20/08/2019 - 17:14

وهم المثالية وسقط الواقع!!

أيها المثالي الحالم لا تتوقع مني أن أكون ذاك الشخص الذي يرسمه خيالك الجامح، فأنا مجرد إنسان تسوقه الغرائز الطبيعية التي يحاول شكمها وتهذيبها بالأخلاق، تأخذه الأفكار المجنونة ويعيده المنطق الصائب، يتأرجح بين المرغوب والمطلوب، وتعمل في نفسه أهواء متناقضة

وهم المثالية وسقط الواقع!!

الأسير أبو جابر مع والده

الحال وصف معرّف لوضع قائم وآني، وضع متغيّر ومتبدّل، وإن بدا للناظر كأمر ثابت كونه مرتبطا بلحظة النظر، إلا أن التغيير يحدث ببطء على طول الخط الزمني دون أن نلاحظه أو نتمكن من الإمساك به، وذلك لعدم القدرة على إبقاء النظر الكلي شاخصا تجاه الموضوعة النظرية، أي الحال، وأيضا بسبب غياب إمكانية توحيد كل لحظات النظر لكل الناظرين في لحظة واحدة جامعة تعكس كل تحوّلات الحال في نظر كيان كلي واحد، إن كان هذا كيانا فرديا أو مجتمعيا.

إذا كان الجماد موضوعة حال متغيرة تعمل فيها البيئة والمناخ فعل وتأثير مغيّر ومبدّل مع مرور الزمن، فكم بالحري أن يكون الإنسان والحيوان والنبات موضوعات تغير وتبدل بشكل دائم.

ان التغير والتبدل الحيواني والنباتي أمر طبيعي لأنه مرتبط بالجوهر البيولوجي الذي يسيّر حال الحيوان لإشباع الغرائز، والجوهر البوتاني الذي يوجه نمو النبات من الأسفل إلى الأعلى. أما الإنسان فيجمع ما بين التغير والتبدل الطبيعي الذي يميز الحيوان والإنسان، ويبين التبدل والتغيير الذهني والسيكولوجي الذي يميز الإنسان وحده، فالحال الإنسانية يحكمها النضوج البيولوجي والوعي والفكر التراكمي والمؤثرات النفسية والبيئية المحيطة به الطبيعية والاجتماعية.

لذلك، لا يبقى حال الإنسان ثابتا أبدا وإنما متغير، وليس في الوجود حال مثالية أو كارثية، فالمثالية تعني الكمال الذي يمثل كل ما هو جيد وحسن وسام روحيا مع تجاهل الواقع، والكارثية تعني الفظاعة المطلقة التي تمثل كل ما هو سيئ وعقيم ماديا، وذلك من خلال الالتصاق بكل ما هو ملموس.

في سبيل القول بوجود المثالية أو الكارثية لا بد من اتسام هاتين الفكرتين بخاصيات الثبات والدوام في الحال، الأمر الذي من غير الممكن أو المنطقي قيامه في ظل قانون الحتمية أو الجبرية. فكل حال مرهونة بلحظات تتصارع فيها أشكال من التراجيديا والسعادة، من الدراما والسكون، من الكوميدا والحزن، من الصفاء والتعكر، ومن الهدوء والصخب... إلخ.

وبما أن الحال أو الحالة مرتبطة بحياة المخلوق الإنسان فمن غير المنطقي الادعاء بوجود حياة مثالية. وبغياب الحياة المثالية يغيب الإنسان المثالي، فتغدو المثالية مجرد ادعاء أو وهم كاذب تعزي البشرية نفسها بها، وأحيانا تمني بها الذات.

من يدعي المثالية فهو كاذب وغشاش لذاته وللآخرين، ومن ينشدها فهو مجرد حالم وساذج، سيكتشف بطلانها عند أول تجربة على المحك العملي حين يخيب ظنه في أقرب الناس له، ويكتشف أن كل إنسان هو مجرد مخلوق تحكمه النوازع الطبيعية والفكرية والنفسية والبيئية.

من هنا لا يمكن لنا أن نكون تلك الشخصيات الهوليوودية أو البوليوودية التي نشاهدها في الأفلام والمسلسلات والنجومية، أو حتى تلك الشخصيات التاريخية التي نقرا عنها في الأسفار، فالبطل أو البطلة وفارس الأحلام، أو عروس البحر مجرد شخصيات وهمية من نتاج الفكر البشري صاغها في قوالب معيارية صارمة، ويحاول الممثل أو الممثلة تقمّصها وعكسها للمشاهد خلال فترة زمنية قصيرة، ومن ثم خلعها والعودة إلى شخصيته الحقيقية التي تحمل كافة التناقضات البشرية التي تميز الإنسان الطبيعي.

لا غرو إذا من الانتكاسات التي تصيب العديد من أفراد المجتمع في هذه الأيام لدرجة انتشارها لدى صغار السن، ومنهم الأطفال، فالحياة غدت مجرد فيلم أو مسلسل أو أغنية أو "سكيتش" تعيشها الناس سرعان ما تتساقط فئة منهم بسبب خيبات الأمل والإحباط عند الاصطدام بالواقع، واكتشاف الحقيقة، فتنضم فئة أخرى بدلا منها لهذا الركب الحياتي المجنون، ومن ثم تتساقط فئة أخرى وتنضم فئة تالية، وهكذا دواليك، تسير الناس في سياق حياة استهلاكية ماديا ومعنويا تستخدم لمرة واحدة، ومن ثم يبدأ البحث عن نوع آخر جديد من أغراض الاستهلاك المطروحة في السوق.

لقد غدت الأمراض الاجتماعية والنفسية وباء قاتلا، منها الاكتئاب والتوحد والشجار والخصام والتفكك الأسري والطلاق والانتحار والقتل. هذا عدا عن الاستهلاك المفرط في الأدوية والمهدئات، وصولا للإدمان على السموم والكحول في سبيل الهروب من الواقع، ومن وجه الحقيقة لخلق واقع جديد وإن كان واقعا كاذبا ووهميا، يمكن التصالح والتعايش معه، فأصبح ديدن الإنسان الهروب وليس المواجهة.

في هذا الواقع نجد أيضا ظاهرة التدين، والتي يطيب أو يحلو وصفها بالصحوة أو العودة إلى جادة الصواب. هذه الظاهرة غير مقتصرة على المجتمعات الإسلامية، بل برزت في العقود الأخيرة كظاهرة اجتماعية عالمية في أوساط العالم المسيحي واليهودي أيضا، وخصوصا منذ الوهن والتراجع الذي أصاب الفكر الشيوعي والفكر الاشتراكي والفكر الليبرالي، وبدرجة ما الفكر القومي، حيث عجزت هذه الأفكار عن تقديم الحلول المناسبة للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

إن حقيقة ظاهرة التدين هذه هي انعكاس للانتكاسات الاجتماعية والسيكولوجية كنتاج للمثالية الكاذبة والوهمية التي تعيشها أو عاشتها فئات كثيرة من الناس. فالتدين غدا مهربا ومناصا للاحتماء به ساعة الاصطدام بالواقع، على أمل وجود مخرج ما يلوذ إليه الإنسان.

خلاصة القول:
أيها المثالي الحالم لا تتوقع مني أن أكون ذاك الشخص الذي يرسمه خيالك الجامح، فأنا مجرد إنسان تسوقه الغرائز الطبيعية التي يحاول شكمها وتهذيبها بالأخلاق، تأخذه الأفكار المجنونة ويعيده المنطق الصائب، يتأرجح ما بين المرغوب والمطلوب، وتعمل في نفسه أهواء متناقضة. أحب وأبغض، أفرح وأحزن، أنجح وأفشل، وأريد ولا أريد.

هذا هو أنا. خذني كما أنا بحسناتي وسيئاتي، حينها أقبل بك كما أنت، وسأعيش بك ومعك ولك، أيها الأنا أنت نصفي الآخر.

اقرأ/ي أيضًا | أسرى الداخل: الأسير أحمد أبو جابر..

* الأسير أحمد أبو جابر من مدينة كفر قاسم، يمكث في السجون منذ عام 1986، بتهمة قتل جندي إسرائيلي وعميل للاحتلال

 

التعليقات