29/05/2011 - 21:22

الأرض تنشق وتبتلع / عبد الحكيم زغبر*

الأشياء الجميلة كلها تُولد من نَفْس واحدة، الشعر، والموسيقى، والفرح، وحزن الأنبياء، وعبث الأطفال، والحُب، وجمالية المفقود، وأنت، والأشياء الهاربة منك، وحنينك لماضيك الذي لا يجيء، واستعجالك لغدك البطيء، والطقس، ولوحة المفاتيح، وحواسك العارمة، وكل الأشياء التي تشدك وتجعلك بعد فترة تقرأ شيئًا، وتُدهش بأنك أنتَ كاتبه.

الأرض تنشق وتبتلع / عبد الحكيم زغبر*

 

لوحة للفنانة رقية خميس

الأشياء الجميلة كلها تُولد من نَفْس واحدة، الشعر، والموسيقى، والفرح، وحزن الأنبياء، وعبث الأطفال، والحُب، وجمالية المفقود، وأنت، والأشياء الهاربة منك، وحنينك لماضيك الذي لا يجيء، واستعجالك لغدك البطيء، والطقس، ولوحة المفاتيح، وحواسك العارمة، وكل الأشياء التي تشدك وتجعلك بعد فترة تقرأ شيئًا، وتُدهش بأنك أنتَ كاتبه.

كل الأشياء المرهونة بانتعاش ذاكرتك ترتبط بخيط واحد، وكأن نسيانك لحدث مهم في طفولتك -كأن تنسى كيف ضيّعت فصلك الدراسي في ثاني يوم لك في المدرسة- يفصلك عن حقبة كاملة من مراحل تكوّن وعيك وخيالك المبدوء بالسؤال: أين اسمي، وفي أي فصل وضعوني؟

وتكبر، وتذهب المقصف وحدك، وتبدأ أولى معاملاتك التجارية عندما تتعلم كيف تقسّم مصروفك الشخصي كي تشتري في كل أسبوع ثلاث قصص وتأكل في كل يوم ساندويش وقطعتيّ بسكويت، وتُنهي جولة البراءة الأولى، وتحمل ما تبقى فيك من طفولة وتخرج من حارتك لمدرسة بعيدة نسبياً عن البيت حينها، وتسير الطريق وتكتشف -ولا تنتبه أنك اكتشفت- أن في الطريق وقت لأن تفكر في أشياء جديدة من بينها لو أنهم هدموا هذا البيت وأكملوا الشارع لأصبح الوصول للمدرسة الجديدة أسرع، وتُجبرك احتياجاتك الجديدة أن تتذكر ماضيك الضئيل علّك تجد حلولاً لأولى مشاكلك مع الطريق، فالبيت الذي يؤخّرك عن المدرسة يُذكرك ببيتك، وبيتك يُذكرك بسطح البيت، ويأخذك الأخير لأبعد مما كنت تتوقع فترى فجأة إخوتك وعمّك الصغير وهم يرشقون الجيب العسكري من فوق البيت بالحجارة حتى إذا فرغت يستعينوا بالأحذية القديمة، حتى إذا فرغت يهربوا قفزاً إلى سطح الجيران، وتضحك في سرّك لأنك تعرف هذا السر وتكتمه عندما يفتش الجنود البيت غرفة غرفة، ويغضبوا من الفكرة التي تقول أن الأرض تنشق وتبتلع، وهذه التي انشقت تذكّرك بساقِ أخيك التي أصيبت برصاصة في المواجهات التي اندلعت عند رأس الشارع، ويأخذك شكل الجُرح لحواف سريرك وتتذكر كيف كنت ترجف خوفًا من صوت الطائرات، وأنتَ طفلٌ لا تعي ثلاث أرباع ما تحكي، كنت تموت خوفًا لا من الغول ولا من أبو رجل مسلوخة، بل كنت تسمع أغنية تكفّن الموتى وترى الجنازة تسير في الشارع أو في التلفاز، وتذهب بعدها لسريرك كي تنام وتحوم الطائرة ساعة السلم بهدوء مُرعب، وتتذكر صوت أسنانك وهي تصطك وتتذكر مكابرتك حين تعلن لنفسك: إنه البرد لا خوف ولا وجل، وتتحايل على نفسك وتقنعها بأن النوم وغرفتك مضاءة أرقى، ولا تدري كيف تنام ولا متى، وتصحو لمدرستك وتسير في نفس الطريق وتفكر في ما يختاره الحظ لك، ولا تدري كيف تتنقل ذاكرتك بين هذه الحقب دون إذن منك أو وقتٍ كي ترتبها أو تمنطقها.

كنت صغيرًا، نعم كنت صغيرًا وكنت تُدهش دائمًا مع أولى لقاءاتك مع الأشياء، وشيئًا ما داخلك يحرضّك دائماً على أن تدحض ذلك، كنت تكره أن تكنس ممر البيت، وتحب سقاية الشجرات، كنت تحس على الدوام أنك شيء له قيمة أثمن من كل الأشياء حولك، إلا أبيك، كنت طفلاً لكنك كنت أكبر مما يتوقع أخوتك.

ولمّا انتهت الإنتفاضة دون إعلانٍ من أحد، صار لك ذكريات المحاربين القدامى وصرت تحدّث الغرباء عن بطولاتك، وأنتَ الذي لم يذهب يومًا لموقع المواجهات ولم يقذف حجرًا مع أطفال الحجارة عندما كانت تحبسك أمك مع ألعابك، فتسوءك نعومة المكعبات البلاستيكية وأنتَ تتخيّلها حجرًا وتقذفه على الجيران كي تتعلم، وتضحك أمك الآن: كم كنت شقيًّا، كم كنت تكسّر الألعاب، كم كنت تخرّبها. وتلبس ريش طاووس وتحدّث أصدقاءك عن أحد أقاربك، كيف أنزل النجمة الزرقاء عن الموقع العسكري، فيكذبوك وتُقسم أنه ابن عمّك، وتكمل القسم في سرّك وتقول ابن عمّة أبي، وتسرح في خيالك وتتذكر ابن الجيران الذي حمّلوه القنابل المحليّة وأرسلوه للموقع، وتتذكر جثّته المهشمة، وتتذكر أعضاء جسده المسروقة، وأحشاءه المبقورة، وتحدثهم في أسى، فينسوا أن يكذبوك كالعادة ويتوهوا في حزنهم، وحادثة فقد ابن الجيران هذه ليس لها أن تمر دون تأخذك لتذكر زميلك في فصلك المدرسي، الذي جلس إلى جوارك عامين كاملين وعشت بعدهما فاجعة فقدان صوته الذي لم تحفظه يومًا، وهل صحيح أن الغريق يفقد صوته قبل أن يغرق، إذ أصابه الخوف فلم يجرؤ أن ينادي المُنقذين؟

 

*غزة
a.wiser@hotmail.com 
http://ihakim.wordpress.com 

التعليقات