23/05/2016 - 20:40

شَعرَه يروي مجزرة الطنطورة الرهيبة / سامي العلي

وبقي عمي أنيس جربان شاهدًا على النكبة وراويا لتاريخ المنطقة، كما بقي شعره الأبيض رمزًا شاهدًا، حتى توفى عام 2009 عن عمر يناهز 87 عامًا.

شَعرَه يروي مجزرة الطنطورة الرهيبة / سامي العلي

حرصت في مثل هذا اليوم من كل عام، على زيارة عمي المرحوم، أنيس ذيب العلي جربان، ليسرد لي قصته مع الطنطورة. حافظت على هذا التقليد حتى وفاته عام 2009، ومنذ ذلك الوقت، وأنا أكتب القصة وأرويها، وأوثق رواية قرى الساحل.

في ساعات الظهيرة من مثل هذا اليوم عام 1948، أنهت العصابات الصهيونية مجزرة رهيبة، استشهد فيها قرابة 250 فلسطينيًا على مرحلتين. بعد هجوم انتقام واحتلال للقرية الساحلية الساحرة؛ هاجمت وحدة ألكسندروني الصهيونية الطنطورة، في الليلة بين 22-23 أيار، وأفاق سكانها مذعورين على صوت إطلاق نار وقصف مدفعي. حاول رجال القرية الدفاع عن بلدهم من مواقع مختلفة، ولكن السلاح الذي بحوزتهم كان قليلًا، ونفذت الذخيرة في أوج التوغّل الإرهابي، الذي انتهى بإعدام ممنهج لرجال وشبان على شاطئ البحر، شمل إطلاق نار على امرأتين وقتلهما، وتدمير بيوت ومعالم القرية.

علاقة روحانية نمت بيني وبين الطنطورة، وتعاظمت في كل مرة زرتها من خلال قصة عمي المرحوم أبو ساري، نجل مختار  قرية جسر الزرقاء، الذي كان شاهدًا على المجزرة. معروف بشعره ناصع البياض، الذي احتله الشيب منذ كان فتيا، وخلف الشيب قصة مقاوم وثائر نجا من الإعدام بأعجوبة ومعجزة. كان عمره 16 عاما عندما انضم لصفوف الثوار، حاملا بندقيته مدافعا عن وطنه وبلده من توّغل العصابات الصهيونية المجرمة.

بعد سقوط القرية وفشل محاولات الدفاع وصد العصابات الصهيونية، التي كانت مزودة بأسلحة متطورة، اقتادوه مع رجال وشباب الطنطورة والثوار الذين أُسروا نحو الشاطئ.  الضابط الذي أسره، 'طلبوا منا أن نحفر خندقًا كبيرًا، ولم نعرف السبب، لم نفكر أنه سيكون قبرا للشهداء. وبعد الانتهاء من الحفر، طلبوا منا الانبطاح ووجوهنا نحو الأرض، وبدأ الضابط يطلق النيران صوب الرأس، استذكرت حينها أهلي وبلدي ووطني الذي رأيته بتلك اللحظة يتساقط، سيما عندما ارتكبت العصابات المجزرة أمام عيني ودمرت بلدا جميلًا وحضاريًا ومقاوما كالطنطورة'. بهذه الكلمات كان يستحضر من ذاكرته مشهدًا مؤلما. وأضاف ساردًا: ”وصل الضابط ووقف فوقي، أغمضت عيني، علما أن أبي المختار كان على بعد أمتار محتجزًا مع كبار السن وأخوتي الصغار معه، فقد مكثنا تلك الفترة مدة أشهر في الطنطورة نظرًا للأوضاع.”

وسرد عمي؛ “صوّب الضابط فوّهة البندقية نحو  رأسي، وضغط على الزناد، ولكن بفضل من الله لم تخرج الرصاصة، فأيقنت أن ذخيرته نفذت، وفي هذه اللحظة وهو يحاول تزويد البندقية بالرصاص، هجم أبي المسن عليه وصاح؛ اتركه فإن الله يفعل ما يشاء، واستغللت الفرصة ولم أفكر مرتين وهربت دون أن أنظر للخلف، ركضت حتى تم اعتقالي واقتادوني للمعتقل مع من نجا من المجزرة من شيوخ وفتيان، ومنذ ذلك الحدث الرهيب تحول شعري أبيضَ وبقيت تراودني مشاهد المذبحة، خصوصا اللحظات التي حملونا فيها بالسيارات، رأيتهم يرمون جثث الشهداء لداخل الخندق الذي حفرناه بأيدينا، ودفنهم بقبر كبير، تحول اليوم لموقف سيارات لإخفاء الجريمة البشعة'.

وبقي عمي أنيس جربان شاهدًا على النكبة وراويا لتاريخ المنطقة، كما بقي شعره الأبيض رمزًا شاهدًا، حتى توفى عام 2009 عن عمر يناهز 87 عامًا.

 66 عاما دون إحياء للذكرى

يوم الجمعة 20.05.2016، شهد شاطئ الطنطورة، طقسًا وطنيًا إحياء لذكرى شهداء المجزرة. المئات من أبناء شعبنا  في الجليل والشمال والمثلث والنقب والساحل والضفة، رافقوا مهجري الطنطورة، وشاطروهم الطقس، الذي يُنظم للسنة الثانية على التوالي، بعد تغييب وغياب وإقصاء للمجزرة دام 66 عامًا.

أجل، 66 عاما لم نحيي ذكرى شهداء مجزرة الطنطورة، من خلال نشاط وطني عملي على أرضها وبمشاركة أهلها، وغيبناها عن وعينا وذاكرتنا الجماعية، إذ انحصر إحياء الذكرى على مقالات صحفية ورسائل أكاديمية وكتب توثيقية وغيرها. ستة عقود لم يلامس مهجرو الطنطورة رمال شاطئها ومياه بحرها، ولم يجرؤوا على الاقتراب من مقبرة أعزائهم، من فظاعة ما مروا به وشهدوه. قسم كبير منهم صمت ولم يقرع يوما أجراس الذاكرة والعودة، ولم يطرق أبواب غرف المذبحة المظلمة، حتى جاءت مبادرة جمعية 'فلسطينيات' بالتعاون مع أهالي الطنطورة المهجرين، ونظّمت العام الماضي، أول نشاط وطني على شاطئ الطنطورة، تخليدًا لشهدائها وأهلها وروايتها.

بناء وعي جمعي

إن تخليد الذاكرة الفلسطينية بكل تفاصيلها ومشاهدها، يحتم علينا إحياء ذكرى كل شهيد سقط دفاعًا عن الوطن، وكل مجزرة وقرية ومدينة، وكل مهجر وغائب وحاضر فينا. أن نخرج من حدود التوثيق والكتابة والبحث، وهو هام وضروري، ونسير في أرضنا، قرانا ونعانق معالم وطننا ونصافح قلوب مهجرينا وشواهد شهدائنا، من خلال طقوس ميدانية. فقط هكذا سننجح في بناء فسيفساء الوعي الجمعي وتقوية أواصر الانتماء والمناعة الفلسطينية الوطنية.

رجعت قبل يومين، مع أهالي الطنطورة، إلى حيهم، إلى شاطئهم وجزرهم وخلجانهم، إلى شمسهم وبحرهم. واستمعت إلى أنين ألمهم، وحنينهم، وأصغيت لأوجاع قصصهم وشهاداتهم، ببساطة رسمت ملامح الوجوه المهجرة وتجاعيد ذاكرة صامدة في عمق كيانهم، وتأبى النسيان والهرب وتتوق للخروج للنور، والصراخ بأعلى صوت 'نريد العودة لقريتنا'، وهنا يكمن واجبنا الوطني والأخلاقي والإنساني، وهو مناصرتهم على إحياء الذكرى في كل عام، والنضال من أجل تطبيق حق العودة.

عاهدت نفسي، وعاهدت أهالي الطنطورة، والرفاق والرفيقات في جمعية 'فلسطينيات' على تحويل طقس إحياء ذكرى شهداء مجزرة الطنطورة، لحدث وطني مركزي في السنوات القريبة، تماما كما عاهدت عمي المرحوم، الثائر أنيس جربان، في أخر لقاء معه، أن أروي قصة شعره الشايب، حتى الممات.

التعليقات