14/08/2017 - 04:23

القيصر ينحني منتصرًا!

القيصر ينحني منتصرًا!

كاظم الساهر

من دون أيّ تخطيط مسبق، أهدتني صديقة تذكرة لحفل كاظم الساهر في البحر الميّت. ذهبنا، وفي الطريق وقعنا في حيرة: هل نسمع كاظم في السيّارة أيضًا؟ أم نسمع موسيقى هابطة لكي نستمتع أكثر بإطلالة موسيقاه على المسرح؟ انتهى الأمر بألبوم موسيقيّ قد يساعد أرواحنا على بلوغ التذوّق النظيف.

الوقوع الأوّل، واللقاء الأوّل

إنّها المرّة الأولى التي أحضر فيها حفلًّا حيًّا للقيصر، لكنّ علاقتي به ليست أقلّ تعقيدًا من علاقتي بالأشياء الأساسيّة في حياتي. لقد تعرّفت سنة 1989، ولم يكن عمري يزيد كثيرًا عن السنتين، إلى ألفاظ مثل 'ماما' و'بابا'، و'عبرت الشطّ' (1989)، أغنية كاظم التي سادت تلك المرحلة، ثمّ بعد سنوات قليلة، صرت أصحو باكرًا لأسمع نشرة أخبار الصباح عبر مذياع أبي، منتظرًا الأغنيتين اللتين كانت تبثّهما الإذاعة الأردنيّة دائمًا، ولولا أنّهما 'لوه ولوّاه' لسعدون جابر، و'إنّي خيّرتك فاختاري' (1994) لكاظم، لكان الأمر مملًّا. هذه التفاصيل الواسعة على جسد طفل، جعلتني سنة 98، أخبّئ مصروفي اليوميّ المتواضع مدّة أسبوعين، لأنّني لم أكن أتقاضى مصروفًا يومي الخميس والجمعة، لأشتري ألبوم 'أنا وليلى' (1998). ذهبت إلى محلّ الأشرطة وقلت له: 'أريد شريط أشهد أن لا امرأة'!

جمهور حفل كاظم الساهر في 'مهرجان صوت البحر الميّت'

كان هذا وقوعي الحقيقيّ الأوّل في شبّاك القيصر، وكان طريقي السهلة إلى نزار قبّاني، حالي حال كلّ المراهقين الذين يحبّون الشعر. ذهبت إلى مكتبة المدرسة طبعًا، مدرسة وكالة الغوث، إلّا أنّني لم أجد كتبًا للشاعر، كونه 'شاعرًا لا يصحّ أن يقرأه الأطفال'! هكذا قال لي الأستاذ المسؤول عن المكتبة، مبرّرًا غياب الكتب. أعطاني كتابًا لأحمد مطر، ثمّ أعارني في اليوم التالي كتابًا من مكتبته الخاصّة لنزار قبّاني، قبل أن أخبّئ مصروفي مرّة أخرى لثلاثة أسابيع وأشتري كتاب 'أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء' (1992)، بنسخة مزوّرة، وأسجّل الدخول إلى عالم نزار الفاتن!

عندما درج القيصر إلى المسرح لم أستطع مواصلة الجلوس، على الرغم ممّا بدأت أصطنعه من وقار بعد أن بدأ البياض الخفيف يخالط شعري مبكرًا بعض الشيء. وقفت، ليس لأنّ كاظم نجم كبير فحسب، بل لأنّ معرفتي به كبيرة، مثل كلّ مواليد الثمانينات. إنّه أخونا الكبير، وصاحبنا الذي كان يحمينا من رفاق السوء في الموسيقى. لقد هذّب عواطفنا وأدّب قلوبنا، ودرّبنا على الحبّ الحقيقيّ، وعلى الحبّ الذي كنّا نظنّه حقيقيًّا عندما كانت وجوهنا ناعمة. وقفت وصفقت طويلًا للقائنا الفعليّ الأوّل، كان ثمّة صوت صغير جوّاي يقول له: 'كيف حالك يا رجل؟' ويدان صغيرتان تشدّان على أصابعه الطويلة، أو التي كانت طويلة في ذاكرتي، قبل أن تصبح أصابعي أطول منها!

آشور وآرام

بدا أثر السنين واضحًا على صوت كاظم في ألبومه الأخير، وكذلك الحكمة بدت واضحة في كلّ ما يفعل. كانت لديّ احتجاجات كثيرة على الألبوم بداية، مثل غياب الكمنجات أو ضعف صوتها، لكنّ الحقّ أنّ ميشيل فاضل أحسن في هذه الخطوة، كي لا تتطاول الكمنجات على صوته الكبير.

وكان لديّ احتجاج آخر على بعض قصائد الألبوم، وعلى غياب نصوص لشعراء آخرين، قبل أن أتمهّل وأعيد قراءة علاقة الشام ببغداد التي بنت مدرسة فنّيّة لا تضام، وقبل أن أتفهّم ضرورة انحناء كاظم لشعر نزار بعد تغريبة طويلة عنه في الألبومات السابقة.

هذه الانحناءة والتوليفة السوريّة العراقيّة تحيلني إلى الحرب الكبيرة التي دارت بين مملكة آشور (في الموصل)، مدينة كاظم، ومملكة آرام (في دمشق)، مدينة نزار، إذ يروي المؤرّخ أرنولد تونيبي أنّ آرام استعانت بممالك غرب الفرات لصدّ الهجوم الآشوريّ، فانتصرت على الممالك تلك أيّما انتصار، وغزت آرام، إلّا أنّ الأخيرة انتصرت ثقافيًّا، حتّى صار الآشوريّون يتحدّثون الآراميّة وينقلونها إلى بلادهم، حتّى وصلت اللغة حدود الهند، وهذا ما يسميّه المؤرّخون بـ 'العالَم السوريّ'. نعم، إنّها انحناءة المنتصر لا المهزوم!

'بغداد!'

كان كاظم أثناء الحفلة يترك الغناء للجمهور، كما كان يترك لهم اختيار الأغنيات التي سيغنّيها، وكان المسرح يضجّ بالأصوات. مع ذلك، كان باستطاعة أيّ كان أن يميّز اللهجة العراقيّة الفخمة التي تنادي الموسيقى من المدرّجات، وكان يمكن بسهولة، أيضًا، تبيّن الحنين في الأصوات، وتبيّن المنافي من خلال أنواع الأحذية والعطور، وتسريحات الشعر.

عندما غنّى أغنية الجماهير وسيّدة مشواره الفنّيّ، 'أنا وليلى'، والتي بدأها من مقطع 'أضعت في عرض الصحراء قافيتي'، بعد تقاسيم الصبا التي لعبها على القانون قائد الفرقة حسن حامد، صرخت امرأة في الأربعين من عمق أناقتها في أذني: 'بغداد!' ولم تعرف أنّني خزّان دموع كبير أجلس إلى جانبها، أضحك من حزن رابٍ على رفّ القلب، وأحزن من وحدة العراق، أخينا الكبير، وضياعه في الصحاري بعد أن فقد الذاكرة. أعني ذاكرة التلفزيون العراقيّ الذي دمّر الاحتلال أرشيفه ودمّرت داعش آثار أهله.

هذه موسيقى الساهر

في سلوك كاظم مع جمهوره وفرقته، التي تألّفت من كهول عراقيّين فهموا الموسيقى فهمًا، بقلوب يقظة وخاشعة، ثمّة احترام كبير، ساعده على صناعة مملكة قويّة وراسية، جعلت جمهوره يعفيه من بعث 'الجوابات' العالية، ويحترم 'قراراته' المكينة، ويغنّي عنه.

قصيّ عبد الجبّار في صولو 'هذا اللون'

ثمّة عامل مهمّ آخر يجعلك تحترم ما يفعله القيصر، حتّى عندما يترك المسرح للموسيقى، كما فعل في حفلات عدّة، وفي الحفلة هذه، إذ ترك صولو طويلًا في أغنية 'هذا اللون' (1992) للعازف المتميّز قصيّ عبد الجبّار، ووقف في الخلف تمامًا، ليبدأ عبد الجبّار بفرش ورده من محلّه على المسرح، فيزهر في شوارع المدينة كلّها، ويصعد التلال، ويقول للدنيا: هذه الموسيقى التي صنعها كاظم الساهر على طول سنين عمره، هذه الموسيقى التي لا تفنى، ولا تضعف، ولا يهزّها العمر، ولا تعرقلها السنين، ولا يحدّها الاحتلال، ولا الاقتتال، هذه الموسيقى التي تحمل الناس إلى أرواحهم الطاهرة الجديدة، البيضاء كستائر يكويها النسيم، ويطيّرها لتنشر السلام والعدل!

معادلة صعبة

اختتم الحفل بأغنية 'كتاب الحبّ' (2016)، التي أظنّه أطلقها ليبدأ مرحلة جديدة، وانعطافة تشبه انعطافات كثيرة يمكن تلخيصها على النحو التالي: 'إنّي خيّرتك فاختاري'؛ 'زيديني عشقًا'؛ 'أنا وليلى'؛ 'قولي أحبّك'، 'الحبّ المستحيل'، 'قصّة حبيبين'، 'هل عندك شكّ'، 'ألبوم صور'، وأخيرًا 'كتاب الحبّ'.

إنّه يساور الجيل الموسيقيّ الجديد من دون أن يبرح عرشه، فعلى الرغم من تخفّف الأغنية من الموسيقى، وعلى الرغم من الفراغ الذي يؤدّي دورًا محوريًّا في أغنيات 2017، إلّا أّن الأغنية لم تتخفّف من الفخامة والخفّة المحمودة. هذه المعادلة الصعبة التي أعاد القيصر من خلالها مواصلة سير موكبه نحو الجدّة والحبّ!

افتقدت يد حبيبتي التي سرقتها الحدود والمسافة كثيرًا، حبيبتي التي شربت طويلًا من أوردة العراق. على أيّ حال، لم يغنّ القيصر في هذه الليلة للعراق، إلّا أنّ العراق كان يخرج من كلّ نتفة فيه، وكان هذا الصواب عينه، فعندما يقف أمامك عراق كامل، لا تكون حاجة لأن يعرّف بنفسه، حينها يهتف كلّ شيء فينا: 'أهلًا يا أبا الدنيا'!

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، من مواليد الثمانينات، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'بائع النبيّ' عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.

التعليقات