31/10/2010 - 11:02

نواف.../رشاد أبو شاور

-

نواف.../رشاد أبو شاور
عرفناه هكذا، اقصد بهذا الاسم المفرد: نوّاف، والاسم هذا تّام بلفظه وجوهره.

نوّاف حجّار، أصابعه وراحتاه صارعتا الصخر، فاكتسبت الخشونة منذ بدأت الرفقة مع العمل الشّاق لمواجهة تكاليف الحياة وصروفها.

لمّا غادر مقعد الدرس في المرحلة الابتدائيّة، انصرف لمعاونة عمّه في زرع الأرض، وحصد مواسمها، ودراسة السنابل المتراكمة على البيدر، دائراً مع النورج من الصباح حتى مغيب الشمس.

في تلك الأثناء، كما حدّثنا، لفت انتباه رائد الشعر والحداثة في الوطن راشد حسين، فزوّده بالكتب، وصار يعنى به، يسأله عمّا قرأ مختبراً استعداده للفهم، والتلقّي، والاستزادة.

وهكذا، منذ الطفولة ترافق الشقاء والكلمة، الأكّف الطريّة بالمخيّلة المشتاقة للسفر، فقبض نوّاف على الإزميل والكتب، وقرأ في الغبار، ورأى في ظلمة رحلة الحياة فتنوّر عقله بالجدل، والمعرفة، وأقبل على الحياة التي شحذتها الخبرة.

عرفت ( نوّاف ) هنا في العاصمة الأردنيّة ( عمّان) بفضل صديقي المهندس نائل سلامة، الذي كعادته همس في الهاتف:
_ عندي ضيوف من البلاد ...

والبلاد هي بلادنا، ورائحة البلاد نشمّها في أهلنا الآتين من عمقها، وبتواصلنا معهم نتواصل معها.

صوت خشن، سعال خشن، ضحك خشن ونيس أليف قريب من القلب، واسمه: نوّاف ...

نوّاف بلا زيادة ولا نقصان. كامل بنفسه، فاسمه الواحد لا يحتاج (أل) التعريف التي يتوسلها كثيرون لتفخيم حضورهم المجدب، فنوّاف يتضمّن اسم الأب والأسرة والروح القدس: البلاد فلسطين. نوّاف هو الأب الذي عني بما أنجب حريصاً على تجنيبهم رحلة الشقاء التي كابدها، وهو الابن للروح الفلسطينيّة العنيد، اقصد الشعب الذي أنجبه، وبادله الحّب.

هذا الحجّار، أو البليّط، المخدد الوجه بأثلام أرض زرعت كثيراً وما زالت مخصبة، اسمه نوّاف، وهو يقرأ بضراوة كأنه في معركة يوميّة يستعّد لها بمزيد الإطّلاع وجمع المعلومات ...

نوّاف هذا يعرف عن كّل الأدباء والشعراء والمفكرين والفناّنين الفلسطينيين _ والعرب بعّامة_ ويستفسر عن أخبارهم وأحوالهم كأنه مكلّف بحمل همومهم، وتدبير ومتابعة شؤونهم !.

يأتي نوّاف بغتة، ويغادر دون وداع، وهذا يريحني شخصيّاً فأنا من المتطيّرين من الوداع.

الوداع ! ..لا أحبه، وكم، على النقيض، يفرحني ويبهجني اللقاء، ولا عجب فنحن الفلسطينيين ضرسنا من الوداع، أقصد الفراق والناي والبعد، ولهذا فنصفنا في المنافي يسعد بلحظات وأوقات اللقاءات بنصفه الباقي المتشبّث بالوطن.

نوّاف يزور المكتبات، ينتقي الكتب، بتأملها، يشربها، يربت عليها، يمسّد أغلفتها، يلفّها بحرص.

عجيب، الآن يخطر ببالي انه لم يكن يشتري ملابس، أو صنوف الهدايا النادرة وهو يتجوّل في أحياء وشوارع مدينة عمّان، فقط الكتب، الدوريات التي فاته اقتناؤها، هي شاغله ...

كم مرّة التقينا ؟!

التقينا كثيراً، ولكنني في كل مرّة كنت أشترط عليها أن يطيل المكوث معنا فيضحك ونحن نتعانق، ثمّ يعد، فيعود ولكن الوقت يمضي سريعاً، فهو يشغلنا بالسعي بين المكتبات، والتنبيش عن كتب فات زمن صدورها، ونسيها الناس، وهذا ما يسرق الوقت، ويشغلنا، فيحين موعد سفره من جديد، ليعدنا ...

جاءني صوت صديقي نائل :
_ نوّاف (هون) ..هنا ...
_ منذ متى ؟
_ والله أخبرني أنه سيسافر بعد الغداء ..معه الشاعر سعود الأسدي ...

ذهبنا إليهما، وتعرفت بسعود الأسدي، وتغدينا معهما ( بامية)، وبدت السعادة على وجه نوّاف فهو قام بما عليه تجاه الأسرة، فابنته الصغرى تخرّجت وهو أنجز ما عليه، وسيتفرغ اكثر للقراءة والكتابة ...

ضحكنا، وعاتبناه وسعود على السفر السريع، و..كانت الحقائب جاهزة، و..غادرنا الشقّة التي أقاما فيها الليلة الفائتة، و..تعانقنا، وتواريا في السيّارة، ويده الخشنة تلوّح لنا، وصوته الخشن الأجّش يأتينا :

_ قريباً _ كأن القاف تمتزج بالكاف _ نلتقي ..تزعلوش ، سأسلّم لكم على ( أبوشادي) ...

ولكننا زعلنا من نوّاف، زعلنا منه كثيراً بعد أيّام، لأنه على غير عادته، لن يفي بوعده بالمجيء من الوطن محملاً بسلامات الأهل هناك ...

قرأت لنوّاف نصوصاً قليلة، ولكن نصّه الإبداعي الباقي في القلب والذاكرة والنفس هو: نوّاف ..نوّاف ابن الأرض والكروم، والحجارة ، والندى ...

صاحب الصوت الخشن رحل بسلاسة، اندس في تراب فلسطين، عادت قطعة الأرض إلى مكانها الذي تخلّقت منه ..لروحك السلام يا صديقنا نوّاف ...

التعليقات