ميخائيل توما: دوامة العيش ما بين الشرق والغرب../ روضة غنايم

"..وأدرك أن قسمات وجه أبي وأسارير أبناء جيله على وشك الاختفاء...تلك الوجوه التي جبلتها الريح والأمطار والشمس، ذلك الضَربُ من الناس الذي تميز بحراثة الحقول وصعود الجبال. الآن يحوي المكان أخلاطاً من الوجوه الجديدة، ويزخر بقصص أخرى"

ميخائيل توما: دوامة العيش ما بين الشرق والغرب../ روضة غنايم

"إنني أسير في مسقط رأسي مدينة حيفا. لقد تغير "المشهد البشري" في المدينة، وأدرك أن قسمات وجه أبي وأسارير أبناء جيله على وشك الاختفاء...تلك الوجوه التي جبلتها الريح والأمطار والشمس، ذلك الضَربُ من الناس الذي تميز بحراثة الحقول وصعود الجبال. الآن يحوي المكان أخلاطاً من الوجوه الجديدة، ويزخر بقصص أخرى." تأملات، (ميخائيل توما).

لقاء يجمع ما بين الواقع والخيال

منذ أكثر من ثلاثين عاما وهو يرسم امراة بدون ملامح، مكشوفة الصدر يلونها بألوان الطبيعة يرى من خلالها الشمس والبحر، يستحضر روحها، ويعيش هو وريشته ساعات معها في مرسمه في بلاد الغرب (في مدينة لايبزيغ الألمانية)..

لم يرها ولم يعرفها أبداً. حلم بها وشعر بها على مدى سنوات طويلة... عاش مع هذا الحلم على أمل أن يلتقي معها أو البقاء مع الحلم دون اللقاء! إلى أن عاد قبل نحو عام إلي مسقط رأسه عروس البحر مدينة حيفا، لإلقاء محاضرة ضمن المعرض الذي نظمه لذكرى والديه إميل وحايا توما تحت عنوان "هناك غد". جَلست بين الحضور جسداً وروحاً بعد أن فاجأته بخروجها من اللوحة. حينها نبض قلبه نبضاً شديداً لم يشهده منذ زمن طويل. وعرف أن تلك المرأة التي رسمها ولونها على لوحاتة البيضاء هي المرأة المجهولة التي حلم بها طيلة سنوات حياتة الماضية.

عرضَ في المعرض أعمال وذكريات والديه، وفي صالة أخرى عرضَ لوحاته الفنية... تَجولتُ بين اللوحات الفنية، وجدتُ كل مواضيعها عن النساء... نساء عاريات وراقصات بألوان صاخبة جذابة، تساءلتُ حينها في نفسي: من هُن تلك النساء اللواتي تجاور لوحاتهن أعمال وذكريات والديه؟ كأنهن يعبرن عن قصة عشق والديه، أو أنهن مصدر وحي يعبر عن علاقة الرقص الشرقي والاشتياق إلى رائحة الوطن! أو ربما لوحاته تغلق حلقة من حياته بصفاء روحي أساسه الفن!

عموما لا بد لي من القول إن المرأة في فنه تمثل قوة الحياة، حيث يدمج ما بين المرأة والطبيعة، يضيء مناطق حساسة كتعبير على أن المرأة هي رمز العطاء، وهي الحياة التي تمنح العالم الاستمرارية بولادات جديدة... شعرت من النظر في لوحاته الفنية أنه اخترق جسد المراة بشفافية ليصل لواقع آخر من تكوينات أحلامه!

صراع الهويات في حياته

بذرور الحُب الجميلة بين الراحلين إميل توما العربي وحايا غيربر- توما المتحدرة من أصول يهودية، أثمرت بعد زواجهما عن طفلهما ميخائيل في عام (1956) في مدينة حيفا، الذي ملأ عليهما حياتهما حباً وسرورا.

حين تعرفتُ على ميخائيل، اعتقدت أنه تم اختيار اسمه كإسم متداول عند العرب واليهود معاً، بعدها عرفت منه أنه يحمل اسم أخو جده، (الذي كان فيما مضى عضواً في بلدية حيفا إبان عهد الإنتداب) لأن إسم جده منح لابن عمه الأكبر..

ترعرع ميخائيل في صباه في رحاب ثلاث حضارات مختلفة، العربية واليهودية والروسية، وتعلم قصص الماضي عن حياة العائلة من جدتة لأبيه ميري التي عادت من لبنان عام 65، من خلال قانون لمّ الشمل بعد أن رحلت مع الذين رحلوا من أهلها في عام 48.

قصة السجادة وذكريات أخرى:

حدثني متذكرا قصص جدتة التي روتها له عن بيت العائلة الموجود في حارة "البرج" اليوم في زقاق "هنفئيم 3"، والذي كانت بنايته واحدة من عدة بنايات أقيمت على نفس الطراز، بناها الاخوة جبرائيل وميخائيل توما، والساحة التي ربطت بين البنايات كانت تسمى ساحة توما. وتعتبر هذة البنايات من أهم ما ما تبقى من تراث العرب في حيفا. في نكبة 48 اضطر الأهل إلى ترك البيت والرحيل قسراً إلى لبنان، حينها لم يكن لديهم الوقت لأخذ أغراضهم معهم، لكنه باللحظة الاخيرة استطاعت الجدة ميري أخذ بعض السجاجيد الفارسية معها إلى لبنان، وعندما عادت عام 65 أحضرت معها سجادة فارسية واحدة ما زالت حتى الأن موجودة في بيت ميخائيل في الكرمل.

ويتذكر قصة أخرى حدثتة عنها جدته عن جده عن أيام المنفى، كيف تخلى بحسرة وألم عن مفتاح داره في حيفا، بعد ان قضى عليه المرض، عندها فقد الأمل في العودة الى حيفا وقال لجدتة : "لا أمل في العودة...".

يشعر ميخائيل في الوقت الحالي بشوق إلى جده كونه لم يره ابداً.. وهذا دعاه إلى تكريمه بطريقتة الخاصة، بعمل كولاج فني راقٍ يجمع صورة جده وأفراد العائلة في حيفا والشتات. والأمر الآخر الذي يشتاق إليه ويتذكره بشدة روائح طهي جدتة ميري، إنه يستنشق تلك الروائح في الغرب حين يحن لبلاد الشرق وترجعه لأيام صباه وطفولته.

ذكرياته من عائلتة اليهودية

أما ذكرياته عن جده اليهودي بوريس وجدتة دبورا، فإنه يتذكر بيتهما في الكرمل، و كيف كانوا يجتمعون في المناسبات والأعياد اليهودية، وكيف كان جده يقرأ في عيد الفصح أسطورة خروج اليهود من مصر.

وقد توطدت الصلة مع جده بوريس بعد أن بدأ بتصنيع تماثيل من الخشب، وهو فخور به ويحتفظ بأعمال لجده عرضها في معرض نظمه في ألمانيا تكريماً لجده أطلق عليه اسم "ثلاثة أجيال" جده وأمه وجيله.

سمع لغة الإيديش في بيت جده، إنها تشعره بحنين حين يسمعها اليوم من عابري السبيل.

ذكرياته في روسيا

أما ذكرياتة عن الحضارة الروسية فهي الأقوى حسب تعبيره، ففي عام 1965 سافر مع والديه إلى موسكو لمدة ثلاث سنوات، حيث عمل والده على إعداد كتاب "تاريخ الشعوب العربية الحديثة" وفي هذه الفترة حصل أيضاً على شهادة الدكتوراه.

وهذة الفترة في موسكو، هي فترة نشوء الفتى ميخائيل، أثرت بشكل ملموس على نهج حياته ونمط تفكيره، وخلال تلك السنوات ترسخ وعيه الثقافي... بدأ في قراءة الكتب باللغة الروسية، واندمج بالحضارة الروسية والأوروبية بشكل كبير، زار كطالب عدة مدارس، منها مدارس داخلية، وعاشر المجتمع الروسي بشكل قوي مما أثر على لغتيه العبرية والعربية فلم يتمكن من إتقانهما، وعاد إلى البلاد عام 68 فجابهته اللغة، ولعدم تمكنه من التعبير لغوياً اتجه نحو الرسم وأخذ يرسم.

في البيت كان ميخائيل يتكلم مع والدته باللغة العبرية، ومع والده باللغة العربية، وتجدر الإشارة إلى أن لهجته العربية خاصة، وهي نتاج السنوات الثلاث التي قضاها مع والديه في موسكو، وبعد رجوعه إلى حيفا تابع قراءة الكتب الروسية لعدة سنوات... وعموماً جابهته قضية الهوية في كل المجتمعات التي عاش فيها.

ميخائيل عاش الصراع اليهودي العربي مما ترك أثره عليه حتى اليوم. في روسيا عامله الروس في المدرسة بقسوة، وعاملوه كيهودي غير مرغوب به، وفي البلاد رفضه اليهود في المدرسة وقالوا له "أنت عربي نتن"، وعندما دَرّس موضوع الفنون في القرى العربية وجهت له أحيانا تساؤلات عن سبب لهجته، وفي البيت تحدث والداه باللغتين العبرية والعربية.

يقول ميخائيل: "اللغة مهمة جدا في تكوين هوية الإنسان، لكن والدي العربي تحدث معي في البيت باللغة العبرية من أجل والدتي حايا التي لا تعرف العربية، مما ترك أثراً على لهجتي العربية".

هذه الظروف التي نشأ فيها ميخائيل بين عالمين يهودي وعربي في إسرائيل أثرت على نهج حياته وسلوكياته. ووجوده في موسكو أثر عليه من ناحية انتمائه الثقافي، وعلى الرابط بينه وبين المكان.

عندما كبر الفتى لم يستطع أن يواجه قسوة الحياة وصراعها في إسرائيل، تركها في عام 1987 ليكمل دراسة الرسم والغرافيك في المعهد العالي في ألمانيا، وهناك بدأ يعيش في ثنائية صراع جديد، ما بين الغربة الاختيارية والحنين إلى الوطن. الصراع الداخلي لم ينته عند ميخائيل إنه يلاحقه حتى اليوم. صحيح أنه يعيش ويبدع في ألمانيا، لكن جذوره تشده بين الحين والآخر لاستنشاق هواء الوطن..

جوليانو مير خميس وميخائيل غريبر توما هوية وصراع متشابه

شاهدت مجموعة من صور عائلة ميخائيل، وجدت فيها عدة صور عائلية تجمع بين أرنة وصليبا خميس ووالديه، سألته إذا كان هناك تشابه في صراع الهويات بينه وبين جوليانو؟

أجابني: "جوليانو وأنا نتشابه في الولادة بين عالمين اليهودي والعربي. أنا لم اختر البقاء في إسرائيل بينما جوليانو تحدى الواقع وبقي هنا.. لم تكن لدي قاعدة قوية وجذوراً صلبة!! لكنني أحب البحر والشجر، أنا أشعر أنني بين هنا وهناك إنسان متردد لم تكن لي قاعدة صلبة لوجودي في البلاد"..

المؤرخ الفلسطيني كاتب التاريخ وجذور القضية الفلسطينية إميل توما كان رجلا أمميا وليس قوميا، صاحب فكر متنور وحر. وكان يقول لإبنه ميخائيل: "لك طريقك وخيارك في الحياة "، وقد شجعه أن يجد طريقه، وحينما قرر ميخائيل أن يتعلم الرسم قال له والده: "أنت تعلم أن حياة الرسام ليست سهلة ولكن إذا هذا هو خيارك فمبروك". ترك ابنه أن يكتسب هويته على هواه، وحينما طُلب ميخائيل إلى التجنيد رفض قائلا : "أنا ابن إميل توما وجزء مني عربي"... يتذكر ميخائيل حديث أجراه مع جده بوريس حين عاتبه بشدة لرفضه الخدمة العسكرية، ويتذكر أيضا حالة أخرى حين رشحه أحد الفنانين وعرفه كعربي فلسطيني، عندها اعترض جده بوريس بشدة أن يعرف حفيده كعربي!

ميخائيل أراد أن يكون من مواطني البلاد، و لأن الهويات دائما دينية أو قومية، أجبر أن يرمي الهوية في أعماق بحر حيفا والرحيل بعيداً لاكتساب هوية جديدة محايدة.

الشتات في حياة ميخائيل

في سنوات الستينيات كان ميخائيل يسافر مع والديه عبر ميناء حيفا إلى قبرص من أجل اللقاء مع عائلة والده التي تشتت عام 48، كانوا يلتقون بالعمة عفاف وزوجها، والجد ميخائيل أخو جده جبرائيل.

حدثه والده عن سقوط حيفا وبدء النكبة.. قائلا: "وقت ال48 كان بيتنا يقع في نقطة خط التماس بين الجيوش العربية في "الهدار" وبين "الهاجاناه".. وكان القصف شديداً على بيتنا، جدك أراد أن يذهب إلى لبنان ليحتمي هناك، لكنني كشيوعي كنت متفهما للوضع ولم أرغب بالرحيل، لكن إلحاح جدك اضطرني إلى أخذه مع جدتك وعمتك عفاف إلى لبنان لحمايتهم، وأنا قررت أن أعود إلى حيفا مباشرة بعد توصيلهم، وعندما تهدأ الأوضاع أعود مرة أخرى لإعادتهم، لكن أغلقت الحدود وسجنت في لبنان في سجن بعلبك، واستطعت العودة إلى حيفا بعد مضي سنوات".

وإلى جانب الرسم والفنون يمارس ميخائيل الكتابة الإبداعية باللغة الالمانية ومن إصداراته:
الشباك، مجموعة قصصية تعالج موضوع الهوية، 2013
الكتاب الدقيق، مجموعة قصصية، 2011
أغنية الحياة، مجموعة قصص وشعر، اهداء لروح والدتة حايا توما، 2010
ما بين الوقت مجموعة رسومات وشعر، 2006
دموع الحائط، شعر نثري، 2005
في مدينة غير واقعية، مجموعة قصصية مستوحاة من المدينة التي يعيش فيها
(لايبزيغ - المانيا)، 2004
خط متواز، مجموعة قصص قصيرة، 2003
الحلم، مجموعة شعرية، 2003
قصة قصيرة، 2003 Daphne
كما كتب عدة مقالات في مجال الفنون نشرت في مجلة الصادرة عن مركز الثقافة الاوروبية الشرقية 2004- 2012 Smurgh

وأخيرا ذهبت أنا وميخائيل إلى البيت الذي ترعرع فيه في شارع عباس رقم 45، وهناك عادت به عجلة الزمان إلى الوراء، وكأنه أبو جميل الرجل السبعيني، الذي كان يجلس على شباك داره، وينظر من خلال الشباك نحو البحر، ونحو الناس والأطفال الذين يلهون في الحارة.. لكن عبء الحياة في البلاد مزقه.. جعله يركب سفينة راسية في الميناء ويغادر مدينته البحرية حيفا.. ويبدأ مشواراً آخر من الحياة.

 

(ميخائيل توما)

(ميخائيل الطفل مع والدته حايا)

(د. إميل توما وشقيقته عفاف في بيتهما في قبرص)
 

التعليقات