يوسف اليوسف: رحيل ناقد وإنسان عصامي كبير../ رشاد أبوشاور

سنفتقدك بحرقة أيها الصديق، سنحن دائما لسهراتنا الغنية، ولن ننسى الصداقة التي لم تهتز رغم الخلافات التي كانت تبدو أحيانا حادة..مع عقل نيّر، وفؤاد عميق النبل والرقة، رغم غلالة القسوة في الملامح الخارجية

يوسف اليوسف: رحيل ناقد وإنسان عصامي كبير../ رشاد أبوشاور

الناقد الراحل يوسف سامي اليوسف (1937-2013)

لحق بي النبأ الفاجع برحيل الصديق يوسف اليوسف، الناقد والأديب، إلى ( فينا) في اليوم التالي لوصولي، والأخبار السيئة تطارد الفلسطيني، وتلحق به ولو إلى آخر الدنيا، فهي تفسد عليه ولو لحظة فرح عابرة، أو متوقعة، وهكذا يبقى القلب مستنفرا، بعد أن اعتاد على النكبات، والمصائب، ولوعة الفراق.

قبل رحيله بأيام استفسرت هاتفيا عن الصديق يوسف اليوسف ( أبوالوليد)، لأنني قلقت على صحته، لمعرفتي بأنه يعاني من متاعب التنفس، وهو بحاجة دائمة لاسطوانة أوكسجين حتى تتنفس رئتاه هواءً ينعشهما، وينشط دورته الدموية التي لا يمكن أن تستمر نقية بدون أوكسجين.

احتجب ( أبوالوليد) في السنوات الأخيرة في بيته مع أسطوانات الغاز، فالمشي بات مرهقا له، هو الذي كان يتجول دائما في شوارع المخيم، ويتقصد المرور بجوار مدرسة ( القسطل) التي خرّج منها أجيالاً، حببهم باللغة الإنكليزية التي درسها في جامعة دمشق، وعززها بزيارة بريطانيا والإقامة في( كمبردج) لعدة شهور.

لم أعد أراه في شارع المدارس، شادا جذعه، بملامحه الصارمة، وبهيئته المعتدة الجادة، بعد أن أثقلت السنون كاهله، وأرهقته علّة الرئتين.

بعد نكبة  1948توجه يوسف الصبي مع أسرته إلى لبنان، بعد سقوط قريته (لوبية) التي ولد فيها بتاريخ 17/11/1937، وبعد تشرد الأسرة في عدة مناطق استقرت في مخيم نهر البارد القريب من طرابلس لبنان -الذي اشتهر بعد نكبة تدميره، وتشرّد أهله- وفي مدارس وكالة الغوث استأنف يوسف رحلته الدراسية.

انتقل إلى سورية، وانضم للفدائيين الذين تمّ تشكيل كتيبتهم بإشراف ضباط سوريين منهم الهيثم الأيوبي، وأكرم ديري، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات، فأخذ من (الفدائية) شدة البأس، والجدية، والحزم، وهو ما يذكرنا بقصيدة إبراهيم طوقان( الفدائي)، والتي مطلعها:
عبس الخطب فابتسم
وطغى الهول فاقتحم

استأنف دراسته، فحصل على ( البكالوريا)، ومن بعد درس اللغة والأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، وعمل مدرسا في مدارس وكالة الغوث.

بدأت معرفتي بأبي الوليد في آخر الخمسينيات، في مخيم اليرموك، ولم يكن قد بدأ الكتابة النقدية بعد، وكان يميل للجدل، والتأمل، ويبدي تبرمه من حال النقد العربي، وانعدام الجدية في الابتكار، والريادة، ومن تعيّش النقاد العرب على الترجمات، والتبعية النقدية للمنقول والمستورد..غالبا.
أول مقالة له حملتها أنا والصديق أحمد دحبور، ولعلها كانت حول شعر فدوى طوقان، وأوصلناها للدكتور سهيل إدريس الذي تحمس لها، وبادر لنشرها على صفحات ( الآداب)، ومن بعد نشر يوسف اليوسف عديد المقالات، ولكنه لم يلفت الانتباه إلاّ بكتابه الذي قدم نظرة جديدة للقصيدة العربية (الجاهلية) الطللية (مقالات في الشعر الجاهلي) الذي صدر عام 1975، ليتبعه بعد ثلاث سنوات بكتابه المكمل (بحوث في المعلقات)، ثم لتتوالى كتبه الهامة، ودراساته اللافتة، والمثيرة أحيانا، التي بوأته موقعا بارزا في الحركة النقدية العربية، وإن كان يبدي دائما عدم رضاه، فقد ظل طموحه دائما أن يسهم في بلورة نظرية نقدية عربية.

عشنا معا سنوات في مخيم اليرموك، وغالبا كنّا نتمشى غربي المخيم قبل أن يختنق بالأبنية العشوائية التي التهمت الكروم، والمساحات الخضراء، التي كانت تنتشر وتمتد غربه، وجنوبه.

في منتصف السبعينيات، اتفقنا على أن تجمعنا ندوة في مطلع ومنتصف كل شهر، نعد لها بالاتفاق على عنوان نناقشه، ثمّ نتعشى معا، ونفترق غالبا مع ساعات الفجر لنعود إلى مخيم اليرموك.

كان موئلنا بيت الفنان مصطفى الحلاج، وهو قبو في منطقة الجسر الأبيض، وكنا: الحلاج، يوسف اليوسف، أحمد دحبور، يحيى يخلف، محمود موعد، والصحفي والإعلامي الأريتيري عمر عليم، ومحمود شاهين.. و..أنا.

كانت تلك اللقاءات قد اجتذبت بعض المبدعين السوريين الذين علموا بها، ومنهم الأصدقاء: ممدوح عدوان، محمد عمران، خلدون الشمعة..وغيرهم.
على سطح بيت ( أبوالوليد) ياما التقينا في ليالي الصيف وتناولنا أحيانا عشاءً متواضعا وممتعا: الخبز الساخن، والبطيخ، والجبن الأبيض...

انتهت اللقاءات في بيت الحلاج عندما انتقلنا أنا ويحيى إلى بيروت، ولكننا بقينا على صلة، بالتزاور، واقتناص أي لحظة للتحاور، وتبادل وجهات النظر حول ما يكتبه يوسف، وما نكتبه نحن، وقد كتب عن بعض أعمالنا القصصية، والشعرية.. بدون مجاملة، فذلك لم يكن من طبعه.

بعد اقتحام، بالأحرى احتلال، مخيم اليرموك، انقطعت أخبار أبي الوليد ولكنني اطمأننت على حياته، حين علمت أنه وبعض أفراد أسرته يقيمون لدى ابنته المتزوجة في مخيم نهر البارد، ولكنني قلقت، مع ذلك، على صحته، لمعرفتي بأهمية حاجته لاسطوانات الأكسجين التي لا حياة له بدونها.

قبل أيام من سفري، تواصلت مع الدكتور حسن حميد صديقنا المشترك، وتكاتبت مع الكاتب محمد عادل، فاخبراني أن أبا الوليد بخير وأن صحته (كويسة).

يوسف اليوسف: الفدائي، الكاتب والناقد، والملعم، العصامي.. مات بعيدا عن مخيم اليرموك، ربما حنينا لمكان أمضى فيه جل سنوات عمره، ومن شردوه. وشردوا ألوف الفلسطينيين.. يجهلون إلى أي حد جرحوا كبرياء يوسف وأمثاله؟ لقد تسببوا بموت فلسطينيين كانوا يحلمون بالعودة إلى لوبية، وصفورية، وصفد، وحيفا، وعكا.. فشردوهم إلى مخيمات أكثر بعدا عن مساقط رؤوسهم، ومهاوي أفئدتهم، وغربوهم من جديد غربة اشد قسوة وهولاً!

أكنت تتوقع يا أبا الوليد مثل هذه النهاية؟ أن تحن لمخيم اليرموك الذي اقتلعت منه؟ و..أن تهجّر من جديد، ليعاد بك إلى مخيم نهر البارد الذي هجرته قبل نصف قرن، لتنتقل على دمشق، وتقيم في مخيم اليرموك؟!

يا أبا الوليد لمن سنصغي بعدك، مستمتعين بتأملاتك في( لامية) العرب؟ ومع من نبحر في تأمل القصيدة العربية الحديثة، وآفاقها، ومواهب مبدعيها الكبار؟!..ومع من نستعيد عظمة وأمجاد (حنّا بعل) القرطاجي الكنعاني، وهو يقتحم الإمبراطورية الرومانية، ويتجرأ على حصار روما نفسها، رافضا الخضوع والخنوع لها، ثائرا على استبدادها!

ومع من سنختلف حول الرواية العربية التي كنت تحكم عليها بمقاييس الحرب والسلام، والأخوة كارامازوف؟!

كتب الصديق يوسف اليوسف سيرة حياته، ورؤيته للصراع مع العدو الصهيوني، و( حوصل) آراءه النقدية، والفلسفية.. في عمل صدر في ثلاثة أجزاء، بعنوان (تلك الأيام)، في دمشق عن دار كنعان.

سنفتقدك بحرقة أيها الصديق، سنحن دائما لسهراتنا الغنية، ولن ننسى الصداقة التي لم تهتز رغم الخلافات التي كانت تبدو أحيانا حادة..مع عقل نيّر، وفؤاد عميق النبل والرقة، رغم غلالة القسوة في الملامح الخارجية.

سلاما لروحك أيها المبدع الكبير، المرتاد بجسارة لما لم تُسبق إليه، يا من حققت بجديتك وأصالتك ما منحك هذا القدر والقيمة والمكانة الرفيعة على المستوى العربي مشرقا ومغربا.
 

التعليقات