31/10/2010 - 11:02

إدوارد سعيد في مرآة إعجاز أحمد/ فيصل دراج

-

إدوارد سعيد في مرآة إعجاز أحمد/ فيصل دراج
أكثر من سبب جعل من إدوارد سعيد مثقفاً رسولياً مدافعاً عن الحق، وأقنع القارئ العربي بأن في نقد سعيد تطاولاً على الشجاعة والحقيقة. فهذا الناقد الأدبي، الذي فتنته فكرة المنفى، دافع عن الحق الفلسطيني في أكثر مراكزالصهيونية ضراوة، وندد بالمراجع الغربية التي تخترع اسلاماً لا علاقة له بالاسلام، ودعا الى تعددية ثقافية تواجه سيطرة ثقافية احادية الصوت. أعطت هذه الاسباب سعيد هالة مشرقة، ترفض النقد ولا تحفز عليه، ونسبت اليه بطولة راسخة، لأن البطل الحقيقي هو الذي يراه الآخرون بطلاً، رغب بذلك أو اعرض عنه.

قبل ثلاثة عشر عاماً نشر الهندي اعجاز احمد كتاباً باللغة الانكليزية عنوانه: "في النظرية: الطبقات، القوميات، الآداب"، تضمنت احدى دراساته نقداً لكتاب سعيد: "الاستشراق". وقد يظن القارئ العربي، للوهلة الاولى، ان الباحث الهندي ينقد سعيد من وجهة نظر المؤسسة الاستشراقية، التي تساوي بين الاسلام والارهاب والخطاب الصهيوني والحقيقة. غير ان الامر بعيد عن ذلك البعد كله لأكثر من سبب: فالباحث الهندي، الذي يناصر القضية الفلسطينية، يُكبر في سعيد شجاعة عالية واجه بها تهديدات صهيونية متتالية، ويقاسمه نقده الشديد للتاريخ الامبريالي وثقافته، وهو مبرّأ من صناعة التزوير الأكاديمي، التي ترمي بالعرب والمسلمين الى زوايا معتمة قليلة النظافة.

وإذا كان الناقد والمنقود يتوازعان مساحة فكرية وسياسية متجانسة، فما الذي دفع بالاستاذ الهندي الى نقد سعيد نقداً شديداً يتاخم الغلظة أحياناً؟ يأتي الجواب من جهتين متقاربتين: تتحدث الأولى عن منهج تعميمي يعوزه التدقيق ويحتشد بمواد متنافرة، وترفع الثانية صوتها دفاعاً عن ماركس والماركسية، ذلك ان سعيد شاء، على طريقته، أن يكون ماركسياً، بعد ان جعل ماركس مستشرقاً مع غيره من المستشرقين، وبعد ان جزأ الماركسية الى قطع متناثرة، يأخذ منها ما يشاء ويرفض ما لا يرغب به، ان لم يحولها الى جملة اسماء متراصفة فقيرة المضمون. ولعل هذه الانتقائية المتغطرسة، بلغة اعجاز احمد، هي التي جعلت سعيد يردد، الى حدود الاسراف المجاني، أسماء ماركسيين مثل ريموند ويلمز وجورج لوكاتش وانطونيو غرامشي، من دون العودة الى المفاهيم الماركسية الأساسية مثل: الطبقات الاجتماعية ونمط الانتاج والقوى المنتجة... كأن سعيد كان يرى الى جهة ويذهب الى اخرى، مبتعداً ما يمنع دخوله الى القاعات المضيئة الواسعة، ومقترباً من كل ما يضعه في مواكب الأضواء المسيطرة، كما يلمح اعجاز أحمد.

يأخذ إعجاز أحمد على منهج سعيد تعميماً لا ضوابط فيه ينتهي الى "غرب جوهراني" يخترع، "رومانسيا"، الشرق منذ ان وجد الشرق، ويحول دون قراءة الخطاب الاستشراقي في تاريخيته، طالما ان الاختراع الغربي للشرق يمتد من اسخيلوس الى كيسينجر. فقد رأى سعيد ان الحد بين الشرق والغرب واضح منذ زمن الالياذة ومسرحية الفرس لأسخيلوس ومسرحية الباخوسيات ليوريبيدس، مروراً بدانتي وماركس، وصولاً الى برنارد لويس. وما ينساه سعيد، كما يرى أحمد، ان ما قال به هوميروس او أسخيلوس لم يكن انعكاساً لـ"غرب" أو "أوروبا" بصفتهما كياناً حضارياً، بالمعنى الحديث والمتميز، لأن خريطة العصور القديمة الحضارية، كما خيالها الجغرافي، مختلفة عن الخريطة والخيال اللذين ابتدعا في أوروبا ما بعد النهضة. يجعل هذا التعميم الحدود مانعة بين الاستشراق والكولونيالية، بل يضع الكولونيالية، وهي ظاهرة حديثة، في زمن تاريخي محدد، ويرمي بخطابها الى زمن سحيق لا بداية له. وصل سعيد الى ما وصل اليه وهو يقارن، بحذق كبير، بين نصوص ادبية مختلفة الازمنة، من دون ان يربط بين النصوص والماديات الاجتماعية، كما لو كانت الامبريالية تولد من قراءة النصوص والتعليق عليها، على مبعدة من الاقتصاد والسياسة والتحولات الاجتماعية.

تدور النقطة الثانية حول ما يدعوه احمد بـ"بلاغة الاهمال وصرف النظر"، التي تقود سعيد الى تأويل ماركس من دون ان يقرأه، او ان يعنى بدراسة ما كتبه عن الهند والاستعمار البريطاني، في شكل كامل ونزيه، مكتفياً بتصورات قاصرة جميلة الصوغ. لا تمس هذه النقطة خطأ في المنهج، ولا تنبعث من اختلاف ايديولوجي بين الناقد والمنقود، بل تحاكم "بلاغة الاهمال"، التي تنسب الى ماركس موقفاً غريباً عنه. فقد ندد سعيد بماركس مرتين: مرة أولى حين اعتقد ان في الاستعمار البريطاني درباً الى تحرر الهند، ومرة ثانية حين تعامل في شكل عنصري مع شعب هندي يستعذب السبات ولا يقوى على اليقظة. في مقابل هذا الموقف يرى أحمد ان ماركس لم يفصل بين التحرر الهندي والتحرر الانساني قبل ان يبرهن، متكئاً على النصوص، بأن سعيد لم يقرأ كل ما كتبه ماركس عن الهند، وبأنه أضاف الى نقص معرفته "ميلاً طائشاً الى اضفاء طابع نفساني على الأمر"، كما لو كانت "عنصرية ماركس" منعته من فهم الواقع الهندي والتعاطف مع الهنود، لأنهم "شرقيون" يحتاجون الى طرائق من التعامل تلائم شرقيتهم.

في لغة غير مبرّأة من السخرية والاستخفاف يأخذ أحمد على سعيد شغفه الشديد باستظهار مجموعات من الاسماء الثقافية لا تنتهي، مشيراً، بصوت مهموس أو عال، الى أمرين: عدم تجانس الاسماء في الاقوال والمواقف، كأن يضع سعيد انطونيو غرامشي وجوليان بندا في حقيبة واحدة، وعدم التعامل المنسق مع الانتاج الفكري لهؤلاء الذين يراصف سعيد اسماءهم. يتكشف الأمر الأول، أو "الضروب المنتفخة من الاسترضاء"، كما يقول أحمد، في حديث سعيد عن المثقفين و"الخيانة الجماعية المعاصرة"، حيث يعطف، بلا قلق، جوليان بندا "مناهض الشيوعية المسعور" على انطونيو غرامشي "أحد الشيوعيين الأشد دأباً في القرن العشرين"، موحياً بأنهما يتقاسمان مواقع نظرية وسياسية متماثلة. ولهذا يظهر عطف كتاب "خيانة المثقفين" على "دفاتر السجن" عملاً تعسفياً يثير الفضول، فالأول يدين المثقف الذي يهجس بـ"أهواء سياسية"، بينما يرى الثاني في المثقف علاقة سياسية، في التحديد الأخير. تتراءى من جديد "بلاغة الاهمال" التي تتكشف في قراءة منقوصة، أو "بلاغة الابتداع"، التي تمليها ذاتية واسعة مغتبطة. لن يختلف الأمر في حال غرامشي، الذي يعود اليه سعيد في كتبه كلها، بعد ان صيّره ثابتاً من ثوابته الفكرية.

لكن سعيد يختلس من الماركسي الايطالي ثلاثة أبعاد جوهرية فيه: يفصله عن ماركس، الذي أصبح في كتاب الاستشراق وجهاً آخر من وجوه فلوبير، ويفصله عن السياق الفكري الذي أنتج أفكاره، ويعزله في النهاية عن مشروعه السياسي الثوري، كي يتحوّل الى مثقف بين مثقفين نقديين آخرين. ولهذا يقول اعجاز أحـــمد: "ان غرامشي لن يعني سوى القليل حـــين نجرده من ميراثه"، الأمر الذي يعني ان ســـعيد تعامل مع هذا "القليل" واكتفى به، مثلما اكتفى بذلك "القـــليل" وهو ينزل بـماركس احــكاماً عـــقابية ثقــيلة.

في الصفحات الاولى من كتابه الاستشراق يتوقف سعيد أمام سطور لغرامشي تتحدث عن "الجرد منذ البداية"، التي تحيل على "وعي المرء لما هو عليه حقاً". والمقصود بذلك جملة العوامل الثقافية الأولى التي شكلت وعي سعيد في دوائر اكاديمية أميركية، وجملة العوامل الثقافية اللاحقة التي دفعت به الى التمرد على الدوائر الاكاديمية، والى الالتحاق بنسق من المثقفين يرى الى المعرفة من وجهة نظر "الحقيقة" لا من وجهة نظر الاختصاص. كشف هذا الانتقال عن "الذات الشرقية"، أي عن ذات سعيد، التي أرادت أن تصفي حسابها مع موروث ثقافي امبريالي، يخترع الشرق ويمطر الشرق المخترع باتهامات كثيرة. بهذا المعنى نقد سعيد الثقافة الغربية من وجهة نظر تجربته الثقافية والوجودية، أي من وجهة نظر المثقف الفلسطيني العربي الحاصر بدوائر اكاديمية تكره الفلسطينيين والعرب، منتهياً الى معادلات فكرية قلقة تعطي المعرفي بعداً ذاتياً وتنصّب هواجس الذات منهجاً فكرياً.

يدفع كتاب إعجاز أحمد الى قراءة سعيد في شكل جديد، من دون ان يخدش هذا، بقليل أو كثير، ما مثّله الناقد الراحل، معرفة وقيماً وموقفاً، ذلك ان سعيد جمع بين البحث والمجازفة، مشدوداً الى الدفاع عن "الحق" والى تسفيه الذين جعلوا من "اغتيال الحق" صناعة ثقافية مزدهرة. بعد سنوات من ظهور كتاب إعجاز أحمد، ظهرت في العربية أخيراً ترجمة مجزوءة له بعنوان "الاستشراق وما بعده"، أنجزها ثائر ديب في شكل يليق بالناقد والمنقود، ويليق بالقارئ الذي لا يقبل بالأحكام النهائية وتصنيم البشر.

التعليقات