كلامنا؟!"؛ "سيبك يا شيخ. القطرة برضك أنضف")؛

- كلام المثقّفين بالفصيحة ("يا أهالي، الطرفة تُعمي كلّ ذي عينين"؛ "يا اخوانّا الحكومة فتحت مستشفيات، عليكم بها ودعوا الطرفة"؛ "إلى الجهاد من جديد"؛ "لا ضير عليكم من استعمال الطرفة، ففي أوراقها قطرة"). وتوخّيًا للدقّة، نشير إلى أنّ العبارة الثانية ("يا اخوانّا الحكومة فتحت مستشفيات، عليكم بها ودعوا الطرفة") مطعَّمة بقليل من المحكيّة أو بروح المحكيّة؛ إذ يقول "يا اخوانّا" -كما في المحكيّة المصريّة تمامًا- قاصدًا "يا إخواننا"، ويقول "فتحت مستشفيات" على غرار ما في تلك المحكيّة (والمعهود في الفصيحة القول: افتتحت مستشفيات).

          يمكن أن يفسَّر هذا الاستخدام الثنائيّ للّغة في جُمل الحوار بأنّه ربّما كان محاوَلةً لخلق تلاؤُم بين المستوى الثقافيّ والتعبير اللغويّ لدى الشخصيّات، أو -كما يرى الباحث الأستاذ البروفيسور سوميخ- "ربّما كان كلام الشبّان ليس نقلاً مباشرًا، إنّما هو أشبه بتلخيص أو ترجمة، إذ إنّ الراوي، وهو أحد هؤلاء الشبّان، لا يبدو مهتمًّا بنقل كلامه وكلام أبناء جيله، بل ينصبّ اهتمامه على نقل أقوال القرويّين".

 

قـصّـة فـكـرة:

          قصّة يوسف إدريس هذه هي "قصّة فكرة". ليست قصّةَ شخصيّةٍ ولا قصّةَ حدثٍ. اهتمام الكاتب مُـنْصبٌّ في موضوع أو فكرة ألحّت عليه فشاء أن يعبّر عنها بقالب قصصيّ ضيّق قصير. أبرز ما في هذه القصّة هو الموضوع أو الفكرة، لا الشخصيّة ولا الحدث، ولا الموقف أو المشهد ولا جملةٌ أو مقولةٌ ما وردت على لسان الراوي أو على لسان إحدى الشخصيّات. من هنا جاءت الأحداث متسارعة، واللغة مقتصِدة، والحوارات قصيرة قليلة، والشخصيّات غير واضحة المعالم خالية من التحديد، إذ هي شخصيّات جماعيّة: الناس (الأهالي)، وَ "نحن" (مجموعة الشبّان المثقّفين). الاستثناء الوحيد -إلى حدّ ما- هنا هو ابن الصرّاف الذي جعله الكاتب دون اسم، ووصفه من الخارج والداخل بكلام قليل. لم يذكر اسمه، واكتفى بأنْ أشار إلى مهنة والده الصيرفيّ. وربّما كان مَرَدّ ذلك إلى رغبة الكاتب في خلق تناسب بين الأمور، بحيث يكون مَن يجتمع في شخصيّته الانتساب إلى الشرق (ولادةً)، وإلى الغرب (ثقافةً وعلْمًا)، ابنًا لمن يعمل في الصيرفة حيث يجري التعامل مع النقود المحلّيّة وغير المحلّيّة، الشرقيّة والغربيّة. وحين وصفه الكاتب وصفًا خارجيًّا، نسب إليه صفات يمكن الافتراض أنّها تتوافق مع دَوْرِهِ الطلائعيّ الثوريّ، فهو -على حدّ وصف الكاتب له- كان "نحيفًا عصبيًّا عنيدًا". والعصبيّة والعناد صفتان لا تُناقضان الطبع الثوريّ، بل إنّ النحافة نفسها تتّفق مع العصبيّة.

 

زاويـة الإشـراف:

الراوي في هذه القصّة لا يبدو عليمًا بكلّ شيء. الإشراف جزئيّ. ويمكن الافتراض أنّ هذه الجزئيّة تتناسب مع كون الراوي إحدى شخصيّات القصّة، وليس الكاتبَ نفسه بالضرورة. إذ ليس من المقْنع -على الصعيد الفنّيّ- أن تكون إحدى الشخصيّات القصصيّة عالِمة مُلِمّة بكلّ صغيرة وكبيرة، خارجيّة وداخليّة -في ما يتعلّق بالشخصيّات الأخرى-. هذا الاختيار لزاوية السرد (أو الإشراف) حدّد للقارئ -سلفًا- أن يتعرّف على الأحداث من وجهة ورؤية الفئة التي ينتسب إليها الراوي: فئة الشبّان المثقّفين. ومن هنا فهو يرى سلوك الأهالي بـِ "عيونٍ مثقَّفة".

 

إضـاءة مـن كـتـاب:

يقول سيّد حامد النسّاج في كتابه "اتّجاهات القصّة المصريّة القصيرة" (القاهرة، 1988، ط2):

          "تؤكّد قصّة "الناس" فكرة الكاتب عن "الجماعة" وعالَمِها الذي حفلَ به عالَم يوسف إدريس الفنّيّ، وكيف أنّ الجماعة تفعل، وتتغيّر، وتتحوّل، وَفق ما تراه مناسبًا لها وضروريًّا بالنسبة لمصلحتها ومصيرها. وأنّها ترفض على الدوام أيّ إملاء أو أيّة شروط مهما كانت. فقد رفضت "الجماعة" بادئَ ذي بدءٍ أن تتقبّل رأي الشباب المثقّف"... (ص 302)

          ... "الجماعة كقوّة لها خطرها وثقلها وتأثيرها. هي التي تحدّد -وفي الوقت المناسب- ما ترغب فيه وما ترغب عنه؛ ما تُقْبِل عليه، وما تبتعد عنه. وذلك بعد اختيارها هي، وإدراكها هي، وتجربتها هي. كما أنّها لا تتقهقر ولا تعود إلى الوراء. فهي إذا ما حدّدت شيئًا ارتضَتْهُ، وتقدّمت نحوه إلى الأمام، قلّما ترجع إلى الخلف، ونادرًا ما تتحوّل عن طريقها الجديد المتطوّر. وهي في ذلك ترفض أيّ إملاء يأتيها من الخارج، أو أيّ تغيير يكون مفروضًا عليها وليس نابعًا من داخلها. وهكذا نجد انشغال عالَم يوسف إدريس في قصصه القصيرة بالجماعة، ممّا يدلّ على إيمانه القويّ بها، ولكنّه إيمان فيه تقديس وتسليم ورهبة". (ص 303)

 

التعليقات