حوارة في عيون المتمعن

-

حوارة في عيون المتمعن

في يوم جمعة قبل بضعة أسابيع، وقفت على حاجز حوارة، على بعد بصقة من مستوطنة يتسهار وتمعنت في هدوء بالجنود المسربلين بالبزات الواقية والخوذات البلاستيكية، وبالفلسطينيين الذين وقفوا في طابور. إنها الصيغة الثالثة لهذا الحاجز الذي أذكر أنه تكوّن ذات مرة من صخور وحبل على الشارع. ما زال حتى الراهن بشعا ومنفرا مثلما يتقن ذلك الجيش الإسرائيلي دون غيره. لكنه يذكّر الآن بمعبر دولي بالشريط الشوكي وحيطان الباطون والطاولات الصغيرة. وهو لا يفصل بين الضفة الغربية وإسرائيل، فهو موجود عميقا في قلب الأراضي الفلسطينية ويفصل ما بين سكان نابلس وبقية الدنيا.

كان الجو حارا وحركة السير قليلة نوعا ما، فالفلسطينيون لا يعبرون من هنا إلا إذا اضطرّوا إلى ذلك. وهكذا يذوي مجتمع واقتصاد. داخل زنزانة اعتقال صغيرة إلى جانب الحاجز وقف فتى يبصبص إلى الخارج. "لماذا اعتقلوك" سألته. ضحك الفتى وهز بكتفيه كأنه لا يعرف. بعد بضع دقائق وصل جندي فلاحظ التجمهر حول الزنزانة فأطلق سراحه.

إلى جانبي وقف طفل عمره ثماني سنوات ربما، سمين مبتسم، يبيع الماء. تحدثنا بالعربية.

"إسمع" قلت له، إذا لم تعمل لنفسك قليلا من الدعاية فإن أحدا لن يشتري منك.

"أعرف هذا" أجاب، "فأنا أخجل أن أقف هكذا وأصرخ. كان لأبي هنا كشك يبيع فيه الخضار، لكن الجنود طردوه فبعثني لأبيع الماء بدله". "حسن، دعني أساعدك" قلت.. "ماء بشاقلين، ماء بشاقلين" ناديت بصوت عال. ارتبك وتبسّم. نجحنا في بيع بعض الماء لإسرائيليين خيّرين وفلسطينيين أنهكهم الطابور.

"من أين أنت" سألته. "من هنا، من عصيرة القبلية" أجاب. "عائلتنا كلها هنا". "وكيف ترتّبون أموركم مع المستوطنين فوق"؟ "لا تسأل"، قال، "إنهم يضربوننا ونضربهم. يحطمون سياراتنا ونحن لا نسكت ونرجمهم بالحجارة. في الآونة الأخيرة يعتمدون اختراعا جديدا.. فهم يقذفوننا بالصواريخ".

خياليّ هذا الصبي، قلت في نفسي، "أية صواريخ"؟

"يملكون نوعين، شارون 1 وشارون 2.. يطلقونها من تلّتهم إلى قلب قريتنا وتصيب شيئا ما في بعض الأحيان".

"هذا صحيح" سألت فيما بعد واحدا من سائقي سيارات الأجرة المنتظرين بجانب الحاجز..

"حقا توجد صواريخ كهذه، لكنها خالية من المتفجرات. أعتقد أنهم فتيان زعران من يتسهار. هؤلاء هم الأسوأ".. أجاب.

"سمعت أن كيلو البندورة لديكم بخمسة شواقل" تساءل الطفل. "نعم" أجبته، "بل أكثر"، فقد اشتريت الكيلو هذا الأسبوع بتسعة شواقل وحتى أنها لم تكن جيدة".

إنقلب على ظهره ضحكا، هذا الختيار الخيالي، فقد قال في قرارة نفسه، "سعر البندورة عندنا شاقل واحد للكيلو. وضعنا أحسن كثيرا".

صمتنا قليلا ونظرنا إلى الجنود، وعندها سأل، "أليس صحيحا أنك أنت أيضا تكره هؤلاء الجنود الكلاب"؟

نظرت إلى الصغير، وتساءلت كيف عساه سيرى إلى هذا الواقع بعد عشر سنين. هل سيبقى هذا الحاجز الغبي إلى ذاك الوقت يفرّق ما بين عائلته ووطته؟ هل سيبقى جنود شباب قساة قلوب في هذا الموقع إلى حينها، وهل سيبقى هذا الصغير بالنسبة لهم مخربا واردا يمرّر حزام تفجير؟ هل سيبقى المستوطنون إلى ذلك الحين على التلة ليحموا أيديولوجية تحتضر؟ هل سيظلّون يشنّون عليه حربا عالمية غبيّة بصواريخ بدائية، وبحجارة وزجاج محطّم؟.. أي أمل بقي لهذا الصبي ما عدا اعتزازه وافتخاره المتواضع بسعر البندورة الرخيص في قريته، وربما الإنتماء إلى صقور فتح أو إلى شهداء الأقصى؟

عندما سافرت ضممته إلى صدري بمحبة، وهو أعطاني هدية.. قنينة ماء.

عن "واينت"

التعليقات