26/05/2024 - 16:25

"حين تدوّي الحرب تصمت ربّات الفنون": مقولة إغريقيّة، أداة استعمارية، تحويرات إنسانيّة 

يسعى هذا المقال إلى عرض فكرة المقولة، ينقدها ويقدّم تحويرات إنسانيّة وأصلانيّة، ويقترح مقاربتها في السياق الإسرائيليّ كأداة استعماريّة...

طفل فلسطيني تحت القصف في غزّة (Getty)

المقولة الإغريقيّة

"حين تدوّي الحرب، تصمت ربّات الفنّ"، وفي صيغ ممكنة أخرى يمكن استبدال "تدوّي الحرب" بـ"تقعقع الأسلحة" واستبدال "ربّات الفنّ" بـ"الملهمات". إنّها مقولة إغريقيّة يونانيّة شهيرة أقدّم ترجمتي لها بالعربيّة بتصرّف عن اللّغتين الإنجليزيّة والعبريّة. استدعاها ضمن متون جمّة، ومن ثقافات متنوّعة، سياقُ الحرب الشرسة على غزّة وسياسة الإخراس الّتي انتهجتها وتنتهجها إسرائيل خلالها عامّة وتجاه مواطنيها ومواطناتها الفلسطينيّين/ات تحديدًا، منذ حوالي نصف سنة. توجّه سياسة الإخراس إلى أيّ احتجاج أو نقد أو معارضة أو تعبير عن رأي يخرج على الرأي المهيمن حول الحرب على غزّة، بما في ذلك بواسطة المقولة أعلاه.

يسعى هذا المقال إلى عرض فكرة المقولة، ينقدها ويقدّم تحويرات إنسانيّة وأصلانيّة، ويقترح مقاربتها في السياق الإسرائيليّ كأداة استعماريّة، ويتناول عدم شيوعها بصيغة عربيّة معتمدة، على الرغم من راهنيّتها للثّقافة والتاريخ العربيّين، في الماضي والحاضر.

المعتقد الإغريقيّ

المقولة الإغريقيّة اليونانيّة "حين تدوّي الحرب، تصمت ربّات الفنّ" مبنيّة على إحدى المعتقدات الثقافيّة في الأساطير الإغريقيّة اليونانيّة، ومفادها أنّ ثمّة إلهات أو ربّات للفنّ، يُعْرَفْنَ باليونانيّة بالموزات – Muses. الإلهام منوط بهنّ، يلهمن البشر كامني وكامنات القدرات فيبدعون ويبدعن، وينتجون وينتجن صنوفًا من الإنتاج الإبداعيّ. وكما أنّ هذه القوى الغيبيّة الفوق-طبيعيّة تأتي بصيغة الجمع – ربّات، إلهات، مُلْهِمات، عددهنّ تسع يُعْرَفْنَ بأسمائهنّ كما تروي الأساطير اليونانيّة، فإنّ مجالات إلهامهنّ للبشر ذوي وذوات الملكات الكامنة تأتي هي الأخرى بصيغة الجمع في بعض المصادر: فنون وليس فنًّا واحدًا، فهنّ "ربّات الفنون". وتتّسع مجالات الإبداع في الحياة لتشمل الفنون والآداب والفكر والعلوم وغيرها.

الحرب وتعطيل الإبداع في الإدراك الإغريقيّ

إلى جانب المعتقد الّذي تكشفه مقولة "حين تدوّي الحرب تصمت ربّات الفنون"، فهي تعبّر عن إدراك محدّد للعلاقة بين الحرب والإبداع، وتحدّد علاقة واضحة بين الحرب والإبداع في إدراك الثقافة اليونانيّة، وتضع تصوّرًا للعلاقة بينهما؛ لطبيعة العلاقة واتّجاهها. بين الحرب والإنتاج الإبداعيّ علاقة سلبيّة عكسيّة ضدّيّة. تصمت ربّات الفنون، يتوقّف الإلهام، فيتعطّل الإبداع، وعنه ينعدم الإنتاج الإبداعيّ. وإذا لم نكن نمتلك معتقد الإغريقيّين/ات، فإنّ الانهماك بالأمنيْن الجسديّ والمادّيّ (الفيزيائيّ)، والأصحّ الانهماك بانعدامهما، وانعدام توفّر ظروف للإنتاج الفنّيّ والأدبيّ والفكريّ والعلميّ في سياقات وهوامش الحروب، هو التفسير الواقعيّ العقلانيّ الأبسط لتوقّف الإنتاج الإبداعيّ أو تقليصه في الحرب. إذن، هي حالة تنافر بين الحرب والإنتاج الإبداعيّ. بمثابة: لا إبداع في الحرب!

بيد أنّ الواقع يبيّن أوّلًا علاقة مجاورة نقيضة هذه، ويبيّن ثانيًا تطويع المقولة واستخدامها في سياقات راهنة محدّدة، وغيابها من سياقات أخرى، سنتوقّف عندها في الأجزاء التالية من المقال.

علاقات متغايرة: "حين تدوّي الحرب يتفجّر الإبداع"!

ثمّة أعمال إبداعيّة خالدة في الشعر والنثر والرسم والفنون المختلفة أنتجها أصحابها وصاحباتها في الحروب، أو بعد الحروب عن الحروب وتبعاتها على الإنسانيّة. تناولت هذه الأعمال الحروب بتوثيق توصيفيّ لوقائعها، وخلّدتها عبر التاريخ، كما في الملحمة الشعريّة - الإلياذة لهوميروس، وفي لوحات رسم فنّيّة شهيرة وروايات وأعمال نحت وغيرها.

ببلوغ الحداثة والعصر الحديث، تحرّر الإنتاج الإبداعيّ من السلطتين الدينيّة والعسكريّة اللّتين حكمتاه في عصور تاريخيّة سابقة، ومُنح الرسّامون والرسّامات، والشعراء والشاعرات، والموسيقيّون والموسيقيّات، والأدباء والأديبات، والنحاتون والنحاتات، والمفكّرون والمفكّرات، وغيرهم/نّ من المبدعين والمبدعات، مساحات أوسع للتعبير عن وجهات نظرهم/نّ بالحرب خلال الحرب وبعدها، وعمّا يذكيها وما يدور فيها وما يتمخّض عنها على الصعد المادّيّة والأخلاقيّة والقيميّة والإنسانيّة، وعلى صعيد التّصوّرات والرؤيا المستقبليّة للمجتمعات. جاءت تعبيراتهم/ن عن ذلك إمّا مباشرة صريحة، أو غير مباشرة ملمّحًا لها، وفق مدارس فنّيّة مختلفة تطوّرت عبر التاريخ. بهذا المعنى، ونتيجة للسّيرورات التاريخيّة الّتي رافقت العصر الحديث والحداثة، فقد تحوّل الإنتاج الفنّيّ عن الحرب من الصّبغة التوثيقيّة إلى السّمة النقديّة، ولعلّ الأعمال الروائيّة الّتي أعقبت الحرب العالميّة الثانية، وصوّرت رؤى دستوبيّة خياليّة، تجد لها في الوقت الراهن تجسيدًا على أرض الواقع، مثال حيّ على ذلك.

أمام هذا، ومن أجل تخليص المقولة الأصل وتخليصنا من أحاديّة اتّجاهها، أقترح إجراء تحوير عليها، وقد يكون أكثر من واحد، لتصبح: "حين تدوّي الحرب يتفجّر الإبداع". رغم موقفي الرافض للغة العنف عامّة واللّغة المعسكرة، أقترح هذا التحوير لاحتوائه على عناصر نقيضة متزامنة ومتكاملة. العنصر الأوّل هو استخدام الفعل "يتفجّر" بكلا المعنيّين الحرفيّ والاستعاريّ. بالمعنى الحرفيّ، تفجّر الحربُ الحجرَ والبشرَ. الحجر بما يرمز إليه من بيوت ومبان ومنشآت وبنية تحتيّة، والبشر بمن فيهم/ن المدنيّون/اتّ ومن بينهم من مبدعين ومبدعات في مجالاتهم. بالمعنى الاستعاريّ، الاستخدام اللغويّ للجذر ف.ج.ر ومشتقّاته شائع ومتين لتوصيف انطلاق ودفق المواهب والملكات والإبداع، فنقول فجر ذلك شاعريّة/موهبة المبدع/ة، سواء كان ذلك حدثًا خاصًّا أم عامًا، تفجّرت موهبته/ا، تفجُّر المواهب، وهكذا. المعنيّان الحرفيّ والاستعاريّ قائمان متزامنان على أرض الواقع، وفي التحوير المقترح. فضلًا عن تفجير الإنسانيّة، بالمعنيّين أيضًا، بحيث يضرب بها عرض الحائط، يخرج الإنسان عن إنسانيّته، وينزع عن الطرف الآخر إنسانيّته، ويحلّ محلّها الشيطنة. في الوقت ذاته تأخذ الإنسانيّة خلال الحرب بعض التجلّيات السامية.

وللإبقاء على مصدر المعتقد الإغريقيّ، وعلى انمياز صيغة جمع المؤنّث، يمكن الاكتفاء بالتحوير: "حين تدوّي الحرب تنطق ربّات الفنون"، كصيغة مكمّلة لصيغة المصدر. وأضيف من الأفعال إلى جانب تنطق، تنطلق وتفصح للتعبير عن دفق الإلهام وحصيلته من الإنتاج الإبداعيّ.

تمثّل هذه التحويرات المقترحة، العلاقة المركبّة بين الحرب والإبداع. هي، والأوّل منها تحديدًا، تخلّصنا وتخلّص المقولة الأصل من أحاديّة اتّجاه العلاقة بين الحرب والإنتاج الإبداعيّ الفنّيّ والأدبيّ والفكريّ. الأمر الذي يضفي عليها، برأيي، بعدًا إنسانيًّا أشمل وأصدق. لهذه التحويرات ولأسباب حرجة ضرورة خاصّة في حالة الأقليّة الفلسطينيّة، كما سنرى لاحقًا في المقال. بيد أنّ هذه التحويرات المقترحة ليست الوحيدة الممكنة. ثمّة تحويرات تكرّس المعنى الأصليّ وتوسّع انطلاءه.

مقولة إغريقيّة في سياق إسرائيليّ:

للمقولة الإغريقيّة "حين تدوّي الحرب تصمت ربّات الفنون" ترجمة عبريّة رائجة، متينة، وذات حضور قويّ في الثقافة والخطاب الإسرائيليّين. الشقّ الأوّل منها وبترجمة حرفيّة إلى العربيّة هو "عندما تدوّي المدافع"، كناية عن الحرب. حضور المقولة بارز في الثقافة والخطاب الإسرائيليّين النخبويّين والشعبويّين والشعبيّين. هذا الحضور قائم في سياقات حروب إسرائيل وعسكرتها على مدار أكثر من سبعة عقود ونصف العقد، منذ قيامها وحتّى اليوم. في مقام آخر يمكن لبحث منهجيّ أن يتقصّى تاريخ وسياقات دخولها إلى هذين الخطاب والثقافة من خلال تقصّي خطابات وتصريحات شخصيّات مختلفة وتقصّي الصحافة وبروتوكولات المؤسّسات ذات الصلة، بما فيها أكاديميّة اللغة العبريّة، وهي المجمع اللّغويّ بالصيغة العربيّة الصّرفة.

فضلًا عن الصيغة والمفهوم الأصليّين للمقولة في الثقافة الإغريقيّة، يعتمد الخطاب المسيطر في إسرائيل تحويرًا مغايرًا. يشيع استخدام التحوير العبريّ الّذي يستبدل ربّات الفنّ أو الملهمات بمفردة "الكلمات": "حين تدوّي المدافع، تصمت الكلمات". تسمع هذه الصيغة أكثر في نقاشات شفهيّة مختلفة. تؤدّي مفردة "الكلمات" هنا وظيفة الشمول لا الحصر. إذ هي لا تنحصر في الإبداع، وإنّما تطال كلّ نوع من الكلام، منطوق أو مكتوب، وأشكال تعبير أخرى تخالف الموقف المهيمن، تنقده، تعارضه، أو تحتجّ عليه. وفق هذا التحوير، الصمت لا يصيب "ربّات الفنون" وبالتالي المبدعين والمبدعات فحسب، بل هو إخراس يفرض على سائر البشر، وعلى جماعات منهم تحديدًا. أشدّه يفرض على المواطنين/اتّ الفلسطينيّات. وهو لا ينحصر في الإبداع، بل ينطلي على أشكال التعبير الأخرى، ومنها تلك اليوميّة الّتي تستدعيها الحرب، كالاحتجاج وإبداء الرأي الناقد والمعارض والمغاير. من أهداف التحوير الإسرائيليّ إعلاء الصوت المهين، وصناعة الوحدة المتخيّلة، وتكريس حدود "القبيلة"، وتشييد التضامن المجتمعيّ، وتصدير إجماع مزعوم.

إذن، التحوير الإسرائيليّ المعتمد للمقولة الإغريقيّة أعلاه، وإن كان يُجري تغييرًا طفيفًا في ظاهره، بوضع مفردة "الكلمات" بدلًا من الملهمات أو ربّات الفنون، إلّا أنّ سريانه وانعكاساته أشمل وأوسع وأبعد وأخطر بما لا يقارن مع صيغة الأصل. يسعى التحوير هذا إلى تكريس فكرة مصدرها إغريقيّ، وعصورها تعود إلى ما قبل التاريخ، وموضوعها ربّات الفنون والإبداع، ليسقطها (يطبقها) على حالة إسرائيل، في العصر الراهن، في مجتمع ما بعد حداثيّ، على مناحي حياة ومستويات وفئات أكبر أعمّ وأشمل.

من هنا، أقترح مقاربة المقولة الإغريقيّة في السياق الإسرائيليّ بوصفها أداة استعماريّة، واحدة ضمن ترسانة. تفعّل بغية الإخراس، وتأمين إسماع صوت واحد لا يسمع غيره، وتهدف إلى الرقابة والإخضاع والسيطرة لكلّ من وما لا يتّفق مع المشروع الاستعماريّ التوسّعيّ العسكريّ، القطريّ الإقليميّ والمعولم، بثمن حياة الناس وأهل البلاد منهم تحديدًا.

راهنيّة وغياب المقولة عن الموروث العربيّ والفلسطينيّ

لم تكن مقولة الأصل قيد النظر بصيغتها الأصل جزءًا من الموروث الثقافيّ الفلسطينيّ داخل "الخطّ الأخضر" يومًا ما. ليس بصيغة عربيّة، بل ولم أقرأها أو أسمعها باللغة العربيّة من أيّ من منابعها المتعدّدة. إنّ عدم توفّر صيغة عربيّة معتمدة للمقولة يعدّ مفارقة، لأوّل وهلة، إذ فكرة المقولة أصيلة في الثقافة والتاريخ العربيّين.

الرديف العربيّ للمعتقد

للمعتقد الإغريقيّ قيد الاهتمام رديف في الثقافة العربيّة. يعبّر عنه بـ"شياطين الشعراء" أو "جنيّ الشاعر"، حيث بحسب المعتقد العربيّ لكلّ شاعر/ة شيطانه/ا أو جنّيّ يلهمه/ا فيبدع/تبدع. تاريخيًّا يعود المعتقد العربيّ إلى ما قبل الإسلام، وحوله تطوّرت ثقافة كاملة متكاملة عن الشعر والشعراء وصلاتهم بشياطينهم وعوالمهم الغيبيّة، وعن تمييز أحيزة جغرافيّة بعينها مَواطن لشياطينهم، "وادي عبقر" مثلًا. تشير المقابلة هذه إلى تأكيد أصالة وتأصيل فكرة معتقد الإلهام في الثقافة والتاريخ العربيّين. يمكن التوسّع في ذلك والوقوف على الفوارق في حالة الاهتمام بالحالة العربيّة أو بالمقارنة منهجيًّا، لكنّ ما يعنينا هنا هو المفارقة بين أصالة الفكرة في الثقافة والتاريخ العربيّين وعدم شيوع المقولة الإغريقيّة في الخطاب العربيّ.

العرب وتمرير الثقافة الإغريقيّة إلى الغرب

غياب صيغة الأصل للمقولة بالعربيّة أمر مستهجن سيّما وأنّ العرب قد اهتمّوا بالثقافة الإغريقيّة اليونانيّة أيّما اهتمام، وقد ترجموها إلى العربيّة، وتفاعلوا معها فكريًّا، وراكموا عليها وابتكروا علومًا وفنونًا جديدة، وقد استورد الغرب الثقافة الإغريقيّة اليونانيّة من العرب وعن العرب، وبالتّالي بنى الغرب "النهضة الغربيّة" في العصر الحديث على كلتا الثقافتين اليونانيّة والعربيّة الإسلاميّة.

الإبداع والحرب في الثقافة والتاريخ العربييْن

عدم توفّر صيغة معتمدة للمقولة في العربيّة مستهجن أيضًا سيّما وأنّ المركّبين الرئيسيّين فيها – الحرب والإبداع - حاضران في الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة وتاريخ العرب. للثقافة العربيّة الكلاسيكيّة نظريّة في الإبداع، أقلّه في الشعر، عبّرت عنها بـ"شياطين الشعر" وبوصف ملهم الإبداع الشعريّ بـ"الجنّيّ"، كما ذكرنا أعلاه. أمّا تاريخ العرب فحافل بالحروب. قبل مجيء الإسلام دارت بين القبائل العربيّة المختلفة حروب عرفت بـ"أيّام العرب"، وبعد مجيء الإسلام، خاضت الأمّة العربيّة الإسلاميّة حروبًا في الجزيرة العربيّة عرفت بالغزوات، وثمّ خارجها ضدّ أعظم الإمبراطوريّات آنذاك، الفرس والرومان، عرفت ب"الفتوحات".

بالإضافة إلى عدم سماعي وعدم قراءتي لصيغة عربيّة للمقولة من المصادر الورقيّة، أيضًا لم أعثر عليها في محرّك جوجل ومحرّكات البحث المتاحة إلكترونيًّا. غياب المقولة أعلاه عن العربيّة أمر مستهجن لسبب وجيه إضافيّ، هو الصراع الدّامي والحروب الّتي اجتاحت وتجتاح بلادنا والمنطقة منذ ما يربو على مئة عام.

أنظمة سياسيّة قامعة لشعوبها

يمكن القول بحذر إنّ المقولة "حين تدوّي الحرب تصمت الملهمات" لم تجد طريقها إلى الخطاب العربيّ بالمجمل. ليس بصيغة الأصل هذه. في اعتقادي أنّ مردّ ذلك يعود إلى أنظمة سياسيّة قاهرة لشعوبها، قامعة للنقد وحرّيّة الكلمة والإبداع في الفنون والعلوم وحقول المعرفة ومجالات الحياة عامّة، وكم بالأحرى حين تربط الكلمة بين السياسة والعسكر والمعتقدات والإلهام والإبداع، بما تشتمل عليه من تابوات (محرّمات) اجتماعيّة كما في المقولة قيد اهتمامنا هنا، ولا تتحقّق في هذه الحالة الحكمة "إذا عرف السبب بطل العجب"، ولا يغادر الاستهجان.

في البحث عن صيغ عربيّة "أصيلة"

أعتقد في الوقت نفسه، أنّه للأسباب آنفة الذكر ذاتها ولأخرى ذات صلة، لا بدّ أنّ لهذه المقولة تحويرات وتعابير أصيلة بالفصحى وبعاميّات الشعوب العربيّة المختلفة. وإذ أعتذر عن قصوري ومحدوديّة اطّلاعي عليها، فإنّني أتوخّى من القرّاء المتصفّحين والمتصفّحات كرم تسجيلها في التعقيبات لتعميم الفائدة.

أُخضع ويخضع الفلسطينيّون/ات الباقون في ديارهم بعد النكبة وإقامة إسرائيل، وفي سياق الحروب والصراع الدمويّ، من قبل وإبّان ومن بعد، للقهر والرقابة والسيطرة المباشرة والغير مباشرة. بداية فرضت عليهم إسرائيل حكمًا عسكريًّا مباشرًا استمرّ قرابة العقدين (1948- 1966). ورغم أنّه ألغي بموجب قانون رسميّ، إلّا أنّ الرقابة والهندسة الاجتماعيّة والإخضاع والقهر استمرّت وبطرق شتّى. اضطرّ الفلسطينيّون داخل "الخطّ الأخضر" للتعاطي معها، من خلال وسائل ثقافيّة، سواء "ثقافيّة رسميّة" أودعوها في الفصحى ممثّلة ب"أدب المقاومة"، شعرًا ونثرًا، أم ثقافيّة شعبيّة استحضروها من مخزونهم الثقافيّ، أو شحنوها بمضامين جديدة أو استحدثوها، كالأمثال والمقولات والأغاني الشعبيّة. العبارتان "الحيطان بتسمع"، و"للحيطان ذنين (آذان)"، بصيغتيْ المفرد والجمع، وبلهجات فلسطينيّة مختلفة تبعًا للمناطق الجغرافيّة والقرية المحدّدة أو المدينة المحدّدة والمجموعة الدينيّة، وعبارات شبيهة أخرى هي عبارات وصياغات استخدمها هذا الجزء من الفلسطينيّين بتواتر في فترة الحكم العسكريّ تحديدًا. إنّها عبارات من كلمتين، موجزة مكثّفة، أحالت إلى بدء حكم استعماريّ جديد، ما لبثوا أن عرفوا نوعه كاستعمار جاء ليبقى، استعمار استيطانيّ، وأحالت إلى وضعهم المقلق فيه بوصفهم أهل البلاد الّذين تحوّلوا إلى أقلّيّة بشكل تراجيديّ ومباغت، وإلى الذعر الّذي أصابهم جرّاء ذلك وجرّاء الرقابة والسيطرة والإخضاع الّتي مارستها عليهم الدولة الجديدة الغريبة على نحو مباشر وغير مباشر آنذاك. أيضًا أحالت العبارات المذكورة، وتحيل إلى الشكّ الّذي ساورهم تجاه بعضهم البعض، حين تفشّى بينهم المتعاونون مع الدولة، وهي تعكس الحذر الشديد وضرورة أخذ الحيطة، إذ "للحيطان ذنين".

مساحات الإبداع والإنتاج الإبداعيّ مهمّة عامّة، لكنّها ضرورة قصوى بالنسبة للفلسطينيّين/ات مواطني إسرائيل، وفي الحرب على وجه التحديد. باستثناء الدروز منهم، هم يستبعدون من العسكريّة بموجب قانون إسرائيليّ؛ نظرًا لتعاملها معهم كـ"طابور خامس" ولتحسّسها من وضعيّتهم "الإشكاليّة" في الشرط الاستعماريّ، صنيعها وصنيع الدول العظمى. لتوخّي الدّقّة، لا قانون يلزم المواطنين/ات الفلسطينيين/ات بالخدمة العسكريّة. لكن أيضًا، ومن نافل القول، أن لا جيشًا نظاميًّا آخرًا أو غير نظاميّ لهم. بالإضافة إلى ذلك، فالحرب تعلنها دولة تحوّلوا تاريخيًّا وقسريًّا إلى مواطنين/ات فيها لتدوّي على رؤوس أبناء وبنات شعبهم المرّة تلو المرّة، وهذه المرّة على نحو هو الأقرب للنكبة كما خبروها في 48. إذن عمليًّا هم ليسوا جزءًا من أيّ عسكر وعسكريّة، في منطقة معسكرة من باطن الأرض إلى عنان السماء، ومن أخمص القدم إلى قمّة الرأس. من هنا، يبقى الكلِم والفنّ وسيلتهم الأهم في التعبير خلال الحرب تحديدًا. وهو الأمر الذي يفاقم ضرورة مساحات الإبداع والإبداء للرأي. علمًا أن المرحلة الحاليّة أثارت وتثير تساؤلات جادّة ليس فقط حول الإنتاج الإبداعيّ بتعريفه الضيّق، بل وحول جدوى الكتابة، والنظريّة، بما فيها النظريّة النقديّة، والبحث والمؤسّسات القائمة عليها.


د. تغريد يحيى - يونس

أكاديميّة وأستاذة جامعيّة فلسطينيّة. حازت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة تل أبيب، واستكملت دراستها لما بعد الدكتوراه في جامعة SOAS - لندن. اهتماماتها الأكاديميّة الرئيسيّة علم اجتماع الغربة، والإثنيّة والعلاقات الإثنيّة، والنظريّات النسويّة، والسياسة والجندر، ومناهج البحث النوعيّ، واللغة والهويّة.

التعليقات