28/10/2013 - 13:32

قصّة في الوقت المناسب / إياد برغوثي

اللّيلة سأعود إلى الشّرفة لأرى ما كان ولأحدّثهم عمّا سيحلّ بهم، حان الوقت أن يعرفوا ويتحمّلوا المسؤوليّة هم أيضًا، سأخفّف عنهم قدر الإمكان، فأحفادهم يشبهونهم، مع أنّهم أقلّ هيبة ولباقة وحضورًا.

قصّة في الوقت المناسب / إياد برغوثي

- إياد برغوثي - 

هناك قصص تأتيك في الوقت المناسب، كأنها "سوبر مان" سمع نداء استنجادك وهبط بخفة لينقذك من الأسئلة المحيّرة المطاردة لك في أزقة الوعي المعتمة، بعد تخاذل حقائقك الجاهزة وعدم تحملها لمسؤوليتها. لم أكن أستطيع تفسير علاقتي بهم، وخشيت أن أحدث أحدًا، حتى زوجتي، عنهم، إلى أن قصّ عليّ صديق يكبرني بعشرين عام، يعاني من اكتئابٍ نفسي وضغطٍ عالٍ وسكري وأزمة مالية مستدامة، حلمه.

"كنت في بلدة تبدو من بناياتها أنها بلدة عربية، كنت في وسط الشارع، طلعة قوية، بجانبي سور قديم، وأمامي أشجار عالية، وفي نهاية الطريق القصير انحناءة نحو اليمين، كان معي هاتف نقال، بدأت أصوّر السور، فظهرت على شاشته صورٌ من ماضي الجبل خلفه، خلف السور. صوّرت بسرعة، ضغطت كثيرًا، فإذ بي أرى على الشاشة بشرًا من العصر الحجريّ، يجلسون حول النار، بدأوا يركضون نحوي، فركضت، هربت."

"عندما وصلت نهاية الطريق"، أكمل يقصّ علينا حلمه بعد أن أطلقنا مفرقعات إعجابنا فيه، "اختبأت بين الشجر، وأغلقت هاتفي، فعادت البلدة كما كانت الآن، أقصد قبل اكتشافي لهاتفي العجيب، صوّرت البيت الذي أمامي صورة واحدة، فظهر طابقه الأول فقط، تجلس في ساحته ثلاث نساء وتجري حولهن مياه متفرعة لأنهر صغيرة ودجاجات ملونة، خرجت من شاشة الكاميرا فاختفت النساء وجف الماء، ففهمت أن لدي كنزًا بين يدي. كنز بلاستيكي بحجم كف اليد. مشيت، نحو الحي الآخر."

"رأيت مقهى، دخلته، قلت للرجال، الجالسين خلف أنابيب النراجيل: "معي تلفون بصوّر لَوَرا، يعني كيف كان هادا المحلّ من قبل"، مشى النادل إليّ يلوّح بالصينية البلاستيكية البنية المدورة، "مين حضرتك؟"، سألني، "أنا من هون، مش عارفني!"، نظر إليّ بشفقة "جيب فنجان قهوة وكاسة ميّ للأستاز، خلي يرتاح، هادا ضيف"، "أنا مش ضيف، أنا من هون"، لم يهتم.

أما نحن فاهتممنا بحديثه، حتى أننا أشعلنا سيجارة جماعية.

""شو نوعه هاضا التلفون؟" سألني ولد، "مش مسجّل عليه إشي، بس بصوّر المحل كيف كان قبل، تعال أورجيك إياه"، ضحك عليّ كلّ الجالسين الشباب، وصفقوا ببطء لئيم، كل ضميرٍ متصل يعود إلى العضو الذكري المغوار، فأتعمّد، غالبًا، عندما أكلّم طلابي أن أذكر المفعول به دائمًا. أذكر أنني غضبت وأنا أحلم بهذه اللحظة، كدت حتى أن أستيقظ وأخسر الحلم، غضبت فعلاً". وضحك.

"لأي فترة بتقدر ترجع؟" سألني أحدهم من قلب القهقهة، نظرت إلى وجهه، عرفته، كان أحد طلابي، تخرّج ربما قبل عشر سنين، ابتسمت له "لازم نجرّب أستازي عشان نعرف".

"يعني ممكن ترجع لزمن الجاهلية؟" فاجأني بسؤاله، "طبعًا، مع إنه في ناس عم بترجعنا لهناك بدون هاي الواسطة"، حاولت أن أضحك الجالسين إلا أنّ الغضب استشاط بهم: "طلعوه برا.. برا."

طردوني من المقهى، حتى أنّ الشاب الذي حمل كانون الفحم الصغير كاد أن يرمي جمراته الرمادية الملتهبة عليّ، صوّرته فاختفى المقهى كله. 

وجدت أولادًا يجلسون حول حاسوب شخصي، سألتهم بوشوشة مغامرة: "حابين تشوفوا أبوكم لما كان صغير؟"، "أبونا مات!" قالوا بصوت واحد، "أحسن"، قصدت أن أقول إنّ هذا أفضل لاختبار قدرات الهاتف العجيب، لكني كنت نائمًا ولا سيطرة لي على دقة صياغة الحوارات في الحلم، وهم كانوا أولادًا وأحبوا الفكرة، فرأوا أباهم يطير فرحًا بأول سيارة اشتراها، كان يشبههم. أما أنا فاستيقظت، للأسف."

دخل إلى سيارته، التي كنا نتكئ على أبوابها وغبارها، فتح الباب، وعدنا أن يعود، واختفى في ليل الأزقة الجانبية بعد صفارتيّ وداع. صرخ صديقنا ليبادله الوداع بنكتة "المرة الجاي جيب معك الهاتف العجيب!" 

أردت أن أنادي عليه وألحق به، لكني فارقت الشباب بعده بقليل، أردت أن أحكي لهم عن الهاتف العجيب الذي في رأسي، الذي حيرني وكاد أن يخرجني عن طوري، حتى أنني نويت بالفعل أن أزور طبيبًا نفسانيًّا، فقد خفت من أن أفقد عقلي وتوازني تمامًا. لكني لم أحكِ لأنّ الواقع ليس كالحلم، والخيال أيضًا حكمه حكم الواقع لأنه ضمنه، ولأنّ الشباب مستهترون بكلّ شيء غير سخيف. مشيت حتى سيارتي وقرّرت أن استخدم الليلة، من جديد، هاتفي العجيب.

بعد أسبوع من انتقالي للبيت القديم - الجديد قرب السور، خرجت إلى الشرفة المطلة على الشارع لأدخّن سيجارة، أغمضت عينيّ عشر ثوانٍ لأستمتع من نسيم عليل هبّ فجأة ليكسر الحرّ المتواصل، وعندما فتحتهما رأيتهم. كنت أخاف منهم في البداية، أعود بسرعة إلى البيت وأخبّئ هلعي وراء ابتسامة بلهاء وأغيّر المحطّة التلفزيونيّة، وأسأل زوجتي سؤالاً تافهًا.

أغمض عينيّ عشر ثوانٍ فيظهرون، لقد اعتدت عليهم واعتادوا عليّ وعلى بنطالي الجينس وبلوزة التريكو، و"فتحت قريحتهم" على الحديث والقصص، عندما أطلّ من شرفتي لا أرى ما هو الآن بل من كان في المكان، قبلي، إنهم يشبهون أحفادهم لكنّهم أكثر هيبة ولباقة وحضورًا.

إنّهم يتحدّثون دائمًا عن مستقبلهم، عن أملهم والمخاوف. المشكلة أنّه بينما أردت أن أرى صور الماضي أرادوا هم أن يعرفوا ماذا جرى، ألحّوا وخشيت أن أقصّ عليهم ماذا جرى بهم وبالبلد، هربت من الشّرفة، ولم أخرج إليها مرّة أخرى، حتّى أنّني أقلعت عن التّدخين!  

اللّيلة سأعود إلى الشّرفة لأرى ما كان ولأحدّثهم عمّا سيحلّ بهم، حان الوقت أن يعرفوا ويتحمّلوا المسؤوليّة هم أيضًا، سأخفّف عنهم قدر الإمكان، فأحفادهم يشبهونهم، مع أنّهم أقلّ هيبة ولباقة وحضورًا.

 

نُشِرَ النّصّ في مجلّة الدّراسات الفلسطينيّة، مجلّد 24، عدد 96 (خريف 2013).

التعليقات