"الاعتراف بالحاجة إلى تاريخين هو خضوع للتاريخ كرواية"..

-

كتب رئيس كلية التاريخ في الجامعة العبرية، غابي هرمون، في صحيفة "هآرتس":

[[ صادقت وزارة المعارف في الأسبوع الماضي على استخدام كتاب تعليمي جديد للوسط العربي، يختلف عن كتب التعليم السابقة، التي أظهرت صدق الإسرائيليين وذنب الفلسطينيين، وهذا الكتاب يروى تاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من وجهة نظر فلسطينية. وجرى التأكيد في الكتاب على أن ما يراه الإسرائيليون "حرب استقلال" يرتسم بنظر الفلسطينيين كـ"نكبة"، حيث لم يهرب الفلسطينيون عام 1948، وإنما جرى طردهم، وأنه حتى سنوات الستينيات من القرن الماضي عاش العرب في إسرائيل في ظل حكم عسكري.

وينطوي هذا الفهم على فرضية أن التاريخ هو "كتاب" أو "حوار" يترسخ طابعه في أحاسيس وأفكار الناس، الذين يعيشون اليوم، تجاه الماضي. فالطريقة التي يروون فيها ادعاءهم هي الحقيقة، ويجب احترام هذه الحقيقة، فليس بأيدينا، لأسباب فلسفية ذات وزن كبير، الحسم بينها وبين الادعاء المقابل. فكلاهما صحيح بنفس الدرجة، وهو ما أحسنت وصفه عضوة الكنيست رونيت تيروش "هناك تاريخان وحقيقتان"..

فهل هذا صحيح؟ موضوع التاريخ هو ما فعله وقاله وفكر به وأحس به الناس في الماضي، ولكن كيف يفهم كل ذلك؟ المؤرخ اليوناني هيرودوتوس عرف التاريخ كدراسة هدفها استيضاح أسئلة بشأن الماضي، والتي لا تعرف أجوبتها. والجواب الصحيح هو ما يتضح من خلال فحص منهجي ومعمق لكل الشهادات في الإطار المنطقي الذي أنشأه المؤرخ. والجواب الصحيح ليس بالضرورة الجواب الذي هو معني به. ويجب ألا تتغلغل رغباته وأحكامه القيمية أو مصالحه إلى داخل ادعائه. فقصة الماضي يجب أن تروى بمعزل عن أي انتماء، سوى للشهادات.

لا تنشروا تاريخين عن "أحداث 1948". والاعتراف بالحاجة إلى تاريخين هو خضوع للتاريخ كرواية، فالتاريخ كرواية ينطوي على مخاطر، خاصة إذا كان الموضوع ملتهباً مثل "حرب 1948". وإذا كانت قصة الماضي منفصلة عن واقع الماضي، ولا يتضمن شهادات، فكيف نميز على سبيل المثال بين إنكار المحرقة وتاريخ المحرقة؟ هل نقول هنا أيضاً يوجد تاريخان وحقيقتان؟

اعرضوا تاريخاً واحداً ووحيداً لـ "أحداث 1948"، كنتيجة لدراسة معمقة وشاملة، والتي توصلت إلى فهم هو الأفضل الممكن لأحداث الماضي، ولمحفزات النفوس الناشطة، وذلك بموجب الشهادات والوثائق على أنواعها. وثم الموافقة على النتائج التي يتم التوصل إليها.

لا يمكن الوصول إلى الموضوعية المطلقة في وصف الأحداث، ولكن ذلك لا يعني أن نستسلم والتنازل عن الطموح إلى ذلك. فالأمر ممكن، وفي الحالات التي يستحيل فيها ذلك، يكون بسبب مبتذل مثل نقص الشهادات أو غيابها، وليس لأسباب فلسفية ذات وزن.

لا يمكن تنقية الأوصاف التي تكتب اليوم عن الماضي من "القيمية" و"اتخاذ موقف"، ولكن هناك درجات متفاوتة من القيمية واتخاذ الموقف، والتي يمكن تقليصها إلى أصغر حد. وفي حال قام المؤرخ بالإشارة إلى الأحداث تلك بـ"حرب 1948"، ويقول إنه مع الزمن فإن أحد طرفي الحرب رأى فيها "حرب استقلال"، في حين رأى الطرف الثاني فيها "نكبة"، فهو يكون قد قدم وصفاً أقل ارتباطاً بالقيمية، ويحترم استقلالية الحدث بشكل أكبر مما يكون عليه عندما يشير إليه كـ"حرب استقلال" أو "نكبة".

كتابة التاريخ الروائي أسهل وأكثر قبولاً بما لا يقاس، ولكن الرواية من ناحية الدراسة التاريخية هي مثل النكبة]]...

التعليقات