31/10/2010 - 11:02

محمود درويش: كنت أخبئ ما أكتب تحت المخدة خوفًا من اقتحام الجنود

-

محمود درويش: كنت أخبئ ما أكتب تحت المخدة خوفًا من اقتحام الجنود
بثت القناة التلفزيونية المغربية الثانية، "دوزيم" مؤخرًا حديثًا صحافيًا شاملاً خصّها به الشاعر الكبير محمود درويش، الذي التقاه في الرباط الإعلامي الكاتب عبد الصمد بن شريف، على هامش المؤتمر الرابع عشر لاتحاد كتاب المغرب، أواخر شباط المنصرم.

وانصبّ جزء كبير من الحوار على تجربة دوريش الشعرية، واصلاً بين قصيدة مديح الظلّ العالي التي كتبها شاعر فلسطين الأول بعد حصار بيروت سنة 1982، وقصيدة "حالة حصار" التي كتبها خلال الشهور الأخيرة من وحي التطويق الأمني والعسكري الإسرائيلي لرام الله.

ويؤكد درويش في الحوار على أنّ الحصار الأخير ولّد لديه نوعًا مما أسماه الانتقام الشعري، وذلك بكتابة قصيدة هادئة ساخرة تتأمل الحياة اليومية. ويقول إنه كان يتحرر تدريجيًا عن طريق اللجوء إلى عالمه الداخلي/ الشعري. ومن جهة أخرى، فمحمود دوريش، وإن كان يتلافي توجيه الاتهام لأيّ أحد بشأن مقتل الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلا أنه يؤكد أنّ شارون سمّم حياة عرفات ووجوده بمحاصرته في المقاطعة وشلّ قدرته على العمل والمبادرة بالديناميكية التي كانت معهودة فيه، وذلك لمدة عامين.

ويرى درويش أيضًا أنّ الحكومة الإسرائيلية الحالية تشكل عقبة أمام السلام من خلال رفع اللاءات الأربع: لا للعودة إلى حدود 1967، لا لعودة اللاجئين، لا للقدس، لا لتفكيك المستوطنات، موضحًا أنّ الأمر ازداد تعقيدًا بعد دخول حزب "العمل" للائتلاف الحكومي.

وعلى صعيد آخر، كشف درويش أنه خصص جزءًا كبيرًا من القيم المالية للجوائز التي حصل عليها كمساعدات لبعض المؤسسات وللأشخاص المحتاجين.

إستهل الإعلامي المغربي عبد الصمد بن شريف الحوار الذي أجراه مع محمود درويش في القناة الثانية بالتقديم التالي:
"الجلوس مع الشاعر محمود درويش له نكهة خاصة، ليس لأنه شاعر فلسطين وعنفوانها الآخر، ولا لحضوره الرمزي الكبير عربيًا وكونيًا، ولكن لأنه حالة شعرية وثقافية متميزة، متعددة، ممتدة وغنية بالتجارب والأسئلة والامتدادات والرهانات.

"محمود دوريش يتقن فن التواصل، ويحثك على نسج علاقة به. يلح على الكلام والحديث العابر. سافر كثيرا ورحل في أكثر من اتجاه، له قدرة فائقة على إقامة ألفة مع الأمكنة حيث يروّضها ويجعلها حميمية وقريبة ولو كانت غريبة وعصية. شاعر يحمل نفسه أسرارًا، وإقامة يقيم فيها مشيدًا في فضاءاتها عالمه الخاص. محمود دوريش يتوجّس من السياسة، وأحيانا يتجنب الخوض فيها ولو كانت حاضرة في شعره. ويتوجس من الكاميرا، وهو لم يشعر أبدًا بأنّ وجهه تحبه الكاميرات، حيث يشعر أنه تحت وطأة سلوك خاص ورسم له متطلبات التخاطب.

"محمود دوريش قامة شعرية وإنسانية كبيرة، فشعره طوق نجاة ضد الإحباط واليأس. يعلم أنّ الجدران والحواجز ليست فوق الأرض، وإنما في داخل الإنسان، وشعره الجديد يؤسس لفضاءات جديدة، يلتقط اليومي والتفاصيل الصغيرة شعرًا يحرّض على التأمل."

- كان للأمسية التي أقمتها في مسرح محمد الخامس بمناسبة انعقاد المؤتمر السادس عشر لاتحاد كتاب المغرب طابع خاص. كيف شعرت خلالها وكيف تواصلت؟ وهل ضمنت أنّ الجمهور ما زال رأسمالك بامتياز؟

درويش: "عليّ أن أعترف بأنّ لي علاقة خاصة مع جمهور الشعر في المغرب، وبالذات في مسرح محمد الخامس. فهذه الأمسية هي الخامسة التي أحييها في هذا المسرح الذي أشعر بأنه تحول إلى حيّزي الشعري الخاص. وبالتالي، أشعر بأنّ الألفة والحميمية السرية قائمة بيني وبين جمهور الشعر في المغرب، كما أشعر بذلك في دمشق وفي بعض العواصم العربية الأخرى.

"كنتُ مرتاحًا جدًا. ولكن قبل الدخول إلى هذا المسرح، لا بد ـطبعًاـ من إحساس ما بالخوف الشديد والتوتر اللذين يلازمانني دائمًا قبل أن أبدأ القراءة. ولكن، بعد دقائق معدودات أحسّ بأنّ الجو انبسط، وأصبح أكثر صفاءً، وأشعر بأنني أقرأ لأصدقائي ولا أشعر بأنني أقرأ لجمهوري الكبير كِبَر الجمهور الذي امتلأ به مسرح محمد الخامس."

- القصائد التي قرأتها أو أنشدتها، هل أملاها السياق؟ أم أملاها الجمهور؟ أم تحكمت أنت في اختيارها؟

درويش: "دائمًا أقع في حيرة من أمري تجاه ما أختار. أريد، أولا، أن أرضي نفسي الشعرية، وأريد أيضا أن أرضي الذائقة الشعرية العامة، وأريد أن أرضي بعض المتطلبات المحيطة بهذا الجو، وأختار في اللحظة الأخيرة ما سأقرأ. ولكن، في الأمسية الأخيرة بمسرح محمد الخامس، اخترت أن أقرأ بعض المقاطع من "حالة حصار"، لأنني أشعر بأنّ الجمهور يطالبني ـمن دون أن يعلن عن ذلك ـ بأن أقول شيئًا عن الوضع في بلادي، خاصة وأنّ حالة الحصار في فلسطين مستمرة، سواءً أكان حصارًا عسكريًا أم سياسيًا أم إقتصاديًا أم ثقافيًا. وبالتالي، بدأتُ بقراءة هذه المقاطع لأعلن هويتي الوطنية في البداية، ثم أعلن هويتي الشعرية التي هي خارج حدود الوطنيات والقوميات، بل على العكس: هي تسبح في فضاء إنساني أوسع."

- ضمن مشروعك الشعري، أنت تراهن على قارئ ضمني يتجاوز المباشرية والنزعة الحماسية والخطابية إلى ما هو أعمق؛ بمعنى أنك تتيح له فسحة للتأمل. هل يعني هذا أنك أريح مما كنت في السابق؟

درويش: "من حسن حظي أني عودت قارئي أنني لا أكرر ما قرأتُ سابقا، ولا أكرر النفس الشعري القديم الحماسي أو المباشر أو غيره من الوصفات التي لم تعد تتفق مع جمالية الشعر. ومن حسن حظي أكثر أنني كسبت ثقة القارئ، فأصبح راضيًا عما أقدمه له من جديد. بل بالعكس، إنه يتوقع مني أن أقدم له جديدًا، لا أن أكرر قراءات قديمة أو الأشعار التي كان يحبها. هذه الثقة التي أعطاني إياها القارئ سمحت لي بتطوير أدواتي الشعرية وبالبحث عن تطوير جماليات القصيدة، وبالتالي أصبح القارئ أحد نقادي الذين ساعدوني على التطور.

"وأنا، كذلك، ساعدت القارئ على أن يتحرر من ذائقة شعرية ما نحو ذائقة شعرية أرقى، تكون فيها العلاقة بين الجمالي والإنساني علاقة أكثر انسجامًا من الشعر المباشر أو الشعر السياسي الخطابي."

- لاحظنا أنه عندما كنت تلقي قصيدة "مديح الظل العالي"، كانت النبرة الإنشادية حاضرة بقوة، وكان الجمهور يتفاعل معها أكثر من تفاعله مع قصائد أخرى. هل يعني ذلك أن تلك القصيدة ما زالت تمتلك نفس القدرة على التأثير والجذب كما كان الأمر في السابق؟

درويش: "يبدو أنّ هذه القصيدة استقرت في ذاكرة الناس الشعرية، وبخاصة أنها قصيدة طويلة ومتعددة المستويات. وأعتقد أنّ بعض المقاطع فيها ما زالت صالحة للحياة في الراهن، وقد يصلح بعضها أيضا للحياة في المستقبل. لكنني أعتقد أنه لم يعد للجانب التسجيلي منها محل في المدونة الشعرية الحالية."

- وأنت اخترت الجانب المتعلق منها بالحصار، ورسمت سياقا لذلك؟

درويش: "نعم، لقد بدأت الأمسية بمقاطع من "حالة حصار" الجديدة التي كتبت منذ سنوات قليلة، وذكّرت القارئ بأنّ حالة الحصار مستمرة، وبالتالي استعنت ببعض المقاطع من قصيدة "حصار بيروت" المعروفة باسم "مديح الظل العالي". ومن ثم، وددتُ التأكيد على أنّ سياق الحصار ما زال مستمرًا وحالة الحصار ما زالت مستمرة، وأنّ الحصار ليس فقط حصار مدينة رام الله في عام 2002، بل الحياة الفلسطينية كلها تعيش حالة حصار طويل، للأسف."

- حصار 2002 في رام الله والمقاطعة كان من اللحظات المؤلمة والمأساوية التي مررت بها ومر بها الرئيس الراحل ياسر عرفات والشعب الفلسطيني. كيف تصف أو تقدم لنا إحساسك بتلك اللحظة المأساوية؟

درويش: "ليس هناك شك في أنّ للحصار عدة مستويات: هناك الحصار بالمعنى الواسع للكلمة، أي الذي رآه الفلسطينيون منذ أكثر من خمسين عامًا. وهناك، أيضا، الحصار بالمعنى المباشر، أي العسكري، حيث تجد الدبابة تحيط بمنزلك أو على باب بيتك، وحيث تسير في الشارع بين الدبابات. هذا النوع من الحصار أثار فيّ نوعًا من الانتقام الشعري. أنت لا تستطيع أن تقاوم هذه القوة المدمرة أو هذا المعدن المسلح إلا بالسخرية منه واللجوء إلى مصادر قوة داخلية؛ هذه المصادر تنخرط في بحث عن قصيدة مضادة لهذا الشكل من الحصار، هي القصيدة الهادئة الساخرة التي تتأمل حياتها اليومية متحررة من ضغط الحصار، وكأنها تدعي حيادا ما كي تجد مساحة للنظر إلى حياتها بطريقة تجعلها مفتوحة على أفق آخر. لذلك، كنت أراقب طيران الحمام عندما تختفي الطائرات، كنت أبحث عن عناصر الطبيعة الباقية التي لا تتعرض لأيّ تأثير من تأثيرات الحصار، أي إنني كنت أبحث عن داخلي الإنساني وعن قوة الأمل وقوة الطبيعة وقوة العشب كلغة مضادة للغة الحديد والعنف والقنابل.

"ومن ثم، كنت أشعر بأنني أتحرر تدريجيًا باللجوء إلى عالمي الداخلي، عالمي الشعري. وكلما كتبت سطرًا، كنت أشعر بأنّ الدبابات تبتعد مترًا. هذا نوع من التواطؤ مع النفس أو مع اللغة الشعرية، قد يشكل في حدّ ذاته مصادر قوة للإنسان المحاصر."

- هل أدركتَ، في لحظة ما، أنّ الكتابة بهذه الطريقة والتقاط التفاصيل والجزئيات والتشبث بما يؤشر على الحياة قد يكون أقوى من مشروع سلام أو من مواجهة أو من عملية تفجيرية؟

درويش: "كما قلتُ، يبقى التأمل في ما يؤشر إلى الحياة وقوة الحياة والأشياء الصغيرة هو البحث عن سلام حقيقي مع النفس ومع الآخر. ولكن، ما يجري على الأرض يعد مضادًا لكل سلام حتى بمعناه الرسمي.

"للشاعر لغته وأدواته الشعرية، وللآخرين لغتهم، وللعدو لغته العسكرية، ولكل إنسان لغته. ولكن عملية البحث عن سلام داخلي هي سابقة لعملية البحث عن سلام مع الآخر. يجب أن تتوازن أنت شخصيا، وأن تشعر بقوتك الإنسانية وبثقتك وبحقوقك ومطالبك وهويتك، لكي تستطيع أن تتقدم نحو سلام يبدو -حتى الآن- مستحيلا مع الآخر، ليس بسبب رفضنا، ولكن بسبب الشروط التي يطرحها الآخر علينا من أجل تحقيق ما يسميه سلامه، الغريب والمثير للدهشة."

- هل حققتَ في حالة حصار طموحَك الشعريّ والجماليّ وفي الوقت نفسه استطعت أن تلبي انتظارات القارئ، يعني أنك عكست وجسدت معاناته وآلامه؟

درويش: "أنا حاولت في هذه القصيدة أن أبلغ أقصى درجات التقشف الجمالي، بالتخفيف من الاستعارات والبلاغات، في محاولة لكتابة يوميات بسيطة جدًا، ولكن قد تكون بساطتها أقوى من البلاغة العالية. وحاولت أن أبرّد من سخونة الكلمات. أنت لا تستطيع أن تواجه قوة عسكرية بلغة عالية، لا تستطيع أن تواجه صوت الطائرة الصاخب بصوت شعري صاخب. إذًا، أنت تبحث عن شيء مُضاد، عن لغة مضادة، عن صوت منخفض، كي تحقق شعريتك وقوتك الذاتية الخاصة في مقاومة العنف والوحشية العسكرية. وبالتالي، هذه القصيدة هي إضافة نوعية إلى عملي الشعري، لأن فيها المباشرة البسيطة ولكن من غير حماسية ومن غير تبشيرية. إنها تبحث عن حياة ما مفقودة في داخل الحياة، تبحث عن حياة مُجزأة مبعثرة، قد يلمها الشعر، لكي تكون حياة متخيلة. كنت أبحث عن الطبيعي والعادي، وليس عن الأسطوري ولا عن المرحلي."

- كتابة هذا الديوان، هل تمّت وفق الشروط التي كنتَ أنتَ فيها محاصرًا، كتبتها في الصباح والمساء، كان هناك حصار وضرب وتقتيل... ما هي هذه الطقوس والشروط؟

درويش: "هذا سؤال جيد، معروف أنّ من عاداتي أنني لا أكتب إلا في الصباح وذلك منذ حوالي عشرين أو ثلاثين سنة، ولا أستطيع أن أكتب شيئًا في الليل أو بعد الظهر، إلا في هذه القصيدة، لأنّ ضغط الحصار عليّ كان حادًا وقويًا، إلى حد أنني في كل ساعة كان علي أن أحرر نفسي من هذا الحصار، ولم أجد من وسيلة أو سلاحًا للمقاومة إلا بانقلاب على عاداتي في الكتابة. ولذلك، كنت أكتب في الصباح وبعد الظهر وفي الليل أيضا، وكنت أخبئ ما أكتب تحت المخدة خوفًا من اقتحام الجنود، لأنّ الجنود كانوا يقتحمون البيوت في أية لحظة، فكنتُ أبعثر الأوراق وأخبئها في أمكنة قد لا يحصل عليها الجنود."

- هل ثمة تشابه بين حالة حصار رام الله والمقاطعة والحالة التي عشتها في بيروت سنة 1982؟

درويش: "من حيث الكتابة، لا. لم يكن هناك تشابه، ففي بيروت لم أكن أستطيع أن أكتب إلا مقالات. واختزلتُ التجربة في قصيدة عندما خرجتُ من بيروت، وهي "مديح الظل العالي". في بيروت كان العنف أضخمَ، كانت حربًا عسكريةً بكل معنى الكلمة، من الحروب الكبرى التي استخدمت فيها كمية ونوعية كبيرة من السلاح. أحيانًا كانوا يجربون أسلحة حديثة. وكنا نشعر بأنّ هذه الحالة مؤقتة. الغارة العسكرية دامت شهرين، ولكن ستنتهي. أمّا حالة رام الله فقد كانت جزءًا من حصار طويل يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ سنين طويلة.

"لذلك، كان عليّ أن أتعايش شعريًا مع هذه الحالة الطويلة ولا أنتظر انتهاءها لكي أبدأ الكتابة من جديد. ومن هنا، كنت أكتب في رام الله كل يوم، بينما في بيروت لم أكتب إلا بعض المقالات، ولم أكتب شعرًا، وعشتُ لحظات استفدت منها فيما بعد في قصيدة "مديح الظل العالي"."

- هل كنتَ تتواصل أثناء الحصار مع رموز وشخصيات فلسطينية وأخرى عربية تأتي من الخارج؟

درويش: "كان الحصار مضروبًا بقوة، إلى حدّ أننا لم نكن نخرج من البيوت. فالحصار رافقه منع التجول. كان علينا أن نبقى في البيوت ثلاثة أيام. وكانوا في اليوم الرابع يسمحون لنا بالخروج للتزوّد بالمواد الغذائية الأوّلية كي يديموا الحصار أكثر، وكي نتحمل نحن أيضا القدرة على العيش في ظل هذا الوضع. كنا نتواصل عن طريق الهاتف والأحاديث مع الصحافيين من الخارج."

- أحد ضحايا هذا الحصار، كما نعرف، هو الرئيس الشهيد ياسر عرفات. أنت كتبتَ نصًا جميلاً جدًا اختزلتَ فيه شخصية عرفات الرمز والأسطورة والإنسان والضحية. كيف كنتَ تتأمل عرفات حين يخرج من المقاطعة في اتجاه باريس للعلاج ويعود من هناك محمولا فوق الأكتاف ليمرّ نحو القاهرة كي يسدّد بعض دينه العاطفي، ثم يدخل إلى رام الله، وكانت أجواء الجنازة حماسية ومندفعة؟ كيف تسجل في ذاكرتك هذه اللحظة؟

درويش: "هي من اللحظات التي لا تُنسى في ذاكرة أيّ فلسطيني أو أيّ إنسان عربي شاهد أو اطلع على هذا المشهد التراجيدي. لا شكّ في أنّ نهاية عرفات كانت نهاية تراجيدية مؤلمة، اختلطت فيها كل عناصر الأسطورة وأيضًا كل العناصر السياسية الركيكة التي أحاط بها الإسرائيليون نهاية عرفات. فكان هناك خلط ما بين الأسطوري والبراغماتي واليومي أو العادي.

"أنا كنتُ حزينًا جدًا على هذا المشهد، وحاولتُ أن أقرأ فيه سيرة هذه الأسطورة، ولكن قرأت في موت عرفات موتا سياسيًا من قبل. لستُ متيقنا مما إذا كان عرفات قد سُمّم أم لا. ولكن مما لا شك فيه أنّ شارون قد سمم حياة عرفات."

- إذًا، فشارون مسؤول عن موت عرفات؟

درويش: "لا أستطيع أن أتهم أحدًا بوضع السمّ لعرفات، السمّ بالمعنى الطبي للكلمة. ولكن شارون سمّم حياته ووجوده بهذا الحصار الذي شلّ قدرة عرفات على العمل والمبادرة والديناميكية التي كانت معهودة فيه، لمدة حوالي سنتين. فكان عرفات سجينا بالمعنى المباشر للكلمة، مما أثر على قدرته على إدارة الحياة الوطنية الفلسطينية. ولكن عرفات سيبقى، في آخر الأمر، يحتل جزءًا حميميًا في كل واحدٍ منا، لأنّ في كل واحد منا عرفات؛ فقد أقام علاقات خاصة مع كل مواطن تقريبا.

"وعرفات -أكثر من ذلك- هو الذي أعاد الحياة لاسم فلسطين في الوعي الإنساني والدولي، ووضع القضية الفلسطينية على الخارطة السياسية العالمية. وبالتالي، فإنجازه الكبير في المنفى وفي بعث القضية الفلسطينية من جديد، لا يمكن أن يتعرض للاتهام والشك. "

"النقاش حول عرفات يدور حول جانبه الإداري. هل استطاع هذا الرمز الأسطوري أن يدير دولة أو مشروع دولة؟ هذا سؤال مطروح على الفكر السياسي الفلسطيني وعلى المؤرخين في العالم بشكل عام."

- طيب، كانت تربطك بعرفات علاقات إنسانية. ما هي اللحظات القوية التي عشتها معه؟

درويش: "اللحظات القوية كانت وقت حصار بيروت، حيث كنت أراه كثيرا، ينتقل من مكان إلى مكان. أحيانًا كان ينام في كراج السيارات، لأنّ أية بناية كان يدخلها كانت ُمعرّضة للخطر الكبير وللقصف الجوي أو البري. وكان شجاعا ومتفائلا جدا؛ ففي عزّ الحصار، استدعاني لمكان ما في بيروت، وفوجئتُ بأنه كان يستقبل صحافيًا إسرائيليًا، هو أوري أفنيري الذي يُعدّ من أكبر المعبّرين عن الضمير اليهودي الحقيقي، رجل سلام بالفعل، ويؤمن بحق الفلسطينيين في الاستقلال والحياة. كان يجري حديثا صحافيًا مع عرفات، وسأله: "إلى أين أنت ذاهب؟" (وكانت هناك اتفاقيات حول طريقة خروج الفلسطينيين من بيروت)، فأجابه عرفات من دون تردد ومن دون تلعثم ومن دون تأتأة: "أنا ذاهب إلى فلسطين!" هذا الجواب يجب أن نقرأ فيه قوة إرادة وقوة تفاؤل وقوة تنبؤ، لا يتمتع بها إلا قائد من طراز خاص، هو عرفات.

"المرحلة الثانية التي كنت قريبًا فيها منه كانت في تونس، حيث بدأ يبلور مشروعًا سياسيًا جديدًا، هو حلّ القضية الفلسطينية عن طريق قبول قرارات الشرعية الدولية وقبول قرار 242 وقبول الفلسطينيين بدولة فلسطينية تحيا إلى جانب إسرائيل. هذا المنعطف التاريخي في المسيرة الكفاحية الفلسطينية تبلور بالأساس أثناء وجود عرفات بتونس."

- من بين المحطات الأساسية التي مر بها عرفات الانتقال من نكسة الهزيمة، إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة. هل فكرة الدولة ما زالت صغيرة، أم أنها كبيرة، وأنت قلت يوما: ما أكبر الفكرة! ما أصغر الدولة؟

درويش: "الغريب أنّ المرحوم عرفات كنتُ كلما أقابله في رام الله عندما وصل طريق التسوية السياسية إلى الباب المسدود، كان دائمًا يقول لي: ما أكبر الفكرة! ما أصغر الدولة! وفعلاً، كل الأحلام تكون أكبر من شكل تحققها.

"أما في ما يتعلق بموضوع فلسطين، فأعتقد أنّ من حقّ الفلسطينيين أن يبذلوا كل التضحيات من أجل تحقيق حلم بسيط جدًا، هو دولة فلسطينية. وهذه الدولة الفلسطينية -كما هو مطروح- أكثر من 22 % من أرض فلسطين التاريخية. وبالتالي، صار الحلم صغيرًا، ولكن طريقة تحقيقه تحتاج إلى تضحيات غير معقولة. والحلم الصغير سينشئ أيضا دولة صغيرة، هي الدولة التي ستكون في قطاع غزة والضفة الغربية. حتى الآن، يجري بين الإسرائيليين نقاش في الموضوع، إنهم لا يقبلون أن ينسحبوا من الضفة الغربية بكاملها. ومن هنا، فشكل تحقيق الحلم أصبح يبرز الآن، أي أنّ الدولة ستكون صغيرة، وقد لا تكون قادرة على الحياة، ولكنها قد تلبي عطش الفلسطينيين إلى هوية تشعر بالعطش الشديد. الفلسطيني يحتاج إلى أن ينجز مشروع دولة ما مهما كانت صغيرة، من أجل أن يحتل مكانته بين الأمم، ومن أجل أن يحفظ كرامته وهويته وحقه في العيش وفي السفر.

"ولكن، منذ الآن لا أراهن كثيرا على حيوية هذه الدولة وقدرتها على الحياة أو على السيادة. فمهما كانت شروط التسوية "سانحة" فإنني أرى أنها لا تحقق نوعية سيادية حقيقية. غير أننا نحتاج لأن نضع برنامجًا محددًا، كي ندافع عن حقنا في إنشاء دولة، حتى لو سخرنا منها في صباح اليوم التالي."

- ما يحدث الآن على الأرض، هل يمكن اعتباره بداية على طريق الأمل، يعني حكومة جديدة أغلبها تقنوقراط. وهناك استعداد من طرف إسرائيل والسلطة الفلسطينية كي تلتئما مُجددًا حول طاولة المفاوضات، كما أن هناك هدنة على مستوى الجبهات الفصائلية؟

درويش: "كل هذا جيد حقيقة. الفلسطينيون شعروا بأنهم في حاجة إلى التقاط الأنفاس، في حاجة إلى راحة وإلى أمل مرئي، وليس إلى خطاب أسطوري. إنهم محتاجون إلى أن يعيشوا حياتهم. ولكن -مع كل التفهم للحاجة الطبيعية لدى الناس- هناك صناعة وهم كبيرة فعلا في العالم، حتى على المستوى الإقليمي وحتى بين الفلسطينيين."

- من يقود صناعة هذا الوهم؟

درويش: "الكون."

- ومن يقود الكون؟

درويش: "السيد أولمب (يضحك). الواضح أنه تقوده أمريكا. ولكن، هناك أيضا تعاون بين الناس من أجل أن يخترعوا أملاً ما أو وهمًا ما. ثمة من يقول: "ما دام عرفات قد ذهب، وكان العقبة الرئيسة أمام السلام، فإنّ باب السلام سيصبح مفتوحًا، وإن الطريق إلى السلام صار ُممهدًا". أعتقد أنّ في هذا مبالغة. ولكن، الكرة الآن فى الملعب الإسرائيلي: ما دمتم تقولون إنّ العقبة قد ذهبت، إذًا فأين السلام؟ أين الحل؟ أين الانسحاب؟ هذا الأمر يشكل حرجًا لحكومة شارون المطالبة الآن بأن تلبي متطلبات العودة إلى العملية السياسية مع الفلسطينيين. غير أنّ شارون يقدم "لاءاته" الأربع: لا للعودة إلى حدود 1967، لا لعودة اللاجئين، لا للقدس، لا لتفكيك المستوطنات. هذه القضايا الأربع التي شكل عرفات عقبة أمام حلها، ما زالت موجودة، فكيف يحلها أي شخص آخر بعد عرفات؟

"ولكن، هناك حالة من قبول الوضع الفلسطيني الجديد في العالم، قد تساعدنا على أن نقنع العالم بأن يغير الصورة التي يحملها عنا، من صورة إرهابيين إلى صورة مناضلين يريدون حقوقا مشروعة. وقد تشكل أدوات ضغط معنوية على الحكومة الإسرائيلية من أجل تقديم تسهيلات حياتية للفلسطينيين. ولكن، عندما نصل إلى موضوع الحلّ السياسي وقضايا الوضع النهائي، سنصطدم مرة أخرى بالعقبات الإسرائيلية، ويكتشف العالم أنّ العقبة الرئيسة أمام السلام هو الفهم الإسرائيلي لمفهوم السلام."

- سبق لك أن قلت إنّ الهوية الإسرائيلية هوية متعددة، تضم تيارات ومذاهب وإثنيات ومواقف... هل يعني هذا أنه يمكن المراهنة الآن على تيار ما أو مدّ ما ينتصر للسلام، قد يقلص من حجم سطوة شارون وتصلبه؟

درويش: "هذا صحيح، لا نستطيع أن نحقق سلامًا من دون أن يكون الجانب الإسرائيلي مستعدًا لذلك. ولكنّ السلام يكون بين الحكومات، والحكومة الإسرائيلية الحالية قوية إلى حد أنها استقطبت حزب "العمل" الذي كان مُرشحًا لأن يكون حزبًا سلميًا معارضًا، فأصبح جزءًا من الحكومة. وبالتالي، أعتقد أنّ دخول حزب "العمل" الائتلاف الحكومي سيصعب علينا نحن الأمور، بعكس القول إنه سيشكل أداة ضغط داخلية على شارون كي يخفف من غلوائه السياسي والاستيطاني. إن وجود شمعون بيرس في الحكومة -وبيريس شخصية ثعلبية سياسيًا له حضور دولي- قد يشكل ثقلا على وضعنا السياسي في العالم."

- القصائد التي تشتغل عليها حاليًا تميل إلى التقاط اليومي، وإلى البحث عما يؤسس هويتك وإنسانيتك. تكتب عن الحبّ، عن كأس الشاي، عن القهوة، عن الجريدة... هذا التوجه هل يعكس رغبة في القطع مع التجربة السابقة؟ أم إنه استمرار ضمن مشروع شعري وجمالي؟

درويش: "في الحقيقة هذا التوجه ليس جديدًا، لكنه يأخذ الآن أشكال تعبير أكثر سطوعا. هذا النَفَس في شعري موجود منذ مدة طويلة، ولا أعتقد أنه يشكل قطيعة. علاقتي بانطلاقة الشعر الجديد في تجربتي السابقة هي علاقة استمرارية وقطع في الوقت نفسه، الاستمرارية ضمن القطع والقطع ضمن الاستمرارية وذلك في سياق واحد.
البحث عما تراه تفاصيل من الحياة اليومية هو تعميق البحث عن الإنسان فينا والخروج من نمطية الشخصية الشعرية الفلسطينية، كأنّ الفلسطيني لا يكتب ولا يجب أن يكتب إلا شكواه من الاحتلال والحصار.

"هذا طبعا من واجب الشعر الفلسطيني أن يقاوم ما يعيق تطور حياته وتعبيره الإنساني عن وجوده. وأحد أشكال التحرر مما يفسده الاحتلال علينا من تعبير، هو أن نكتب في موضوعات نستطيع أن نحقق فيها حريتنا الفردية، بغضّ النظر عن الاحتلال والحصار.

"في هذا الإطار، أعتقد أنّ الكتابة عن الحب هي شكل من أشكال المقاومة الجمالية للخطاب الدراماتيكي الذي يفرض علينا أن نكتبه، لأنه في موضوعة الحب تجد حيزًا للتعبير عن فرح لا تجده إلا هناك، فرح بالحياة، بالعلاقة الإنسانية، بمشاركة الآخر أسئلته وحياته وتطلعاته وأحلامه. وكذلك أن تكتب أيضا عن الطبيعة، ففي الكتابة عن الطبيعة والحب، هناك المنطقة الوحيدة التي يتجلي فيها الفرح بالشعر، لأن الشعر مليء بالأحزان."

- هل الكتابة عن الحب والأشياء البسيطة وعن اليومي هي رغبة في استعادة الطفولة واستحضار لحظات لم تعشها بالشكل الذي كنت ترغب فيه؟

درويش: "الطفولة ملازمة للنص الشعري لأيّ شاعر، فهي مرجعيته العاطفية. ولكن الطفولة لا تُكتب مرة واحدة، إنها تخترق النصوص بين حين وآخر، وتستعيد عالما مفقودا حتى ولو كانت الطفولة بائسة. الذاكرة تجّمل عناصر الطفولة، وتشحنها بالجماليات التي لم تكن فيها في واقع اليوم. قد تتذكر ستائر البيت، قد يكون بيتا بائسا. ولكن، لأنك محروم من العودة إلى الفردوس المفقود، فإنّ مسافة الحرمان تجمّل الماضي، وتجعله وكأنه هو هدف الأحلام التي نخترعها لكي نتغلب على وطأة الراهن الثقيلة."

- أهديتَ نصوصا إلى كثير من الشعراء، مثل يانيس ريتسوس وسليم بركات وغيرهما، هذه الحوارية -إذا صح التعبير- مع شعراء أجانب، هل هي توجّه جديد؟ أم رغبة في خلق تواصل ثقافي جمالي شعري مع تجارب جمالية أخرى؟

درويش: "هذا ليس توجّهًا جديدًا، ولكنّ المقصود من الأمر أن الشعر، في آخر المطاف، ليس له وطن ضيق. الشعر يتحرك في فضاء إنساني. وفي كل شاعر منا كلّ تاريخ الشعر، ليس فقط تاريخ الشعر القومي المكتوب باللغة العربية، بل تاريخ الشعر في العالم. في هذا الماضي الإنساني الواسع، تجد أن الشعر يتحرر من هويته القومية ليتحرك في فضاء أوسع من هوية إنسانية عامة. إذًا، فالحوار مع الشعراء الأجانب هو أيضا حوار سبقه استيعاب هذه التجارب.

"الشعر العربي الحديث ليس فقط ابن الشعر العربي القديم، إنه ابن مجمل تاريخ الشعر الإنساني في الماضي والحاضر. "

- معروف عنك أنك تسافر وترحل. هل لديك أجندة معينة تحدد فيها سفرك ومواعيدك؟ أم إنك إنسان غير نظامي، متروك للصدفة، أي الفوضى في إطار النظام؟

درويش: "لا، أنا إنسان مُنظم. أنا أعاني من كثرة الدعوات التي تصلني، خاصة من أوروبا والعالم العربي، لا أستطيع أن ألبيها لكثرتها. صحيح أنّ السفر الكثير يعرّفك على جغرافيا جديدة، على ناس جدد، أصدقاء جدد، ولكنه أيضا يأخذ من وقتك. وأنا في عمر أشعر بأنّ الزمن لم يعد متاحًا بالنسبة لي بما كفاية، فأصبحت انتقائيًا جدًا في تلبية الدعوات للمشاركة في مؤتمرات أو مهرجانات ثقافية أو شعرية. ولا أشعر بأيّ حرج من الاعتذار، لسبب بسيط أنني أريد أن أشتغل أكثر."

- وماذا يشكل عمرك بالنسبة لك؟

درويش: "عمري، الآن، يدعوني لأن أنتبه للوقت، ويذكّرني بأنني ضيعت الكثير من الوقت في زمن الشباب. لذلك، أنا حريص كثيرًا على ألا أضيّع وقتا آخر. وعندما لا أعمل أشعر بإحباط شديد، وأشعر بأنني أضفت إلى خسائري خسارة جديدة، فهذا العمر يعلّمني أن أقسّـم الوقت بدقة وأن أنتج وأعمل أكثر، لأنّ المستقبل لم يبقَ أمامي طويلا، بقيت لي بعض سنوات..."

- (مقاطعا) نتمنى أن يطول عمرك.

درويش: "(متابعا)... وأحقق فيها المشروع الذي لا يتحقق، وهو البحث عن الشعر الصافي. فالشعر الصافي غير موجود."

- ماذا تقصد بالشعر الصافي؟

درويش: "الشعر الصافي مفهوم يسعى أيّ شاعر لتحقيقه. الشعر الصافي يعني المتحرر من عبء التاريخ ومن عبء الواقع. هذه عملية مستحيلة، فالإنسان لا يستطيع أن يتحرر من ضغط التاريخ والواقع، ولكن عليه أن يسعى لذلك، ليحرر شعره من آثار راهن يزول، كي يبحث عن الجوهر وعن العمق. هذا غير موجود، ولكن علينا أن نحاول ونصدق أنه موجود، لكي نبحث عن الشعر المستحيل."

- هل يمكن أن تكون هذه القصيدة الصافية المطلقة هي ذلك المستحيل الذي أوصاك به المرحوم إدوارد سعيد؟

درويش: "لا. إدوارد سعيد أوصاني بألا أتراجع عن البحث عن المستحيل الذي هو التحرر والعدالة."

- القصيدة التي كتبتها بمناسبة رحيل المفكر الكبير إدوارد سعيد كانت قوية جدا، رصدت فيها الكثير من المحطات، وضمنتها نوعًا من الحوارية. ماذا أردت أن تبلّغ من وراء هذه القصيدة تحديدا؟

درويش: "أنظر. القصيدة متعبة بالنسبة لي. لماذا؟ لأن عملي الشعري الأخير يتسم بخاصية لافتة، هي المزج بين السردي والغنائي. والسردية لعبة خطرة، فقد تجر إلى نثرية كاملة، ولا تعرف أين الشعري مما هو خارجه. أن أكتب عن إدوارد سعيد يعني أن أكتب عن مفكر. وبالتالي، كنت أخشى أن يكون الجانب الفكري من القصيدة طاغيا على الجانب الشعري. وحتى الآن، لستُ واثقا من أيّ جانب غلب على الآخر، أو هل تمت المزاوجة أو المصالحة بين الجانبين؟ أعتقد أنّ الأفكار في الشعر يجب ألا تمر بشكل مقولات أو بشكل مُجرّد، وإنما يجب أن تمرّ في الشعر عبر الحواس. وأحيانا هناك صعوبة في تمرير الفكر المجرد عبر الحواس، لأن الشعر الحقيقي هو الشعر الذي يعبر عنه عبر الحواس وليس عبر مقولات ذهنية تجريدية.

"أردتُ في تلك القصيدة أن أرصد سيرة إدوارد سعيد الشخصية والعاطفية والسياسية والفكرية. ومن ثم، كان إلحاحي على موضوع الوطن والمنفى، الهوية الضيقة والهوية الإنسانية الواسعة. هذا هو الموضوع الذي كنت أبحث عنه."

- الشعر، حاليا، تزاحمه بعض الأجناس الأخرى. نحن نعيش الآن عصر الفضائيات و"الكليبات". كيف ترى هذه الظاهرة: تدفق وكثرة للأغاني، في حين تعد البرامج الثقافية والإنتاجات الفكرية الرصينة قليلة جدا؟

درويش: "صحيح أننا في عصر غزو معرفي، لكنه معرفي استهلاكي. بمعنى أنّ برامج التسلية والملاكمة الكلامية في بعض الفضائيات تستجيب لكثير من عقد التسلية أو تخاطب غرائز ما. لا شك في أنها تأخذ الكثير من وقت القراءة. إنها لا تؤثر فقط على المواطن العادي ولكن أيضا على المثقفين. وبهذا الخصوص، أشعر بحزن وخوف كوني قضيت حوالي ثلاث ساعات أمام التلفزيون، فأنا أحبّ مشاهدة كرة القدم."

- (مقاطعًا) هل كنتَ لاعبًا جيدًا؟

درويش: "لا لم أكن لاعبًا جيدًا. (متابعا) أعتبر كرة القدم أشرفَ الحروب.

- فريقك المفضل، أهو ريال مدريد، أم مانشستر؟

درويش: "كنت أراهن على ريال مدريد، ولكنه خيّب أملي."

- رغم كثرة النجوم؟
درويش: "نعم، كثرة النجوم جعلت الأرض عرضة لزلزال. يحيّرني هذا الأمر، كيف أنّ ريال مدريد يُهزَم رغم كثرة النجوم به. أشاهد التلفزيون إذا كانت هناك أحداث كبرى وإذا كان هناك مسلسل جيد، وبالتالي أقضي أمام التلفاز حوالي ثلاث ساعات، يمكن أن تكون ثلاث ساعات قراءة إضافية. فبالأحرى المواطن غير المتفرغ للقراءة والأدب، يمكن للتلفزيون أن يأخذ كل وقته. لو كانت هناك استراتيجية تضع الثقافة في المكانة التي تستحقها، لوجدت الاهتمام المطلوب ولتوفرت أداة معرفية عالية ورفيعة المستوى."

- على من تقع المسؤولية؟

درويش: "على من يضع السياسة والأولويات. فالأوليات عندنا هي الربح وليس التثقيف. والحال أن إدراج حوارات ثقافية يمكّن التلفزيون من تقديم خدمة جماهيرية عامة، ويجعل الثقافة موضوعًا جماهيريًا. إذًا، فالتلفزيون كجهاز ليس مشكلة، ولكن المشكلة في الفكر الذي يقود هذا الجهاز السحري."

("القدس العربي")

التعليقات