27/12/2016 - 17:18

كيف تسقط الديمقراطيات؟

بدأت الشعبوية تكتسب مزيداً من القوّة. فحول العالم، يتنامى العجز الاقتصادي والقلق من العولمة، وتتصاعد معدّلات الهجرة، في حين تدفع النخب هذه الحركات إلى موقع السلطة، ويتبعها أمواج هادرة من الدعم الجماهيري للأحزاب والقادة السياسيين.

كيف تسقط الديمقراطيات؟

بدأت الشعبوية تكتسب مزيداً من القوّة. فحول العالم، يتنامى العجز الاقتصادي والقلق من العولمة، وتتصاعد معدّلات الهجرة، في حين تدفع النخب هذه الحركات إلى موقع السلطة، ويتبعها أمواج هادرة من الدعم الجماهيري للأحزاب والقادة السياسيين، الذين بات يُنظر إليهم باعتبارهم قادرين على السيطرة على قوى التغيير الثقافية والاجتماعية. ففي أوروبا، سيطرت الأحزاب الشعبوية على البرلمانات في اليونان، والمجر 'هنغاريا'، وإيطاليا، وبولندا، وسلوفاكيا، وسويسرا، وأصحبت جزءاً من الحكومات الائتلافيّة في فنلندا، والنرويج، وليتوانيا. أما في جنوب شرق آسيا، فيبدو أنّ الرجل القويّ في الفلبين رودريغو دوتيرتي يسعى إلى متابعة أجندته الشعبوية. وأخيراً فقد تم انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.

إنّ أهداف الشعبويين المعاصرين ليست جديدة. فمثل غالب أسلافهم التاريخيين في أميركا اللاتينية وأوروبا، تمجّد الأحزاب الشعبوية المعاصرة قيم القيادة القوية والحازمة، وتتعامل بازدراء مع المؤسسات القائمة، كما تعبّر عن حالة من عدم الثقة في الخبراء والنخب التقليديّة. ولكن التكتيكات التي يستعملها الشعبويين اليوم لتنفيذ رؤيتهم للحكم الحازم قد تطورت. فبدلاً من عمل قطيعة حاسمة ومفاجئة مع الديمقراطية، وهو ما يمكن أن يستبب باستياء وإدانة محلّية وعالميّة، تعلّم الشعبويون من الرجال الأقوياء الذين أججوا شعبيتهم باستمرار كهوغو تشافيز في فنزويلا، وفلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب إردوغان في تركيا.

في أعقاب حقبة الحرب الباردة، انتهج الشعبويون أمثال تشافيز وبوتين وإردوغان نهجاً ثابتاً وبطيئاً لتفكيك الديمقراطية. وصل هؤلاء القادة إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، ثمّ استغلوا الاستياء والسخط الشعبي الواسع لإضعاف القيود المؤسسية المفروضة على حكمهم بالتدريج، فقاموا بتهميش المعارضة، وإضعاف المجتمع المدني. انتهج الشعبويّون قواعد لعب متماسكة ومباشرة: تنصيب الموالين لهم في مناصب مركزية (خاصة في أجهزة القضاء والخدمات الأمنية)، وتحييد الإعلام إما عبر شرائه، أو عبر سنّ التشريعات القانونيّة وفرض الرقابة عليه. في خطّة من هذا النوع يصعب تحديد اللحظة التي يتمّ القطع فيها مع الديمقراطية، إلا أنّ مكر هذه الخطط ومراوغتها يمثّل التهديد الأبرز للديمقراطية في القرن الواحد والعشرين.

يعدّ التفكيك المضطرد للمعايير الديمقراطية من قبل قادة منتخبين ديمقراطياً، وهو ما نطلق عليه 'إعادة إنتاج السلطويّة'، تغيّراً مهمّاً في الطرق التي تسقط بها الديمقراطيات تاريخياً. فحتى وقت قريب، كانت الإحصائيات تُشير إلى أنّ الإنقلابات هي التهديد الأكبر للديمقراطيات. فما بين عاميّ 1946 إلى 1999، كانت الإنقلابات هي السبب في انهيار 64% من الديمقراطيات. أما في العقد الاخير،
فقد شهدنا تصاعد 'إعادة إنتاج السلطويّة' المدعومة شعبياً، متسببةً بفشل 40% من الديمقراطيات ما بين عاميّ 2000 و 2010 وهي ذات النسبة لفشل الديمقراطيات بسبب الإنقلابات في تلك الفترة الزمنيّة. وإذا استمر المنحنى بالتصاعد، فسيصبح  هذا النهج هو الطريق المعبّد لعودة الأوتوقراطية.

ما يجعل الأمر أكثر صعوبة وإحباطاً، هو أنّ الطبيعة البطيئة والتدريجية لانحدار الديمقراطيّة على يد الشعبويين تجعل من مواجهتها أمراً صعباً. فبحكم سيرورتها الناعمة والتدريجية، لا تولّد هذه المسارات لحظة عارمة من المقاومة الجماعيّة، كما إنّها لا تشكّل نقطة محورية focal point تستطيع فيها المعارضة أن تلتحم. وفي الحالات التي تظهر فيها الانتقادات، يستطيع القادة الشعبويون وضع معارضيهم في خانة 'الطابور الخامس'، ووصف المعارضين بأنّهم 'عملاء للمؤسسات القديمة'، أو بأنّهم محرضون يسعون لزعزعة استقرار النظام. إنّ التآكل التدريجي للديمقراطيّة غالبا ما يجعل المقاومة لها متجزّئة ومتشظّية.

علاوة على ذلك، فبسبب الشعبيّة الكبيرة لهؤلاء القادة، فإنّهم غالباً ما يحصدون تأييداً واسعاً للكثير من التغيرات التي يطرحونها. ففي الأرجنتين على سبيل المثال، تم انتخاب خوان بيرون للرئاسة في 1946، واستثمر شعبيّته في تعزيز سيطرته على النظام السياسي. ومؤخراً، حقق أردوغان وحزب العدالة والتنمية فوزاً ساحقاً بالانتخابات المحلية في 2002، وتابع سلسلة نجاحاته الانتخابيّة بجلب المزيد من الأصوات في انتخابات عاميّ 2007 و 2011. يوفّر مثل هذا الدعم الجماهيري 'التفويض' لقائد مثل أردوغان للحكم. ولأنّ الحزب قد تمّ انتخابه بناء على سعيه لإقامة مشروع إصلاحيّ، فقد تمّ تجاهل الجهود المبكرة التي قام بها لتوسيع سيطرته باعتبارها ضرورةً لتنفيذ إصلاحاته الطموحة.

لا تكمن المشكلة وحسب في صعوبة هزيمة مشروع 'إعادة إنتاج السلطويّة' المدعوم شعبيّاً، بل تكمن المشكلة في أنّ هذه المشاريع باتت تقود بشكل متزايد إلى صعود 'ديكتاتوريات شخصيّة'، وهي نوع خاص من الأوتوقراطية؛ التي تتمركز فيها السلطة بيد فرد واحد. تشير الاحصاءات إلى أن أقل من نصف حالات إعادة إنتاج السلطويّة (44% من الحالات ما بين عاميّ 1946و 1999) قد أدت إلى صعود ديكتاتوريات شخصية. ارتفعت هذه النسبة ما بين عاميّ 2000 و2010، إلى 75%. في معظم الحالات، صعد القادة الشعبويون إلى السلطة بدعم من أحزابهم السياسيّة، ومن ثمّ بدؤوا بإزاحة خصومهم ومعارضيهم داخل الحزب. لا ينطبق هذا على روسيا وتركيا وفنزويلا وحسب، بل ينطبق أيضاً على حالة أيضا ألبرتو فوجيموري في البيرو، ودانييل أورتيغا في نيكاراغوا، ورفاييل كوريا في الإكوادور. وحتى في الدول التي تهدد فيها الشعبويّة الديمقراطية دون أن تصل بعد إلى حدّ الأتوقراطية، مثل المجر وبولندا، فإنّ القادة المسيطرين كفيكتور أوربان و ياروسلاف كاتشينسكي يتمتعون بحصّة غير عادلة من السلطة.

وكما أوضحت سابقاً، فإنّ صعود الديكتاتوريات الشخصية قضية مثيرة للقلق البالغ. إذ إنّ العديد من الأبحاث في العلوم السياسية تؤكّد بأن نظام كهذا يميل إلى إنتاج أسوء النتائج الممكنة لأي نظام سياسي: فعادة ما تكون السياسات الخارجيّة لهذه الدول عدائية وكثيرة التقلّب، كما إنّها تميل إلى اعتناق مشاعر الرُهاب والكراهية تجاه الأجانب والغرباء والأقليات، كما إنّ هذه الدول غالباً ما تكون هي الأكثر اساءة لاستعمال المعونات الاجنبية، وتؤكّد الأبحاث على أنّ الدول التي شهدت صعود ديكتاتوريات شخصيّة تكون إمكانيّة تحوّلها إلى الديمقراطيّة بعد انهيار الأنظمة الحاكمة فيها أقلّ من غيرها. إنّ الحركات الشعبوية اليوم، قد تكون الوقود لأكثر أشكال أنظمة العالم إشكالية.

أخيراً، فإنّ إعادة إنتاج السلطويّة المدعومة شعبيّاً قد يهدد الديمقراطيات الراسخة. فقد أكدت الدراسات الحديثة في العلوم السياسية أن تدعيم وتمكين الديمقراطيات الجديدة يتحقق بعد مرور ما بين 17 و 20 عام على تأسيسها. وتظهر الأبحاث بأن تراجع احتمال الانقلابات بمرور هذه المدّة هو العامل الرئيسي الذي يقلل من احتمالّية الفشل الديمقراطي. على أنّ خطر 'إعادة إنتاج السلطويّة' لا يختفي بمرور الوقت كما يبدو. تعدّ فنزويلا حالة نموذجيّة في هذا الصدد. فحين تم انتخاب تشافير في عام 2002، كانت فنزويلا ثالث أقدم ديمقراطية خارج حدود الغرب الصناعي. كما إنّ الديمقراطيات في هنغاريا وبولندا كانت تعتبر راسخة، إلا أنّها شهدت انخفاضاً ملحوظاً في احترام الأسس والمعايير الديمقراطية مؤخّراً.

لا يبدو أنّ القوى التي تغذّي الشعبوية ستغادر في القريب. إذا لم يحدث شئ، فإنّ العجز الاقتصادي، والاستياء من الفساد، وعدم الرضا عن أداء الحكومات سيبقى مؤججاً لنار الشعبوية حول العالم. ولهذا لا ينبغي الاستخفاف بتهديد الشعبوية للتطور الديمقراطي. صحيح أنّ الضرر اللاحق بالديمقراطية من قبل المدّ الشعبوي في أوروبا لا يزال محدوداً حتى الآن بالمجر وبولندا، وربما يعود ذلك إلى وجود قيم ديمقراطية راسخة في أوروبا ، بالإضافة إلى مؤسسات قوية وخبرة طويلة مع الديمقراطية تقف حاجزاً حتى الآن في مواجهة المدّ الشعبويّ المضرّ بالديمقراطية. فغالباً ما تتأثّر الديمقراطيات الأقلّ تطوّراً بهذا النوع من المخاطر. في هذا الوقت، تمكّن دوتيرتي من ترويج تكتيكاته القيادية وخطاباته الحماسيّة باعتبارها حلّاً لخيبة أمل الشعب بخصوص قضايا الجريمة والفقر والفساد. ولكن، منذ أن تمّ تنصيبه في يوليو، تحرك دوتيرتي سريعاً لقمع منافسيه وتوسيع سيطرته ونفوذه الشخصي، بالتزامن مع وعوده بإعادة موضعة وتوجيه سياسات دولته الخارجيّة باتجاه بعيد عن الولايات المتحدة وقريب من الصين وروسيا.

اقرأ/ي أيضًا | ما هي الشعبوية؟

يتطلّب التخفيف من خطر الشعبوية على المعايير والممارسات الديمقراطية يقظة وتنسيقاً بين الشرائح الواسعة في المجتمعات المهددة بخطر الشعبويّة. إنّ إدراك التكتيكات والمُقاربات التي يتبعها القادة اليوم لتوسيع سيطرتهم هو خطوة أولى مهمّة لتطوير استراتيجيات فعالة لمقاومة هذه الاتجاهات. لا شكّ بأنّ الديمقراطيات الهشة هي الأكثر عرضةً للخطر، إلا أنّ الديمقراطيات الراسخة عالمياً غير مُستثناة بالطبع. فعلى المواطنين في أوروبا والولايات المتحدة أن يكونوا حذرين قبل أن يفترضوا بأنّهم محصّنون من ارتدادات شعبوية محتملة. ربما تكون تكتيكات الشعبويين ناعمة اليوم، ولكن إن سُمح لها بالانفلات عن الحدود فإنّ ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة على الديمقراطية العالمية.

التعليقات