18/06/2011 - 15:23

ملح الهوية../ بيروت حمود

لتواجه انفصام الهوية لا يكفي أن تكون مستعدًا لمنازلة القدر، تتفوق عليه أو تخرج خاسرًا من النزال، كما لا يسعفك أن تسابق الزمن فتتعلم كيف تخوض العتمة والضوء في الوقت ذاته؛ عليك أن تدرك مسبقًا أن الأغنية التي اغتالت لسانك وأصرت عليك أن ترددها دون أن تدع لك فسحة لاكتشاف سببٍ لذلك، وأن المرآة التي تعثرت بشظايا نفسك عليها فأدميت روحك فوقها، ذلك الصباح، كانتا تحيكان لك الفوضى لتمنعان عنك برد عزلتك

ملح الهوية../ بيروت حمود
لتواجه انفصام الهوية لا يكفي أن تكون مستعدًا لمنازلة القدر، تتفوق عليه أو تخرج خاسرًا من النزال، كما لا يسعفك أن تسابق الزمن فتتعلم كيف تخوض العتمة والضوء في الوقت ذاته؛ عليك أن تدرك مسبقًا أن الأغنية التي اغتالت لسانك وأصرت عليك أن ترددها دون أن تدع لك فسحة لاكتشاف سببٍ لذلك، وأن المرآة التي تعثرت بشظايا نفسك عليها فأدميت روحك فوقها، ذلك الصباح، كانتا تحيكان لك الفوضى لتمنعان عنك برد عزلتك.
 
لم أفرق بين الوجه الضاحك في المرآة والآخر العابس في القلب، كان هنالك خيط ممتد بين فرح وحزن وكان قلبي هو الخيط عينه.
 
لم يطف فضولي على سطح الأسئلة، ولم أغمر أحدًا بقلقي أو توتري، لم أكن بندول ساعةٍ، لم أزعج أحدًا برنيني، لم أحتر ولم أفكر طويلاً فكانت قد نشأت عندي منذ زمن سحيق عاطفة عفوية تجاه التنقل والترحال، ولكم هي شبيهة بعاطفة الأم تجاه الوليد فرحت ألملم أغراضي خلال زمن يكفيني لأتذكر ما أنا بحاجةٍ إليه وما أنا بغنى عنه، كنت أحاول تذكر الأشياء الضرورية ( قطارة العيون، الأدوية المضادة للأمراض المرهونة بتبدل الطقس، الإبرة والخيط، قلم الحبر والورقة البيضاء والكتاب الذي لم أنته من قراءته...)، لكنني لم أفطن قط لحمل كل المناديل التي صادفتها في حياتي ربما لأنني لم أتوقع أن يلاقيني الحزن في "الواقع الحلم" بهذا الشكل.
 
من مجد الكروم حتى حيفا أخذت أنظر من شباك الحافلة لا إلى السهول التي يختلط خضارها بصفارها على جانبي الطريق، تلك السُهول التي تفعل فِعْل السحر في النفس، بل إلى مخزن الحافلة، على وجه الخصوص حينما كانت تتوقف عند المحطات فقد كنت قد وضعت حقيبتي هناك، وكنت أخشى أن يختلط الأمر على أحد الجنود فيحملها معه لظنه أنها حقيبته، فهي شبيهة بحقائب العساكر وكنت قد اخترتها لهذا السبب بالتحديد.
 
لم أراقب الراكبين. لم يرفعني المقعد إلى هاوية القنبلة أو يخفضني إلى فكرة الهوية. لم أتذكر من رغب في هذا المقعد ولم يطله أو من تفجر فوقه وأحرق سهل السنابل قبل الحصاد. كنت كمن يقود سيارته في موقع تحت سطح البحر لا يعود يستطيع سماع ما يحدث حوله لكنه يصغي إلى ضجيج دخيلته دون أن يعرف ترجمة الذبذبات التي تصله من عمق ذاته.
 
كنت إذًا قد قطعت الطرق من مجد الكروم إلى حيفا ثم صرت في الطريق إلى رام الله، وربما كنت في طريقي إلى رام ثم إلى الله لا أستطيع الجزم، فطالما صوروا لنا في دروس الدين أن الطريق إلى الله شبيه بالحلم، فهو الطريق الوحيد الذي يمكنك أن تشاهد فيه حصانا يركب على فارس، وأم ترضع من وليدها، وسيارة تمشي على أربعة أرجل، وفأر يلعب مع قط، وربما إلى الحد الذي يغازل فيه جندي صهيوني فلسطينية في العشرين دون أن يخدش أحدهما هوية الآخر.. رام الله تريك العجب: يحدث أن تمنح اللاجئين حق العودة ولو مؤقتًا إليها - إلى فلسطين.
 
حدث تسام في المشاعر والأحاسيس تحولت الخيبة إلى غيمة، والغيمة أمطرت نارًا، والنار سكبت بردًا في نتوئي. كان اللقاء شبيه بالرعشة الأولى واللذة الأولى والقبلة الأولى، كانت تلك هي الصدفة التي قسمت ظهر القدر وأقعدته كسيحًا على كرسي المقعدين. راحت الصدفة تتوالى كخرزات المسبحة واحدة تسقط لتلحق بالأخرى، وكأن هذا الفراغ بينها هو الجاذب الذي ينوب عن الخيط المقطوع، لنفترض أنني سأفكر الآن في المسبحة أو فكرت حينها في المسبحة هل كنت سأجزم أنها نوع من أنواع العبقرية التي يتجلى في خرزاتها اسم الرب في دعاء المساكين بين حركة الإبهام والسبابة بين خرزة "الحَمدُ لله" وخرزة "الله أكبر" أو خرزة "سبحان الله" ؟!.
 
 لم أكن لأتصور أن الحب يختبئ في الأماكن الأمامية لا يحسب حسابًا للتفاصيل الكبيرة بقدر ما يحتضن بحرص التفاصيل الصغيرة لولا تعثرنا بالصدفة. الحق إنني تمنيت حينها أن تزورني كل الحشرات الليلية وتتناوب على لسع جسدي لتخلصني من الخدر الوهمي، ذلك الخدر الذي أخذ يتمشى في أعطافي متقدمًا داخل أعماقي البدائية يدب السُكَرَ والنشوة في أوداجي حتى خيل إليّ أنني أسمع صوت أوكتافيا آتيا من الرق السادس (النقطة الفاصلة) في رواية عزازيل وهي تقول "عندنا نبيذ يكفينا لألف سنة. تعال إلى هذه الناحية ففيها النبيذ المعتق الذي عُصر في أجود السنوات".
 
امتد سفرهم ساعات طوال بدأ في لبنان في غرف التحقيق السري مرورًا بسوريا المتأججة ثم الأردن حتى حواجز الذل الإسرائيلية والأسئلة المتلاحقة حول السلاح وهدف الزيارة، ثم أخيرًا "حبة السمسم" -فلسطين.
 
فاض الوهم بالحقيقة، العدم بالوجود، الكذب بالصدق.. انتفضنا ثم ارتجفنا دفعة واحدة فأمطرت عيوننا الحزن الحبيس في المآقي تدافعت أحزانا، أشواقنا وأفراحنا لتستقبلهم بصدقها بأسئلتها وأجوبتها، وامتدت أيادينا لتعانقهم لتلمس حقيقتهم؛ كان ذلك حقيقة وليس (بروفا) لتمثيل حق العودة.
 
ها همُ هنا، بيننا على أرض فلسطين. توقف أيها الجرح للحظة عن النزيف، توقف أيها المخاض العسير ها هم هنا في حضننا، ها هم هنا.. ها هم هنا.
 
***
 
في الطابق السادس، فندق "البيست ايسترن"، غرفة رقم (607) من الجهة الشمالية؛ توقفنا نراقب رام الله صباحًا، رام الله مساءً، رام الله عفوًا، رام الله قصدًا، رام الله في الغياب، رام الله في الحضور، كانت صبية من مخيم (عين الحلوة) تجلس بالقرب مني تقول في وجومٍ أنها لن تصدق مطلقًا أنها زارت فلسطين.
 
أخذت تحدثني عن تفاصيل حياتهم، عن مخيم (عين الحلوة) عن الساعات التي تفيض بالملل والحزن والحياة التي بغير هدف، عن تدخل الأمن في كل شاردة وواردة وعن اللاجئين الذين انتهى بهم حب فلسطين إلى الانتحار أو مغادرة المخيم إلى غير وجهة محددة.عن المقاهي الفقيرة وروادها البؤساء الذين يصرفون أيامهم في لعب الورق أو الطاولة.
 
- المخيم صحراء صغيرة بلا حدود، ونحن لسنا سوى ظلال في ظهيرة حارة، نحن أقل من أن نكون صبارًا تحميه أشواكه من لسعات الحر.. نحن عَدَمْ، أتعرفين ماذا يعني عَدَمْ؟. إذا أردنا أن نصلح شباكًا مكسورًا علينا أن نحضر تصريحًا، ونمر على أربعةِ حواجز تفتيش حتى يسمح لنا جناب الأمن اللبناني بذلك. لقد سألتني في الأمس عن بعض الفتيات لماذا تبدو أجسادهن صغيرة هكذا مع أن أعمارهن تجاوزت العشرين، أتعرفين لماذا ؟ لأنهم يعانون خللًا في النمو، لأنهم لا يتناولون غذاءً صحيًا فنحن نأكل ما توزعه علينا الوكالة.. حتى عندنا جملة أصبحنا نرددها عند الضيق (رحمة الله والأنروا)، أتعرفين هذه القصص عن الفقراء الذين يلبسون ملابس جديدة في أيام العيد فقط؟! عندنا في المخيمات من يلبس قطعة جديدة في أيام العيد نقول عنه (واصل)..
 
خرجت من الغرفة، من الحبس إلى الحبس. في المصعد تبادلنا التحية، الابتسامة والدمعة وجلسنا متقابلين على طاولة في غرفة الاستقبال كأن أحدهم يحركنا ويحدد وجهتنا.
لم أسأله عن اسمه ولا عن عنوان خيمته الحالية، كان يكفيني العُري الفاضح للحزن الذي يشع من عينيه كي أعرف الإجابات بنفسي.
هو بدأ بالحديث الذي أمتد بيننا حبلاً رفيعًا من الأمل الشقي.
 
- أترين هذه الصورة ؟!.. هذه التي على شاشة الحاسوب..؟
بابتسامة وحركة اهتزازية للرأس أجبته بالإيجاب.
-هذه الصورة التقطها في الشام..
-إذًا تعمل في التصوير..
- لا. لا أعمل في شيء محدد، قد يكون عملي الحالي هو الكتابة.. لكن التصوير هواية وسيبقى كذلك.. أتعرفين شيئًا يا بيروت ( يتوقف للحظة يبتلع ريقه، كأن بيروت الاسم المكتوب في جواز السفر الأزرق تحول إلى تفاحة جولانية تحمل ختمًا إسرائيليًا)، إن مخيم اليرموك صورة كبيرة متحجرة، لا يشبه المخيمات الفلسطينية الأخرى حتى أن الوكالة أخرجته من تعريف المخيم، بالنسبة لي هو الأكثر تعقيدًا بين المخيمات كلها فهو جامع لعدد كبير من التناقضات فيه الحزن والفرح، المتعلمون والبؤساء أصحاب رؤوس الأموال والفقراء، يستيقظ الناس فيه على مهل يرتشفون الصباح بروية، وينظرون إلى السماء التي ربما تمطر خبرًا طريًا عن فلسطين، ويمضون إلى يومهم يعبرون الطرق المرصوصة جدرانها بصور الشهداء الذين مضوا إلى موتهم في حرب أطلقوا عليها حرب التحرير... إذا سنحت لكِ الفرصة ذات يوم بزيارة المخيم سترين انه مخيم على سطح مدينة، أقول ذلك لأن الشبان يبنون بيوتهم من ألواح الزنك فوق أسطح بيوت أهلهم كأنهم يرفضون المسكن الدائم ولا يريدون سوى المؤقت لأنهم يريدون العودة إلى البلد الذي يتحدث عنه أهلنا وأجدادنا.. إلى فلسطين.
 
"إن الدخول إلى سوريا ليس بذلك الأمر الصعب، يختمون لكِ على ورقة خارجية دون أن يُخدش جوازك والسلام. لكن ماذا ؟ يبقى التنسيق الأمني بين المخابرات الأردنية والمخابرات الإسرائيلية.. أي سيعرف أولاد عمنا أنك كنتِ في سوريا.. وماذا عندها.. لا شيء أبعد من الحبس المؤبد.."
 
لماذا لاحت في ذهني شرائط النذور فوق قبر "الشيخ سريس"، لست أدري.
كنت مبهورة بفستاني الأحمر الذي لم يغط إلا جزءً صغيرًا من ساقيَّ، وكان يعكر هذا الانبهار هزات عنيفة للسيارة التي كانت تتقدم بنا في طريق بدا لي أنه لن ينتهي أبدًا. كنت قد تكورتُ في حضن جدتي مثل جنين، وأخذت أمص بإبهامي وأتحسس قماش الفستان الناعم دون أن أدع للكرى منفذًا إلى عينيّ، فكنت أرفع رأسي بين الحين والآخر لأتأكد أننا لم نقطع بعد التل التي دفن فيها الشيخ، إذ كنت قد عاهدت نفسي أن أطفئ نيران الأسئلة التي اشرأبت في داخلي تستفسر عن قصة الشرائط الخضراء التي ربطها الناس لتظلل ذلك القبر.
 
في الطريق، على الجهة المقابلة لموقع القبر استوقف أنظاري شيء أعمق من التوسل إلى روح كامنة في حجر وأبعدَ من التمسح "بالغسيل الملائكي" المنشور على أغصان شجرة السريس.
 
كان عقلي وبصري قد امتدا إلى طائرة إسرائيلية مغروسة في التل لكن بالمقلوب؛ بقيت أحدق مثل بوم لكنني لم أسأل جدتي ولا أبي الذي كان يقود السيارة إلى مستشفى نهاريا- لنزور جدته الراقدة هناك تقضي آخر أيامها معلقة بأسلاك وأجهزة طبية، عن قصة الطائرة، ذلك أنني رحت أَتقيأ إثر صداع ودوار عنيفين.
 
كنت أصعد السلم قاصدة غرفة الطعام أتساءل بيني وبين ذاتي عن سبب يدعو لتذكر تلك الحادثة ولكنني عبرت الدرجات العشر الأوائل دون أن أصل إلى إجابة محددة، وكانت صديقة لي تنتظرني عند باب صالة الطعام، وقد وقفت تحادث رجلاً بدا لي مألوفًا-مع أنه لا يزال يحتفظ ببعض السواد في شعره إلا أنه يبدو في السبعين من العمر أو أكثر قليلاً.
 
توقفت على بُعد مترين منهم، متظاهرة بالانشغال في الرد على رسالة كانت قد وصلتني للتو ذلك حتى لا أقطع حديثهما إلا أن عقلي وقلبي كانا يتنازعان فيما بينهما لمعرفة هوية ذلك الرجل.
نادتني الصديقة لندخل. أما الرجل فراح يتفحصني بابتسامة لطيفة ولم أستطع إلا أن أرد له بمثلها.
 
-ما عرفتنا على صاحبتك. قال ذلك بينما نحن نهم بالدخول.
توقفت أتلمس تلك اللحظة الغريبة التي تمنيت فيها أن تتوقف الكرة الأرضية عن الدوران ويتوقف منظار (هابل) العملاق عن مراقبة وتصوير المجرة المتمددة حتى أسجل هذه اللحظة التي نزعت بذرتها بذاكرتي الصورية المتهشمة.
عرفته باسمي واسم بلدتي، فصمت يبتلع دهشة وغصة في آن واحد، أما أنا فرحت أتابع مشهد عينيه وهي تتحضر لموسم الحزن وهطول ذكريات ربما كان قد دفنها منذ أربعين عام أو أكثر.
 
-         مجد الكروم.. آه، آه. أتعرفين أنني مستقر الآن في تونس وأن ( بشر بشر)، جاري.
صُعقت. أخذت أبحث كالمجنونة في أرشيف الذاكرة عن هذا الاسم.
فسألته،
- بشر قريب أحمد بشر..؟
- أتعرفين أحمد؟!.
- لا أعرفه شخصيًا، فقد استشهد قبل أن أولد بعشرين سنة، جدي حدثني عنه وعن بطولاته.
-أي حزن سيدب فيّ الآن وأي جروح ستفتحين؟
 
ابتسمت ابتسامة بلهاء. أخذ يدي في يده وجرني إلى طاولة يحدها عامود، جلست بأمر منه كأنني قد أاقترفت ذنبًا سأحاسب عليه الآن.
 
-         قاسم أبو خضرة.. محمد غريفات.. عمر السيلاوي.. فوزي نمر..عبد حزبوز.. رامز خليفة.. فتح الله السقا.. يوسف أبو الخير.. محمود أبو الصغير.. أحمد بشر.. راجح بشر.. عمر منصور.
 
راحت دمعتان تجريان على خديه، وخُيل إليّ أن هذا الحديث كان معلقًا منذ زمن، وأن هذا الإنسان الجالس قبالتي قد سجل موقعًا باسمه على رصيف التعب وأخذ ينتظر رحمة تنزل من السماء فتشفيه من علة التذكر.
 
لقد سمعت عن هذه الأسماء وربما قرأتها، لكن أين.. أين أيتها الذاكرة اللعينة ؟!(رحت أتمتم بيني وبين ذاتي).
 
غَير مجرى الحديث، فراح يحدثني عن دير الراهبات في مدينة الناصرة، ذلك الدير الذي كان على قمة جبل، وكانت العذارى فيه من "أجمل جميلات فلسطين" ينذرن أرواحهن وقلوبهن ليسوع المسيح. ولم يكن أحد يجرؤ أن يقترب من ذلك الدير، أما هو فقد كان يذهب إلى هناك ليسترق النَظَرَ إلى راهبة حنطية البشرة شقراء الشعر، وذات يوم شاهدته الراهبة فأحبته..
 
-         لكن ماذا أقول لكِ؟ أقول جملتي التي قلتها في تونس في الاجتماع الذي عقد لمناقشة اتفاق أوسلو في حينه.. طز في هيك دولة ما فيها مقيبلة!. مرة أخرى طز في هيك دولة ما فيها مقيبلة.
فضحكت على جملته وعلى حديثه المتنقل بين حادث وآخر في ازدحام.
-         أتعرفين ماذا يميزكن.. أنتن بنات الجليل؟
قلت مبتسمة:
- لا شك في أننا أجمل الجميلات وربما هذا ما يميزنا.
فاجأني:
- بل كعاب أقدامكن!.
 
أحسست بحرارة تخرج من ذلك الكعب فابتسمت بخجل وحنيت رأسي لأضحك في سري.
-         كان في القرية صبية اسمها فريدة، تكبرني بنحو ثلاثة عشر عامًا، كان لها كعب ليس له مثل في الدنيا. كانت تحمل جرتها على رأسها لتذهب مثل باقي الصبايا تعبئ الماء من العين، وكنت أنا أنزوي خلف زيتونة قرب العين حتى تأتي فأملئ عينيّ من جمالها، وكان أكثر ما يدهشني خلخالها الرنان وهو يهتز باهتزاز قامتها الرشيقة، أما كعبها المقوس.. ماذا سأحكي لكِ عنه..آه.. راحت تلك الأيام..
 
مسح دموعه بمنديل قد كنت ناولته إياه. وتابع قائلاً:
-         مع أنها تكبرني إلا إنني أحببتها وهي في الحقيقة كانت تلاطفني وتمازحني حتى أنها كانت تحضنني في بعض الأحيانِ. ذات يوم عندما كانت ذاهبة إلى العين لحقت بها كعادتي وفي الطريق انحدرت هي إلى كرم الزيتون إذ كان ينتظرها شاب من القرية اسمه ياسر وما هي إلا لحظات حتى كانت في حضنه تبادله القبل. جن جنوني حينها ولم أكظم غيظي حتى أتى يوم كان هنالك عرس في القرية.
 
في أيام زمان كانت كل القرية تتجمع في العرس، وكنت أنا أتقن الزجل وأعزف على الأرغول.. يومها قلت في لقاء فريدة وياسر قولاً فانتفضت القرية وأخذت كلها تلوك وتعلك بخبرهما وحتى يستر أبوها الفضيحة زوجها منه ورحلت عائلتهما إلى الأردن.. ومن يومها لم أرها.
وبعد هذا الحادث بسنوات هُجرنا. هناك من التجأ إلى الأردن أو إلى سوريا، عائلتنا التجأت إلى لبنان..راحت الأيام.
 
ذات يوم كنت أعمل في مركز الأبحاث في بيروت فجاء شاب يبحث عن خاله توفيق فياض، فقلت له أنا توفيق فياض لكنني لست خالاً لأحد. فألح أنني خاله، ولمّا سألته ابن من تكون قال أنا ابن ياسر وأمي فريدة فصعقت وبكيت كما أبكي الآن.. أتعرفين ماذا أخبرني حينها؟
سألت بأسى:
- ماذا؟
- قال إن أمه عميت، وماتت بعد ذلك حزنًا وكانت وصيتها أن يسلم عليّ.
 
 
نظرت حولي، كان قد مضى ربما نصف ساعة على حديثنا، وكان الجالسون قد ملأوا أطباقهم وبدأوا بتناول الفطور.
 
مئة وخمسون وجهًا توزعت على الطاولات لكن الوجوه جميعًا تجمعت في وجه واحدٍ يردد بيت شعر من قصيدة (الحرب لم تخلع نقابها) للشاعرة الفلسطينية روز الشوملي:
"يا فجرنا
هل تغفر لنا خطيئتنا
حين وقفنا نشد الحبل
متعاكسين
فآثرنا النقصان
على اكتمال الوطن؟!".
 
هرعت إلى غرفتي، دفنت رأسي في الوسادة وأقحمت في البكاء. يمكن للمرء ارتجال بيت شعر أو ارتجال خطبة أو تعرفون يمكنه أن يرتجل ديوانًا كاملًا بلا أخطاء لكن كيف للمرء أن يرتجل الفرح أمام وجوه قلصها الحزن ومددها ما بين حرب وحصار ؟!.
فتحت جواز السفر الأزرق، هنالك جرح في الهوية ينزف دمًا أخضر.
 
أردت قبل اليوم أن أخرج بسلام من منطقة "البين بين" من الحيز الصغير الكفيل بأن يستجاب فيه دعاء متنقلٌ بين خرزات المسبحة ذلك أن هذه المساحة الصغيرة فيها من القلق والتوتر ما يعادل تهريب فلسطيني على حاجز إسرائيلي، كان ذلك لا كي أحدد تطرفًا عاطفيًا بمحض إرادتي يقيني من الزلات والنزوات، ولا لأن القلب كان في سفر دائم بين مستحيلين وممكن، بل لأن مع الدوار الذي أصاب هذا الكوكب منذ البدء عطلٌ ما معنويٌ أصاب القلبَ فلم يعد عنده معنى للجنون.
 
كان الطريق مثل متاهات المرايا، متعرج شائك كذاكرة اختلطت فيها الأحزان بالأفراحِ، كل إشارات المرور فيه توقفت عند الأصفر: كن مستعدًا للعبة ورق يوزعها قدر خبيث.
 
عمان:
 
صباحًا - شارعٌ شاردٌ بحضارة عربية تؤثث جانبيه، تمشي فيه متأملاً لافتات كتب عليها (ش. ساطع الحصري، ش. إبن رشد، ش. مشيل عفلق...)، تتنقل ما بين مقهىً وسوق، الابتسامة واحدة لا تفارق وجهك لا لافتة عبرية تزعجك لا شارع إسحاق رابين ولا شارع غولدا مائير ولا جندي صهيونيٌ عاد من الخدمة ينتظر في المحطة حافلة تنقله إلى وجهة لا تعنيه ولا يعنيها.
 
ظهراً تغمس بالخبز العربي حمصًا لم تذق مثله قبل اليوم، تتناول على سبيل التبريد زجاجة بترا فتتساءل أيهما ألذ (طيبة) أم (بترا)؟ - ولأنك تحبُ فلسطين أكثر فتقول أن (طيبة) هي الأطيب. وأنت تخرج إلى الشارع ترتفع عيناك إلى مبان شقت طريقها إلى الله تستمد طوبها من أموال (سعد الحريري)؛ يتقدم وجهك برفق نحوك وجهك الحاضر الغائب أول مرآة تريك نفسك: طفلة في السادسة مدت يدها إلى المارين تتوسل فيهم ما فاض من جيوبهم من عبء البورصات. يشدك خضار عيناها تتقدم منها وهي تكيل لكَ دعاءً من السترة والتوفيق. تقول لكَ بعد أن ألححت في السؤال عن اسمها :
-أنا يارا، من تشفر تشدوم قضا نابلس.
 
يارا الصدمة، الرعشة، ويارا امتشاق البنادق في وجه المغيب. كل غبار وطين الخيام الذي غطاها وتداخل في شقوق وروافد وجه أجدادنا لم يغط ولم يمحو لهجتها الأصل.
أيها البلد.....  لماذا بروجكم أبعد من السماءِ امتدت، ونحن ليس لنا على الأرض إلا فتات ننازع عليها العصافير ؟.
 
مخيم إربد :
 
يقدم لكَ القهوةَ شيخٌ فلسطينيٌ، يطمئنك أن القهوة مغلية أكثر من المعتاد ومرة كالعلقم كما تحب، ينصحك أن تقلع عن التدخين ( الإنجليز كانوا يبادلوننا التبغ بالقمح، هذا خبث منهم فاتركوه)، يحدثك عن يافا وعن برتقالها، عن الجليل وزيتونه، يشعرك -كما همُ دبوا فيّ إحساسًا- أن فلسطين شيءٌ لا يثمن إلا بالدم يحملكَ وصية أن تزور طيرة حيفا وتصلي فوق ترابها صلاة منه ثم تقبل الأرض عوضًا عنه. فهل أديت الوصية؟
 
أغلقت جواز سفري الأزرق وأنا أعاود استرجاع آخر أسئلة المخابرات الأردنية حول الزيارة وأهدافها. تساءلت: في اللحظة التي سأعبر فيها حاجز (قلنديا) كم وصية سأحمل معي دون أن أمتلك القدرة والمجاز على تأديتها ؟.
 
حملت حقيبتي وخرجت من الغرفة استعدادًا لزيارة ضريح الشهيد (أبوعمار) وكان أول وجه التقيت فيه فو خروجي هو وجه الشاعر( أحمد دخيل) فبادرني التحية ثم ابتسم وردد (إشهد يا عالم علينا وعَ بيروت).
 
في زيارة الضريح لم يكن هنالك شيء يفرح أو يعزي، كان كل شيء يدعو للحزن بدءا من الحجر الذي أعطاني إياه طفلٌ من مخيم عين الحلوة وهو يقول (هذا حجر من فلسطين فاحفظيه) وعندما أخبرته أنني هنا وأنه هو من عليه أن يحمل تذكارًا معه إلى لبنان رد أنني هنا حاضرة غائبة وأنه أكبر من أن يتمسك بالرومانسيات الوضيعة.
 
البرستيج العسكري والقفص الزجاجي وكل هذه الأحجار..هل هذا ما تمناه أبو عمار \؟!
لماذا كنا نبكي؟
لماذا كنا نصرخ في دخيلتنا؟
هل كنا نبكي فرحة اللقاء أم حزن الفراق؟ هل كنا نبكي شفقة على أنفسنا ؟ أكنا نبكي لأننا ارتضينا بالنقصان أم لأننا ساوينا بين الواقف خلف المتاريس يصنع من غبار قدمه سماء للمرحلة القادمة وبين من يقف خلف المنصة يردح بآلاف الشعارات البالية ؟
لماذا لا تجيبُ أيها القلب المسكون بالصدى ؟
 
في بيت لحم، كان لا يختلف أن تكون في العام 2007 وتسمع نشرة أخبار طازجة عن دم فلسطيني نزف بسيف أخيك وقت الاقتتال الداخلي بين فتح وحماس وبين أن تكون في ساحة المهد في العام 2011 تتحضر لدخول الكنيسة مع اللاجئين فيأتي أحدهم ليهمس في أذنك: انتبه وأنت تدخل أن لا تحني رأسك للصيب !.
 
***
 
أحقًا رحلتم؟!
لوجهكِ، لوجهكَ، لوجوهكم نزيفًا من الدمع يلاحقني، يتربص بي عند كل منعطف فيغرقني حزنًا. للفراق طعم مُرٌ، لي من بعدكم كلمة عن الحب تعني فلسطين.
 أتذكركم لمّا كنا في مقهى فلسطين، دمنا العربي يزحف نازفًا على الحدود، عيوننا تتابع شاشة واحدة:
عشرة شهداء في مارون الرأس، أربعة شهداء في الجولان السوري، جرحى.. معتقلون على حاجز قلنديا.. عندما كان شكل واحد لوجه واحد لعملة واحدة عندما كنا نحن ولا شيء غيرنا.

التعليقات