31/10/2010 - 11:02

بعين واحدة نراها، وبساق واحدة نصلها /رشاد أبو شاور

-

بعين واحدة نراها، وبساق واحدة نصلها /رشاد أبو شاور
لم يلتق أولئك الفلسطينيون في مخيّم من مخيمات (الدول) العربية المجاورة لفلسطين، ولكنهم توافدوا من 23 دولة أوربيّة والتقوا في العاصمة النمساويّة (فييّنا).
توافدوا جوّاً، وبرّاً في حافلات قادوها قاطعين آلاف الكيلومترات، متحملين العناء، تلبية لدعوة (عامة)، علي نفقتهم مصاريفها وتكلفة الوصول إلي مكانها.

بعض من وفدوا بحافلاتهم كانوا بعين واحدة، أو بساق واحدة، عين فقدوها في واحدة من معارك حريّتها، وساق بترت إذ اخترقها رصاص أو شظايا قنابل وصواريخ جيش الاحتلال، في واحدة من معارك اقتحام حصونه أو التصدي لزحفه لتوسعة احتلاله في بلاد العرب.

التقيت بكثيرين هناك بعد سنوات فراق، وما حسبت أنني سألتقيهم منذ فارقتهم في بيروت،أو دمشق، أو تونس.
طقس فيّينا متقلّب، شمس تارة، أمطار ناعمة ولذعة برد تارة أخري، ولكن حرارة عواطف الفلسطينيين دفّأت قلوبهم، وأشاعت الضحكات بفرحة اللقاء بعد سنوات الفراق. كنت ما أن انشغل قليلاً بالحديث مع صديق قديم حتي أهّب لعناق مندفع يقتحم مدخل الفندق بصخب الفرح وحيويّة اللقاء.

بالأحضان يا اخوتنا وأخواتنا، هكذا نلتقي متناسين خلافاتنا، وحساسيات أرهقتنا أحياناً، ونفّرتنا من بعضنا أحياناً.
ها نحن نلتقي علي اسمها: فلسطين، والعهد الذي يجمعنا: حّق العودة، ورفض التوطين، منشدين مع شاعر (الناصرة) وصمود الأهل هناك:
كأننا عشرون مستحيل
في اللد في الرملة في الجليل

عشرون مستحيل ! لا، بل ملايين المستحيلات، فكّل فلسطيني يطوي بين جنبيه وعده وعهده بالعودة إليها، فإن لم يستطع فإنه يوّرثه لابنه أو ابنته، والفلسطينيّة المنجبة ترضع نسلها حليب الوفاء، وهكذا فنحن ملايين المستحيلات.أليس هذا ما عشته في تلك الأيّام القليلة التي مرّت كالحلم في فيّينا؟!

أصغي علي صوت القادم من القدس قاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير رجب التميمي وأراه يلوّح بقبضته مع منشدي فرقة (الاعتصام) القادمة من جليل فلسطين لتنشد:
يا أقصي نحن فداك
نحميك بارواحنا

وأصغي لصوت الأرشمنديت الفلسطيني عطا الله حنّا عبر الهاتف وهو يخاطب المؤتمرين، فيتضافر صوت الأذان برنين الأجراس، فيندلع نور القدس بين الأرض والسماء، فيري جرحي فلسطين وأبطالها أنفسهم يتجددون في الأطفال والطفلات الذين يرقصون علي خشبة المسرح ملوّحين بأعلام فلسطين، وفيهم أطفال من مصر وسوريّة، أطفال فلسطهم أهلهم، ربوهم علي إن فلسطين تخصّهم كما تخّص أطفال فلسطين، فهناك علي ثراها يتقرر مصيرهم ومستقبلهم كجيل عربي، وما تليه من أجيال.

يمتّد اليوم الفلسطيني، يوم 7 أيّار، منذ الصباح الباكر إلي فجر اليوم التالي: لجان، كلمات رسميّة، مداخلات، غناء ودبكات لشباب اشتاقت أقدامهم لثري أرضهم، شعر فصيح وشعر باللهجة المصرية المحببة، وطعام عربي أعدّته نساء فلسطينيّات في الحديقة، وحلويات مفرودة تثير الشهيّة وتستدرجك للتنازل عن الريجيم، وحوارات، وكاميرات تلتقط الصور، و...

ما هذا اليوم الفلسطيني، هذا اليوم الذي لفلسطين، الذي يعيدنا إلي أيّام الاحتفالات الكبري في (بيروت)، أقصد أيام عّز المقاومة؟.

تفرحني دقّة التنظيم، وقدرة أخوتنا وأخواتنا فلسطينيي النمسا، ورحابة صدر القائمين علي مركز العودة بلندن، وحيويّة كهول وشابّات وشباب التجمّع العربي النمساوي الثقافي في فيّينا، فيداخلني فخر، وتكبر الثقة بقدرتنا علي العمل والنجاح عند توفّر الجديّة والمصداقيّة.

علي مدي ثلاثة أيّام امتلأ الحاضرون بالحماسة، تبادلوا العناوين، وتجادلوا بالتي هي أحسن، وتحاوروا في سبل تأطير العمل لصون حّق العودة، فتجلّت الخبرات، وهو ما أكّده حاضرون شاركوا في مؤتمري العودة السابقين، أبدوا رضاهم عمّا لمسوه من تطوير في أسلوب التحضير والإدارة وتسيير وقائع ذلك اليوم الغني.

لم ينس الجرحي الفلسطينيون الذين اضطروا للهجرة إلي بلدان أوربّة، ولا فترت هممهم، بل يمكن القول إنهم بثّوا فينا الحماسة نحن القادمين من الأقطار العربية ، وجددوا فينا العزيمة، فهم حملوا أطفالهم وألبسوهم الكوفيّات وعلّموهم الأناشيد والرقصات، وهم كما ردّد بعضهم: فقدت عيناً ولكنني بعيني الباقية أري فلسطين بكامل بحرها وبيّاراتها وقراها ومدنها، وإليها أمشي بساقي الواحدة فلا أخون ساقي التي دفنتها هناك بعيداً...

بعين واحدة وساق واحدة يسوق سيّارته آلاف الكيلومترات ليلتقي ليومين بأهله، ينشد معهم، يضّم قبضته لقبضاتهم، صوته لأصواتهم: سنعود...

يلتقي الفلسطينيون في فيّينا علي ما هو جوهري، يجتهدون في كيفية المضي قدماً، واللقاء في مؤتمر أكثر تنظيماً وأوسع تمثيلاً.

جنود وجنديات مجهولون وقفوا وراء نجاح المؤتمر، بذلوا الجهود، انخرطوا في اتصالات تواصلت لأشهر، لم يصعدوا إلي المنصة ليتبروظوا مدّعين أنهم الكّل في الكّل.مثل هؤلاء، وهاته، من يحتاجهم شعبنا ليتجاوز الخراب، والفساد، والعشوائيّة، والارتجال...

في المؤتمر الثالث لفلسطينيي أوربة جددت صداقات، ونشأت بيني وبين فلسطينيين سعدت بالتعرّف بهم مودّة وصلاة أخوّة.
غادرت فيّينا الجميلة مدينة الموسيقي التي تجوّلت في بعض شوارعها، وتناولت القهوة في بعض مقاهيها، وتأمّلت مع المهندس (أبوأحمد) أشهر كاتدرائياتها واستمتعت بشرحه عن الفّن القوطي وعلاقته بفّن الهندسة العربي خاصة (الأقواس)..وأنا أمضي عزيمة، وأكثر ثقةً بالمستقبل.

وهكذا يمكن للفلسطيني أن يجد وقتاً لتناول الطعام في مطعم أنيق بسيط حسن الإضاءة ـ لا بدّ من تذّكر قصّة آرنست همنغواي: مكان نظيف حسن الإضاءة ـ ويتناول القهوة في شارع لا تزعجه فيه أبواق السيّارات ويسمّم تنفّسه دخان عوادمها...

أليس من أجل هذا يكافح الفلسطيني؟ من أجل امتلاك الحق في الاستمتاع بالسباحة في بحر يافا، وأكل لقمة هانئة في مطعم عكّاوي، أو الاسترخاء بكسل تحت شمس رام الله ، أو في شتاء أريحا اللذيذ، أو علي رمال غزّة ، أو في ذري جبال نابلس والخليل والكرمل العالي، والصلاة لرّب العالمين في الأقصي والقيامة ؟!...

من هي الآلهة التي حكمت علي الفلسطيني بالغربة، والموت بعيداً عن بيت أبيه وأمّه؟ عن حقله، عن بحره، عن نهره؟.
هناك التقينا في (فيّينا) واستذكرنا نشيد الصعود في السمفونية التاسعة لبيتهوفن، فصعودنا هو صعود للإنسانيّة، ونحن ننتمي للشعب الذي انجب: إميل لاما، وباتريك لاما، وسلفادور عرنيطة، ورياض البندك، ويوسف خاشو، وواصف جوهريّة...

هناك رأيت فلسطينيين يدبكون ـ الرقصات الشعبية الفلسطينيّة ـ بساق واحدة، يقبلون علي الحياة، فأمهم فلسطين تمنحهم أقداماً وعيوناً وأجنحةً تحلّق بهم عالياً.

التعليقات