06/04/2012 - 19:09

عودة الكاميكازي / خالد عودة الله

كم كان ميكادو منتشيا لعودة حكايات البطولة إلى المجالس، وكان أثناء عودته إلى منزله يحدّق في وجوه الكاميكازي - التي ملأت صورهم شوارع طوكيو - متأملا تفاصيل وجوههم إلى إن نسيَ في إحدى الامسيات أن ينتظر بضع ثوان قبل أن يعبر الشارع بعد تحوّل إشارة المرور إلى اللون الأخضر.

عودة الكاميكازي / خالد عودة الله

استيقظ ميكادو تاكاهاشي من نومه الساعة السابعة، خرج من شقته الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة، وصل إلى محطة قطار "المترو" الساعة السابعة وخمس وثلاثين دقيقة، انطلق القطار الساعة السابعة والأربعين دقيقة، ودخل مقرّ عمله في شركة كاسيو  الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة. ما أن وصل ماكيدو إلى مكتبه حتى أخذ بحزم حاجياته وأغراضه، مستعدا للانتقال إلى مكتبه الجديد، فقد تم ّتعيّنه البارحة رئيسا لقسم البحث والتطوير في شركة كاسيو لصناعة الآلات الحاسبة، وقد أوطلت إليه مهمّة تصميم الآلة الحاسبة الخارقة، أو كما أطلق عليها مدير الشركة "حاسبّة القرن". رمق  ميكادو مكتبه القديم بنظرة وداع وحمل حاجياته وصعد إلى الطابق الأربعين، حيث يقع قسم البحث والتطوير، رتّب ميكادو حاجياته في مكتبه الجديد الذي يتكون من عشرات كتب الرياضيات والهندسة وعشرات الكؤوس والشهادات التقديرية التي حصل عليها في مسابقات الرياضيات الوطنية. علاقة ميكادو بالرياضيات تجاوزت منذ زمن طويل علاقة العالِم بتخصصه، فقد كان يرى في الرياضيات وصرامتها محاربا عنيدا لا يهزم، لأنه بكل بساطة يفرض قواعد النزال على خصمه، دفعته هذه المبارزه الدائمة مع الرياضيات إلى ارتياد تخوم الفكر الرياضي، فأدمن منذ سنوات نظريات اللانهاية ونظريات الفوضى (الكاوس).

جمع ميكادو إلى ولعه بمبارزة الفكر الرياضي ولعا بالهندسة، إلا أنه في الآونة الأخيرة، وتحت تأثير روايات "يوكيو ماشيما"، أصبح مسكونا بفكرة بناء هندسة جديدة اسماها "هندسة الخراب"، ففي كل صباح وهو يعبر شوارع طوكيو المرصوصة بالحديد والإسمنت والبشر المسرعين، كان يتساءل عن الخراب الذي جعل كل هذا "العمار" ممكنا في اليابان ما بعد الحرب.

لم يستطع ميكادو أن يتحرر من سحر "تأثير الفراشة" في نظرية الفوضى، حيث يمكن  لفراشة ترف بجناحيها فوق الأمازون أن تتسبب بإعصار فوق باريس كما تنص النظريّة، ولمدة شهر كامل كان ميكادو يغفو والفراشات تحوم فوق رأسه، وحين يستيقظ تصحبه فراشة بيضاء في طريقه إلى عمله، يرقبها وهي تقاوم تيار الهواء المنبعث من فتحات التكييف في القطار، وتدخل معه مقر عمله، وما أن يفتح باب مكتبه حتى تسبقه وتحط على لوحة تصميم "الآلة الحاسبة الخارقة" سابلة جناحيها تحت أشعة الشمس المنبعثة من النافذة، وما أن يبدأ ميكادو عمله في تصميم وبناء المعادلات الرياضية التي ستشكل "دماغ" الحاسبة الخارقة، حتى تبدأ الفراشة تلاحق أدواته الهندسية وقلمه الذي خط به وهو يلاحق الفراشة على لوحة التصميم.

"في عالم تحكمه الحسابات الدقيقة يصبح الخطأ الحسابي المقصود رمية النرد التي يمكنها أن تعيد للإنسان بطولته المغدورة، فكم هي الحياة مملة بدون أبطال".

مضت سنة ونصف منذ أن بدأت شركة كاسيو بتسويق "حاسبة القرن " التي كانت مخصصة للمهندسين بتخصصاتهم المتعددة، ومنذ ذلك الحين بدأت تحدث في شوراع طوكيو ومبانيها ظواهر غريبة، فإشارات المرور صارت تتحوّل إلى الأخضر قبل ثوان من تحوّل الإشارة في الجهة المقابلة إلى الأحمر، فترتطم السيارات ببعضها البعض، والمصاعد أصبحت تفتح أبوابها قبل أن تصل الطابق المنشود بسنتمترات، فيتعثر الخارجون منها، وظهرت في الشوارع طوكيو سيارات "تويوتا" مصباحها الأيمن أكبر من المصباح الأيسر، ووصلت قطارات "المترو" متأخرة عن مواعيدها، وصارت ناطحات السحاب تنهار أثناء تشييدها. 

كان الجميع مصدومين بما يحدث، وأخذت الجرائد تخرج وعناوينها العريضة تتحدث عن "اللعنة" التي حلّت بالعقل الياباني، وشكلت الحكومة عدة لجان للتحقيق، ولكنّ أيًّا منها لم ينجح في الوصول إلى سبب هذه الكارثة القوميّة. 

لعنة الكاميكازي المنسيون، هذا هو التفسير الذي بدأ ينتشر بين الناس بعدما فشلت كل التفسيرات العلمية والعقلانية، فأخذ اليابانيون يحملون الأكاليل والبخور ويتجهون بها إلى النصب التذكارية لطيّاري الكاميكازي، وبدأت الأحاديث تتسلل شيئا فشيئا في مجالس الشاي حول امبراطورية الشمس ومعاهدة الاستسلام وقواعد المارينز في أوكيناوا.

وحده كان ميكادو لا يتعثر عند الخروج من المصاعد، ووحده كان يصل في الموعد الدقيق لوصول قطار "المترو"، فوحده  كان يعلم مقدار الخطأ الحسابي الذي زرعه في دماغ  "الحاسبة الخارقة".. كم كان ميكادو منتشيا لعودة حكايات البطولة إلى المجالس، وكان أثناء عودته إلى منزله يحدّق في وجوه الكاميكازي - التي ملأت صورهم شوارع طوكيو - متأملا تفاصيل وجوههم إلى إن نسيَ في إحدى الامسيات أن ينتظر بضع ثوان قبل أن يعبر الشارع بعد تحوّل إشارة المرور إلى اللون الأخضر.

التعليقات