بائع التذاكر: في زمن التنقية

أنا بائع التذاكر ذاته رغم أني ما زلت خاضعًا في "كشكي" وأمارس الوظيفة ذاتها من خلف شباك أوسع، أعترف أني ما عدت أجيد قراءة الوجوه، ولا أعرف وجهة المسافرين وغايتهم، أنا في الحقيقة لا أعرف شيئًا في الدنيا غير المسافرين.

بائع التذاكر: في زمن التنقية

الأسير وليد دقة

بائع التذاكر قاعدٌ في كشكه منذ عقود خلف شباك صغير، يقرأ الوجوه متمرسا ويعرف وجهة المسافرين ولا يمل، فيُعد لهم التذاكر الصحيحة قبل أن ينطق بكلمة واحدة ولا يعرف المدينة التي يرغبون بالسفر إليها… بائع التذاكر قليلًا ما يخطئ في إعداد التذكرة سلفًا، وغالبًا ما يصيب رغم أن شباكه إلى عالم المدينة صغيرٌ والأكف الممتدة منها وبعض الوجوه والرؤوس وهي منحنية؛ فالمحطات خصصت هكذا لتنحني الرؤوس أمام شباك تذاكرها؛ بائع التذاكر يعرف بعض المسافرين لكثرة أسفارهم، بعضهم عرفه قبل أن يغزو الشيب رأسه، غالبيتهم يُعَرِفَه غايتهم والدرجة التي يريدون السفر بها من خلال ملابسهم والأمتعة التي يحملونها وماركة ساعتهم وزينة نسائهم… بائع التذاكر يقرأ لغة شفاه المسافرين قبل أن يسمع لغتهم، ويعلم من منهم عائدًا إلى مدينته بعد غياب طويل أو مغادرًا بلا عودة… بائع التذاكر يميّز بين المسافرين هربًا وبين المسافرين فعلًا.

أنا بائع التذاكر ذاته رغم أني ما زلت خاضعًا في "كشكي" وأمارس الوظيفة ذاتها من خلف شباك أوسع، أعترف أني ما عدت أجيد قراءة الوجوه، ولا أعرف وجهة المسافرين وغايتهم، أنا في الحقيقة لا أعرف شيئًا في الدنيا غير المسافرين.

ولدت في المحطة لأم لاجئة هربت من الحرب وأوصتني قبل موتها أن أعتني بكل المسافرين دون تمييز بين الأعراق والألوان والأجناس، فأجدت العمل تطوعًا إلى أن قيمتني إحدى شركات النقل بمرتبة جيد… أنا بائع التذاكر بدأت عملي مجانًا في زمن حركات التحرر، فأجدت لغتها إلى أن أنفقوا كل شيء، فغدا في الشرق ثمن للمروءة والأمانة والصدق شأن أي بضاعة أخرى كالكعكة والنعال والواقي الذكري.

محطتنا لم تعد مجرد ممر للمسافرين، وإنما ملجأ لنشالين وتجار المخدرات والهاربين من سلطة الهجرة وهم في وطنهم، ومن جاعوا في زمن التنسيق الأمني لجأوا للمحطة حتى يقدم لهم حساء مجانيًا كان قد طبخ بدموع أطفالهم وزوجاتهم على نار حرقة قلوب الأمهات… أنا بائع التذاكر أعترف أني ما عدت أتقن عملي ولا أعد التذكرة الصحيحة قبل أن ينطق المسافرون بكلمة، وإن نطقوا أسمعهم يرددون أسماء مدن وغايات غريبة… أنا بائع التذاكر ما عدت أجيد قراءة لغة الجسد ولا أعرف غاية المسافرين، ولا الدرجة التي يريدون السفر بها، وهم في زمن العوّلمة يرتدون نفس ماركة الملابس، ونسائها نسختها المساحيق والبوتكس بوجه واحد.

في زمن شركات الأمن الخاص وكاميرات المراقبة يفقد بائع التذاكر عفويته وتلقائيته ويتصرف المسافرون كما لو على الهواء مباشرة، ولم يعد ما يميز بين من يندسوا ويلعبوا دور المسافرين والمسافرين فعلًا.

 

التعليقات