01/05/2012 - 23:57

رائحة الديتول / خالد عودة الله

كان الشيخ ماهر مهووسا بأحكام الطهارة والنجاسة، فكان يحرص على تقصير سرواله عشرة سنتمترات على الأقل إبعادا لذيل ثيابه عن النجاسات، و"يسبّع" يديه بعد الفراغ من عمله، مع أنه يرتدي قفازات سميكة، وكان يتحرّى مكانا للصلاة بعيدا عن البلل والرطوبه اهتداء بالقاعدة الشرعيّة "جاف على جاف طاهر بلا خلاف".

رائحة  الديتول / خالد عودة الله

 

مستسلما لدفء شمس آذار، يُمشّط الشيخ ماهر لحيته بأصابع يده وهو مستلق على سجادته، بعد أن فرغ من صلاة الظهر، يخرج من جيبه "قائمة مهمات اليوم" التي أوكلها إليه "موشي" المنحدر من أصول عراقيّة، مدير وحدة النظافة في "كنيون" المالحة، يراجع القائمة ويخرج من جيبه قلم حبر مزركش وجده في إحدى حاويات القمامة، أعجبه فعقمه بمحلول "الديتول" واحتفظ به، وبدأ بشطب ما أنجزه من مهمات وهو يتمتم بشتائم متنوعة تغطي "موشي" من رأسه إلى أخمص قدميه، لتصل إلى "رِفكا"، والدة "موشي"، "رِفكا" التي يحضر لها كل يوم أحد علبة حمص من البلدة القديمة، بناء على طلب ابنها "موشي"، "فرفكا" - على ما قاله له ابنها "موشي" – تعشق حمّص القدس القديمة، فهو الأقرب إلى طعم الحمص اللبناني الذي أدمنت عليه أثناء خدمتها العسكريّة في مكتب الارتباط المدني في مرجعيون بجنوب لبنان قبل ثلاثين سنة.

لا يطيق الشيخ ماهر رواد "كنيون" المالحة من العرب، وخاصة المتدينين منهم، فهم يتركون وراءهم بركا كبيرة من المياه بعد الوضوء، فيضّطره ذلك إلى إعادة مسح أرضيّة دورات المياه عدة مرات في اليوم، لذلك كان يقول لمن يراهُ يشمر عن ساعديه استعدادا للوضوء: "إن ماء الصنابير في دورات المياه غير طاهر ولا يصلح للوضوء لأنه ماء أعيد تَدويره"، كان "موشي" مسرورا بمساهمة الشيخ ماهر في الحفاظ على نظافة المكان، من خلال تقليله لعدد  المتوضئين في دورات المياه في "الكنيون"، "فموشي" لا يستطيع فعل ذلك لئلا يُعتبر ذلك إساءة عنصرية للعرب، وتصرفا غير لائق مع الزبائن.

كان الشيخ ماهر مهووسا بأحكام الطهارة والنجاسة، فكان يحرص على تقصير سرواله عشرة سنتمترات على الأقل إبعادا لذيل ثيابه عن النجاسات، و"يسبّع" يديه بعد الفراغ  من عمله، مع أنه يرتدي قفازات سميكة، وكان يتحرّى مكانا للصلاة بعيدا عن البلل والرطوبه اهتداء بالقاعدة الشرعيّة "جاف على جاف طاهر بلا خلاف".

أما فترة الاستراحة فكان الشيخ ماهر حريصا أن يُمضيها  مطالعا للجرائد العبريّة وهو يحتسي منقوع الحلبة المحلّى بالعسل، وكان يستخدم ما يقرأه لاستعراض قدراته في التحليل السياسي أثناء اجتماعه بإخوته وأخواته في بيت أبيه وأمه بعد الصلاة من كل يوم جمعة، وعلى الدوام لم يستطع أشقاء الشيخ ماهر تفسير التشابه الغريب بين تحليلاته السياسية وعناوين الصحف الفلسطينيّة صبيحة يوم السبت.

في صباح يوم الجمعة، وبعد أن أنهى الشيخ ماهر جولة التنظيف الصباحيّة، دعاه "موشي" إلى احتساء قهوة "عِليت" في مكتبه.. ركن الشيخ ماهر عربة النظافة في الممر، نزع القفازات وأخرج مسواكه ونظف به أسنانه وتوجه إلى مكتب "موشي" الذي استقبله مرحّبًا به، أدخله غرفة المكتب مغلقًا الباب، كانت رائحة القهوة تعجُ في المكان، قدم "موشي" إلى الشيخ ماهر كأسا من القهوة وبدأ بالحديث:

"شيخ ماهر أنت تعرف كم أثق بك وأحترمك، فأنت إنسان مستقيم وكتوم، إن والدي ’حاييم ‘ يعاني من مرض السكري منذ سنين، وقد بدأ هذا المرض اللعين يؤثر على قدراته في الفراش على ما أسرّ لي به البارحة، وقد سمعت أن ’الفياجرا‘ في رام الله تباع بدون وصفة طبيّة، وبنصف السعر عما هو عليه في الصيدليات ’الاسرائيليّة‘، أريد منك أن تشتري لي خمسين حبة ’فياجرا‘ من عيار 100 (ملغم) من رام الله، ولن أنسى لك هذا المعروف ما حييت".

رشف الشيخ ماهر رشفة طويلة من القهوة وهو يرمق "موشي" بنظرة لا تخلو من الخبث قائلا: "يوم الأحد صباحا ستكون الحبوب ’السحرية‘ على مكتبك"، قالها الشيخ ماهر وهو على قناعة أن "موشي" يريد "الفياجرا" علاجا لعجزه لا عجز أبيه المُّدّعى.     

في صبيحة الأحد أوصل الشيخ ماهر "الفياجرا" إلى مكتب "موشي"، وبدأ يومه بتنظيف دورات المياه، سكب مادة "الديتول" المعقمّة وبدأ يفرك كتلة من البراز المتكلسة العنيدة في أحد المراحيض، انبعثت رائحة "الديتول" نفّاذةً حادةً فلم يستطع تحمّلها في ذلك الحيّز الضيّق، فرفع رأسه طلبا للهواء النقي من الشباك الغربي لدورات المياه، انتصبت أمام عينيه مئذنة مسجد قرية المالحة المُهجّرة التي تعلوها لاقطات البث  "التلفزيوني"، فحدّق بها كأنه يراها لأول مرّة، تغلغلت رائحة "الديتول " إلى دهاليز جهازه العصبي، وإلى حجرات ذاكرته الموصدة منذ زمن بعيد، فاستدعت رائحةَ سائل التنظيف الذي كان يسكبه عامل النظافة الروسي الغليظ "ديمتري" على ممرات الزنازين الانفراديّة في "القسم عشرين" في سجن المسكوبية التي أمضى فيها عشرين يوما قبل اثنين وعشرين سنة. 

خرجت من صدر الشيخ ماهر تنهيدة أدمت رِئتيه:

"عندما تختلي بعدوّك ولا تَتَملكُكَ رغبة جامحة يصعب مقاومتها بالإطباق على عنقه، ينتهي بك الأمر مُطبقا على برازه المتكلّس، وعاملا حاسما في شعوره بالرضا عن فحولته، ومنعشا لذاكرته الاستعماريّة في مرجعيون. كل هذا وأنت تنظر إلى مئذنة مسجد المالحة من شباك مرحاضه."

التعليقات