14/06/2011 - 21:30

من بيروت.. عذرًا فلسطين / محمد خالد

بيدٍ مرتجفةٍ ليس خوفًا، بل نتيجة التقدم في السن وبعض الأمراض، وفرحًا في الوقت نفسه، تمسك جدتي بيدي، تأخذني إلى غرفتها، تفتح خزانتها، وتُخرج منها صندوقاً خشبياً صغيراً، تفتحه وتُخرج منه مفتاحًا حديديًّا كبيرًا، تنظر إليّ بابتسامة جميلة وعينين تدمعان، هذا المفتاح لك، خذه معك غدًا إلى فلسطين، هذا مفتاح بيتنا هناك في قرية جاحولا قضاء صفد، لا تبعد إلا كيلومترات عن مارون الراس، بيتنا يا حبيبي يطل على بحيرة الحولة، لا تنسَ العنوان.

من بيروت.. عذرًا فلسطين / محمد خالد

بيدٍ مرتجفةٍ ليس خوفًا، بل نتيجة التقدم في السن وبعض الأمراض، وفرحًا في الوقت نفسه، تمسك جدتي بيدي، تأخذني إلى غرفتها، تفتح خزانتها، وتُخرج منها صندوقاً خشبياً صغيراً، تفتحه وتُخرج منه مفتاحًا حديديًّا كبيرًا، تنظر إليّ بابتسامة جميلة وعينين تدمعان، هذا المفتاح لك، خذه معك غدًا إلى فلسطين، هذا مفتاح بيتنا هناك في قرية جاحولا قضاء صفد، لا تبعد إلا كيلومترات عن مارون الراس، بيتنا يا حبيبي يطل على بحيرة الحولة، لا تنسَ العنوان.

في اليوم التالي استيقظت مبكراً على غير عادتي، ارتديت أجمل ملابسي وتعطرت، ووضعت الكوفية على كتفي كأني ذاهب إلى لقاء مع حبيبتي، أجل هو لقاءٌ مع حبيبتي الأولى، ككل اللاجئين الفلسطينيين العاطلين عن العمل، المشتاقين لرؤية فلسطين، المجتمعين في أزقة مخيماتهم، حاملين الأعلام الفلسطينية، حاملين مفاتيح بيوتهم في فلسطين، حاملين صوراً لقراهم، يرتدون الكوفية، مرددين: الشعب يريد العودة إلى فلسطين، هم انطلقوا من مخيماتهم، أما أنا ولسببٍ ما انطلقت مع أصدقاء لي من الجامعة الأمريكية في بيروت.

في الباص شباب من جميع الجنسيات العربية والأوربية، هم متضامنون مع فلسطين، هم أيضًا ذاهبون لرؤيتها مع أن بعضهم قد زارها من قبل ولم يشبع منها؛ كنت أفكر.. كيف نحن الذين لم نرها إلا عبر شاشات التلفاز والأحلام!

في الباص أخرجت خريطة لفلسطين، تجمعنا حولها كالجنود من النهر إلى البحر، وقفنا تحت ارتفاع السماء، حدثتهم عن أحداث النكبة، ذكراها وما تلاها، عن أخبار اللاجئين والمشردين والتائهين، أخبرتهم عن مخيمنا وأزقته وجدرانه..  كنت في سعادة غامرة في حديثي حول تاريخنا وفي نقاشي حول الدولة الفلسطينية، حدّثتهم عن جدتي أيضاً ووصيتها ومفتاحها.

وصلنا إلى بنت جبيل، وقسمٌ كبيرٌ من المتظاهرين الآخرين وصلوا إلى عيترون، طُلب منّا النزول والمشّي على الأقدام إلى مارون الراس، مكان التجمع، مشينا هاتفين مرددين "الشعب يريد العودة إلى فلسطين"، هي الطريق نفسها التي أخبرتني عنها جدتي، التي سلكها الفلسطينيون عندما هُجروا منها عام 1948، طريق وعرة، هواء فلسطيني عليل، مشينا غير مكترثين بطول المسافة أو التعب، أو حتى من وجود ألغام أو قنابل عنقودية كما كانت تشير اللافتات هناك، ها أنا اليوم أسلك الطريق نفسها عائدًا إلى فلسطين.

بعد نصف ساعة من المشي المتواصل وصلنا إلى مارون الراس، ركضت متجهًا إلى أي مكان يطلّ على فلسطين، فوقفت على هضبةٍ تطل على سيدة الأرض، انتابني شعورٌ غريب، قلبي بدأ بالخفقان، وعيناي تدمعان، أرضي أمامي، فمن سيمنعني من الذهاب إليها، ركضت مسرعًا كما ركض جميع الشباب مخترقًا كل الحواجز، من سيمنعني من رؤية أرضي، لكن ما إن وصلنا عند الحدود حتى أوقفتنا ألغامٌ مزروعة وأسلاكٌ شائكة، تمنيت حينها أن أكون طيرًا لأعبر وأخترق تلك الأسلاك، لكن حتى الطير لا ينجو من الجنود الصهاينة المختبئين خلف مدرعاتهم، الذين لا يعرفون غصن الزيتون ولا طير الحمام، لا يعرفون شيئًا عن القدس أو تاريخه، لا يعرفون معنى العشق في حيفا، استفزّنا منظرهم هناك، كيف لغريب يسكن ويحتل ويغتصب أرضي، صرخنا في وجوههم، رميناهم بالحجارة، خافوا من صرخات حناجرنا، خافوا من سلاحنا الطبيعي، خافوا من أحلامنا، من أملنا، من إصرارنا، من حبنا  ومن دموعنا خافوا.. فأطلقوا النار علينا، جُرح منَّا العشرات، واستشهد منا عشرة شباب في ربيع العمر، سقطنا شهداء وجرحى لكن لم تسقط إرادتنا، ولم يسقط العلم الفلسطيني فظلّ مرفرفًا على الأسلاك.

تراجعنا كي لا يسقط منَّا المزيد، تراجعنا لنلقاهم في يومٍ آخر قريب، تراجعت مشياً إلى الخلف، ظهري إلى لبنان وعيناي إلى فلسطين تبكي، ويدي قابضة على مفتاح جدّتي مرددًا "عذرًا فلسطين لم أستطع العبور".. «عذرًا جدتي لم أستطع العبور".


* فلسطين، بيروت
mohd-khaled@live.com
 

التعليقات