كتاب "حياة الميدان" للمصوّر عادل واسيلي: الصورة فاعلًا ثوريًّا ومغيرًا معرفيًّا / د. مليحة مسلماني

تكمن قوة الكتاب أيضًا في زاوية النظر التي اختارها الفنان، في ذهابه للإنساني والعادي والبسيط في ميدان التحرير، لكنه غير عادي سياقًا حياتيًّا ثوريًّا جديدًا يفرض حضوره في مصر.

كتاب

وسواء كانت الصورة موحشة أو مخففة عن النفس، أو كانت مدهشة أو فاتنة، أو كانت يدوية أو آلية، ثابتة أو متحركة، بالأبيض والأسود أو بالألوان، صامتة أو ناطقة، فإنها تمارس الفعل وتحثّ على ردّ الفعل، وهو الشيء الأكيد منذ عشرات آلاف السنين.

ريجيس دوبري، "حياة الصورة وموتها"

 

لا شك أن أهمية الدور الذي تلعبه الصورة، أيًا كانت من الأصناف التي يذكرها دوبري أعلاه، يأخذ في التعاظم في ظل الثورات العربية الراهنة، إلى درجة أن الأنظمة التي نادت الشعوب بإسقاطها، اضطرت في كثير من الأحيان إلى حجب مواقع على الإنترنت، مثل "اليوتيوب" و"الفيس بوك" وغيرها، لما تحدثه الصور والفيديوهات المنتشرة عليها من تأثير واتساع في دائرة الغضب ورد الفعل. ولاشك أيضًا أن التأثير الأكثر اتساعًا يبقى للصورة الصحفية والفيديو، اللذين يقوم بتصويرهما عادة أحد المارة، أو المشاركين في الأحداث، أو المتخفّين على أحد أسطح العمارات، ليوثق سريعًا مشهدًا من مشاهد التنكيل والقتل التي شهدتها بعض البلدان العربية منذ أوائل عام 2011، وما زالت حاصلة. إن كلًّا من الصورة الصحفية والفيديو يهدفان بالدرجة الأولى إلى نشر الحدث كما هو، ودون زيادة أو نقصان، إن الهدف يظل نقل الحقيقة كما هي.

قلّما تفتح الصورة الصحفية أو الواقعية مجالًا للتأويل أو التخيّل، فهي تتمحور حول موضوع محدد، التُقط سريعًا ليوثق اللحظة وينقلها، وهي تمارس دورها في فضاء سياسي محدد، وتثير رد فعل سياسي بطبيعة الحال. يذكر في هذا السياق أمثلة كثيرة، كان أبرزها الصورة المشهورة لمشهد ضرب فتاة في ميدان التحرير ونزع ملابسها، والتي أحدثت ردود فعل غاضبة عالمية، وعربية، ومحلية مصرية، بل وأحدثت تغييرات ملموسة في مسار الثورة المصرية وفي خريطة العلاقات بين الأطراف المتنازعة على الساحة المصرية. صورة الفتاة هذه غير قابلة للتأويل، فهي قاسية وصادمة، وواضحة ومباشرة، لدرجة عدم قبولها لسبر غور المعنى، إنها تعني ببساطة: فتاة يتم ضربها وتعريتها على أيدي أفراد من الجيش المصري.  

غير أن الصورة الصحفية، ورغم قسوتها وسعة انتشارها وضخامة تأثيرها على الصعيد السياسي، إلا أن تأثيرها في العقل الثقافي والمعرفي للفرد والمجتمع يبقى محدودًا، فهي لا تهدف إلى إحداث تغيير في الثقافة بقدر ما تسعى إلى إحداث رد فعل، آنيّ وسريع ومباشر، على المشهد المصوّر. وأيضًا، فإن الثقافة صيرورة تاريخية تتم مراكمتها والتغيير والحذف فيها خلال عملية طويلة المدى، تتطلب جهدًا ثوريًا بالضرورة، وفي السياق الثقافي نفسه، وهو الدور الملقى في جزء كبير منه على عاتق الإبداع في الفكر والأدب والفنون.

لقد استدعت الثورات المصوّر الصحفي سريعًا ليوثق لهذه اللحظات التاريخية والمؤلمة، لكنها في الوقت ذاته أربكت المصوّر الفنان ولو لوقت قصير، والذي اعتاد أن تتابع عين كاميرته المشاهد والشخوص لتبرز ما وراء الصورة، إذ لا يسعى الفنان لتصوير الشجرة بصفتها شجرة، أو لمجرد توضيح التجاعيد في وجه رجل عجوز، بل هو أثناء التقاط المشهد، وفي طباعته، وحتى في طريقة عرضه، يمر بعملية إبداعية لتوثيق لحظة قابلة للتزاوج مع المتلقي، لتلد لحظات عديدة، خالدة، تعطي معنى قابلًا للتعدد والتعمق، فيدفع المتلقي إلى اقتناء الصورة، وتعليقها في المكتب أو البيت، ينظر إليها في ذهابه وإيابه، أو في أوقات تأمله، وقد تكون موضوعًا للحديث مع زائر يراها لأول مرة، لتظل بذلك شاغلًا في زمن لا منتهٍ؛ وهنا يختلف المصور الفنان عن المصور الصحفي، إنه يوثق للحظة غير واضحة، عصيّة على التفسير المباشر، وقابلة  لتعدد التأويلات والأزمان أيضًا.

لقد فرضت الثورات على الفنان والمبدع ضرورة إعادة ترتيب الأدوار والاتجاهات، فبين هذا الكم من الأحداث الدامية والقاسية، والفارضة لتغيير جذري على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يقف الفنان محتارًا بين ضرورتين، ضرورة التحرك واستكمال دوره بصفته مبدعًا في السياق الثوري الجديد، وضرورة التأمل والتريّث والتجريب، وهو ما تفرضه طبيعة الإبداع؛ لذا فإن الفنان المصور، والذي تبقى الصورة موضوع تأمله وعمله الإبداعي، قد يكون الأكثر حيرة من بين المبدعين، فدوره الأصعب يتمثل في الكيفية التي عليه أن يختار فيها من بين عشرات الآلاف من الصور التي تلتقط كل يوم، صورة خالدة، ومختلفة، وقادرة على إحداث تغيير معرفي وثقافي وجمالي، طويل المدى؛ وهنا إما عليه أن يدع الكاميرا ومشاهد الحدث الجديد المصوّر كثيرًا، ويبقى منتظرًا لمشاهد مختلفة، أو أن يغامر بصفته مصوّرًا مبدعًا في السياق الثوري الجديد.

ينجح الفنان المصري عادل واسيلي في الموازنة بين كل من التأمل واللحظة التاريخية، ينهي سريعًا الإرباك الذي سببته الثورة للمبدع فيه، ويتخلّى بصفته ناشطًا عن العمل السياسي في كثير من الأحيان ليحمل كاميرته ويبحث، على مدار عام 2011، وفي ميدان التحرير، عما يريد هو أن يوثقه، فنانًا وإنسانًا مصريًّا انتظر هذه اللحظة طويلًا. وبعد النجاح في الحصول على العشرات من المشاهد الإنسانية في ميدان التحرير، يقرر واسيلي نشر صوره في كتاب يسميه "حياة الميدان"، صدر عن وزارة الثقافة في مصر مؤخرًا، ليكون هذا الكتاب شاهدًا تاريخيًا على الأحداث التي مرت بها مصر خلال عام 2011.

غير أن الشهادة التي يريدها واسيلي من كتابه المصوّر "حياة الميدان" ليست تلك الشهادة بمعناها المألوف، أو الوثيقة التاريخية التي تروي ما حدث كما حدث، فالثورة المصرية أصبح لها أرشيف إعلامي ضخم سيبقى شاهدًا على الحدث في أي وقت وأي مكان. وقد أدرك الفنان واسيلي هذا التحدي، وهو وضْع كتاب يؤرخ للثورة ولكن من وجهة نظر إبداعية أكثر عمقًا، بصور قابلة للحديث، والتفسير، والبكاء، والفرح، والتأمل، والتفكر، والأهم هو أنها قادرة على إحداث تأثير في العقل الجمالي والمعرفي؛ إنها شاهدة ولكن ليس على الحدث فحسب، إنما على ولادة صعب مخاضها، ما زالت مستمرة، وهي ولادة الشخصية المصرية الجديدة.

عادل واسيلي، مصور مصري معروف، قام على مدار السنين الماضية بالتقاط آلاف الصور لشوارع مصر، في مدنها وقراها، التقط البورتريهات للشخصية المصرية بأحوالها المختلفة في الشارع والعمل والبيت، وفي الحقل والصحراء والنهر والبحر، تابع المكان المصري بأزقته وفوضويته وفقره، لكنه من المؤكد أنه أمام الثورة المصرية، وأمام حالة ميدان التحرير بالذات، كونه القلب النابض لتلك الثورة، أدرك أنه أمام ولادة شخصية مصرية جديدة، وأن كاميرته ستقابل وجوهًا وتعابير لم تألفها من قبل، في لحظة يبلغ الألم المصري فيها ذروته، ليلد الأمل، لحظة طويلة في تداعياتها وآثارها، قصيرة عصيّة في المقدرة على التقاطها واختزالها في الوعي والصورة معًا.

يبتعد واسيلي في صوره التي جمعها في كتاب "حياة الميدان" عن موضوع الصورة الصحفية، فهو لا يأبه كثيرًا بمواجهات دامية شهدها الميدان، ولا يصور المواجهات وموجات دخان الغاز والمصابين والدماء والعيون المفقوءة، لا تلتقط كاميرته مواجهة بين الثوار وعساكر الأمن المركزي  أو البلطجية، أو ضرب هؤلاء لأحد الثوار أو لحظة قنصه، هو يذهب لما هو غير ذلك، تاركًا هذه المشاهد لكاميرات أخرى، ربما لقسوتها، وربما كما ذكر سابقًا، أن الاتجاه الجديد _ القديم الذي سلكه الفنان هو تصوير ما وراء الحدث، اللحظة الثورية الحقيقية في عيون وقلوب المصريين، والطبقات الدفينة تحت هذا الوجه للثورة.

يمكن الحديث عن كتاب "حياة الميدان"، والذي يحوي بين دفّتيه 138 صورة لمشاهد وشخصيات في ميدان التحرير، ضمن ثلاثة محاور تدور حولها كاميرا واسيلي، هذه المحاور هي: البورتريه وتعابير الشخصية المصرية الجديدة من خلال الوجوه، والنص مظهرًا من مظاهر التعبير عن الاحتجاج والرفض، وسمةً مميزة للثورة المصرية، وأخيرًا المشهد الحركي أو الساكن في ميدان التحرير، الذي يمثل أوضاعًا وتكوينات اختصت بها الثورة المصرية.

البورتريه: الشخصية المصرية الجديدة

يلتقط واسيلي في الثورة وجوهًا اعتاد تصويرها، ولكن في سياق آخر، مختلف عن سياق الحياة الاعتيادية في العمل، والشارع، والمنزل، وعلى الأرصفة، وفي الأفراح والمناسبات التي اعتاد أن يصور شخوصها في أحوالهم المختلفة؛ بورتريه واسيلي الجديد في "حياة الميدان" يعكس الوجه الجديد لمصر، الذي يعلن كل لحظة تشكّل ملمح جديد من ملامحه في عملية ولادة مستمرّة، تتكون فيها أطوار وملامح لهذا الجنين المصري الجديد. بورتريهات واسيلي الجديدة في الميدان ليست كتلك المعتادة في معارضه السابقة: فلاحة تحمل فوق رأسها جعبتها في طريقها من البيت إلى الحقل، أو عامل في ورشته الصناعية لحظة انشغاله في صنعته، أو طفل شارع لحظة التفاته إلى الكاميرا؛ كاميرا وسيلي تلتقط الآن ما هو مختلف، بصيصًا جديدًا في العيون المصرية، شعاعًا من الأمل المجبول بالثورة، بالألم، بالترقب، بالثبات على الصبر، فالخلاص والحرية يصبحان على بعد مسافات قصيرة، طالت لعقود طويلة.

البورتريهات في كتاب "حياة الميدان"، ترسم على وجوهها الأعلام، وتكتب على جباهها وأيديها وظهورها "ارحل"، ونصوصًا ومطالب أخرى، أو ترتدي كمامة ضد الغاز وضد قنص العيون في لحظة استعداد لمواجهة قريبة، أو تصنع لرأسها تاجًا من قنابل الغاز الفارغة بعد جمعها، أو تضع في أيديها وصدورها قلائد صنعتها من الرصاصات والقنابل الفارغة، أو تدخن سيجارة في وقت استراحة مقاتل.

هذا التحوّل المربك للفنان والمتلقي معًا في البورتريه المصري الجديد يعكس تحولًا في الشخصية المصرية ذاتها، التي تولد من جديد في ميدان التحرير، تغذي ذاتها بذاتها، بحياة وطقوس خاصة خُلقت في الميدان، لها مشاهدها وشخوصها، وهم المصريون من جميع الطبقات والأعمار، مسيحيون ومسلمون، فقراء وغير فقراء.

يقول واسيلي في افتتاحية كتابه: "اقتربت الكاميرا من وجوه أهل التحرير، هؤلاء الذين قدموا بعد ساعات سفر طويلة من القرى البعيدة بأسوان ومن قلب سيناء، من محافظات مصر المختلفة. أهل التحرير كانوا من قرى مصر ومن مدنها.. كانوا شباب مصر الذي انتزع الأمل من السماء بيديه الفتية.. كانوا نساءً تزغرد في الفرح، وتضمد الجراح، وتلقي بالحجارة على المعتدي، وتقفز في النيران لإنقاذ طفل أو مصاب.. كانوا شيوخًا لم يكترثوا بالمرض، ووثقوا بأن شفاءهم من شفاء مصر، أهل التحرير منهم أطفال صغار.. لم يبكِ أي منهم جوعًا أو مللًا..".

النص يفرض حضوره على المشهد

يمتلك النص حضورًا بارزًا في مظاهر التعبير عن الاحتجاج على الوضع السياسي، وعادة ما يتم إدراج الشعارات والنصوص التوضيحية في كافة مظاهر التعبير التي تستخدم الصورة، مثل الجرافيتي (فن الرسم على الجدران)، أو الكاريكاتير، أو غيرها، فالنص يمتلك القوة في التعبير المباشر والواضح الذي لا سبيل للمراوغة فيها، وهو ما يُقِرّ به الفنان ناجي العلي ويبين في الوقت نفسه السبب في الحاجة إلى النص فيقول: "الكاريكاتور الجيد هو الذي تنبني جودته على الشكل وليس على الكلام، ولكن في الظروف التي نمر بها، وأمام هذا الإعلام الكثيف والمضلل، أشعر أحيانًا في حاجتي إلى الصراخ مع حاجتي إلى التعبير الفني."

كان للنص، أو الكلمة، الأثر الكبير في الثورات العربية، ومن الممكن القول إن شعار "الشعب يريد"، الذي استوحاه الشباب العربي الثائر من أشعار أبي القاسم الشابي، كان العنوان الكبير لهذا النص الثوري الطويل، الذي تضمن الشعارات والنصوص المطلبية الساخرة، وكتابة تاريخ الفساد ومطالب تغييره.

ميزت ظاهرة النص الثورة المصرية بشكل واضح، وهو ما لم تستطع أي كاميرا تجاهله خلال تجوالها في ميدان التحرير أيام الاعتصامات.

تلتقط كاميرا واسيلي النصوص والشعارات والمطالب المكتوبة على الجدران واليافطات وأرضية الميدان، بل وعلى الأجساد البشرية، وأيضًا على أجساد الحيوانات. وقد أكدت الثورة، ومن خلال النص بشكل كبير، على روح الفكاهة المميزة  للشخصية المصرية، التي راحت تبدع خلال الثورة في ابتكار أساليب ميزتها عن الشعوب الأخرى، أبرزها كان استخدام الجسد نفسه في التعبير عن الاحتجاج والرفض، فصُوّرت الأيدي التي كتب عليها "ارحل"، والظهور التي ألصقت عليها اليافطات، بل وحتى ضمادات الجراح استخدمها المصابون أرضيةً خطّوا عليها نصوصهم.

ينجح واسيلي في إبراز هذه السمة لحياة ميدان التحرير وللثورة المصرية، فتلتقط كاميرته شخوصًا كتبت على أيديها، أو ألصقت على ظهورها وصدورها مطالبها، وبل ومنهم من اختفى جسده وراء زي كامل صنعه من اليافطات التي كُتبت عليها نصوص طويلة.

المشهد الميداني

تقترت كاميرا واسيلي من حياة ميدان التحرير بمشاهدها الغنية، مشاهد أقرب لأن تكون مقتطفات سينمائية أو مسرحية من كونها حياة واقعية حاصلة بالفعل؛ مشاهد تشكلت فجأة وبعفوية في لحظة ثورية منذ 25 يناير 2011، وترسخت وأخذت في التطور على مدار العامين المنصرمين، وهي رغم ذلك ما زالت قادرة على إحداث الصدمة، فالحدث أكبر من أن يسعه الإدراك في عام واحد.

 

في "حياة الميدان" يصور واسيلي لحظات الاستعداد لمواجهة على وشك الحدوث، أو لحظات الصلاة على أرض الميدان، والتفاف الصليب مع القرآن في إصرار على التكاثف وقطع رأس الفتنة. نرى في "حياة الميدان" أيضًا مشاهد التفتيش، من الثوار، على مداخل الميدان، والطوابير المنتظرة دورها لدخول تلك البقعة الثورية، ولحظات استعداد واصطفاف العساكر تتأهب لقمع قريب، وساعات النوم جلوسًا، والسهر والقراءة واللعب والغناء، وإطلالة أحدهم من نافذة شُقّت في خيمة ليدخن سيجارة، ولحظات التجمهر حول عازف، أو منشد صوفي، أو مغنٍّ، أو التجمهر من أجل الهتاف الذي يبقى بمثابة التسخين والتشجيع الضروري لاستمرار حياة الميدان.

أخيرًا، فإن عدم اكتفاء الفنان بعرض صوره في قاعات عرض تعرضها لفترة محدودة، وتوجهه لوضع الصور في كتاب يقتنيه المتلقي، معرضًا دائمًا شاهدًا على اللحظة، وضع الصور بتأويلاتها المتعددة في حدود واضحة: زمن واحد هو زمن الثورة المصرية، ومكان واحد هو ميدان التحرير. وعلى الرغم من ذلك فإن قوة هذا الكتاب، أو "المعرض الدائم"، تكمن في هذا التحديد بالذات، فحدوده هي الحدود الواسعة لتلك الثورة المستمرة والمنفتحة على ما لا نهاية من التوقعات حول النتائح والآثار.

تكمن قوة الكتاب أيضًا في زاوية النظر التي اختارها الفنان في ذهابه للإنساني والعادي والبسيط في ميدان التحرير، لكنه غير عادي سياقًا حياتيًّا ثوريًّا جديدًا يفرض حضوره في مصر.

التقطت كاميرا واسيلي الوجوه في ميدان التحرير، والمشاهد الجديدة في الحياة المصرية، والنص المصري الثوري الذي يفرض حضوره ويصر على مضمونه ويزيد إصرارًا كل يوم، ولم تقترب الكاميرا من مشاهد الدم والدمار، بل ابتعدت عنها واختارت الدخول في مسافة معرفية _ إبداعية، فالفنان يتلقى المعلومات ليحولها في معمله الإبداعي إلى رسائل، تنشد هدفًا آخر ثوريًّا أيضًا، وهو التغيير المعرفي في الثقافة والعقل المعرفي، ولذا فإن كتاب "حياة الميدان" ليس شاهدًا على الثورة فحسب، بل ثوريًا بالثورة، في دعوته الصريحة إلى التأمل في هذا التحول الجذري في الشخصية والهوية المصريتين، وتأكيده على هذا التحول في الوقت نفسه. لذا فإن الصور في "حياة الميدان" تشكل مرجعًا مهمًّا أيضًا لكل باحث في التحولات الطارئة على الشخصية المصرية بعد الثورة، من خلال اعتماد الصورة مادةً لدراسة التحول السياسي، والثقافي، والاجتماعي، والنفسي في الشخصية المصرية.

التعليقات