"الصندوق الأسود"... ما هو وكيف يعمل؟

منذ الستينيات، بدأ الإنسان يفكر في جهاز يستطيع تحمُّل الانفجارات، وتحطُّم الطائرات والنيران، وتحمُّل المكوث في المحيطات، وتحمُّل السقوط من عشرات الكيلومترات بل الآلاف، ففي عام 1953 كان خبراء الطيران يجاهدون في سبيل معرفة أسباب حوادث سقوط

صندوق إحدى الطائرات الأسود (أ.ف.ب)

منذ الستينيات، بدأ الإنسان يفكر في جهاز يستطيع تحمُّل الانفجارات، وتحطُّم الطائرات والنيران، وتحمُّل المكوث في المحيطات، وتحمُّل السقوط من عشرات الكيلومترات بل الآلاف، ففي عام 1953 كان خبراء الطيران يجاهدون في سبيل معرفة أسباب حوادث سقوط عدد من طائرات شركة “كوميت”، التي بدأت تلقي ظلال الشكِّ على مستقبل الطيران المدني برمته.

واقترح عالم طيران أسترالي، يُدعى د. ديفيد وارن، صنع جهاز لتسجيل تفاصيل رحلات الطيران. وكان الجهاز الأول أكبر من حجم اليد، ولكنه يستطيع تسجيل نحو أربع ساعات من الأحاديث التي تُجرى داخل مقصورة القيادة وتفاصيل أداء أجهزة الطائرة.

أسباب التسمية

والمدهش أن سلطات الطيران الأسترالية رفضت جهاز وارن“، وقالت: إنه “عديم الفائدة في مجال الطيران المدني”، وأطلق عليه الطيارون اسم “الأخ الكبير”، الذي يتجسس على أحاديثهم، وسُمي بعدها بالصندوق الأسود، يعتقد الكثير من الناس أن لون الصندوق هو “اللون الأسود” وهذا خطأ، فلونه برتقالي أو أصفر، وذلك لتمييزه بسهولة بين حطام الطائرة، ما يزال سبب التسمية غامضًا تاريخيًا، فقد ذهب البعض أنه سُمي باللون الأسود بسبب الكوارث الجوية وحوادث تحطم الطائرات، ويُسمى أيضًا “بمسجل معلومات الطائرة”، هناك رأي آخر يعود بالتسمية إلى أن مسجلات المعلومات الأولى نفسها كانت عاتمة اللون وسوداء من الداخل، لمنع التسربات الضوئية من تدمير شريط التسجيل، كما في غرف التصوير الفوتوغرافية.

الأهميّة والأنواع

ويمثل الصندوق الأسود أهميةً كبرى للمحققين في حوادث الطيران، باعتباره الشاهد الوحيد على تفاصيل النصف ساعة الأخيرة من عمر الطائرة، والحقيقة أن هذا الصندوق، رغم صلابته، إلا أنه ليس بالفولاذية الممتنعة، حيث قد يتعرض في الحوادث المروعة، التي يصاحبها نشوب حرائق وانفجارات وتصادمات عنيفة إلى أخطار تتسبب في تهشمه، ومن ثم تلف الأجزاء الداخلية، بما فيها الشريط المغناطيسي الحساس.

إن كل طائرة تحمل على متنها نوعين من الصناديق السوداء: الصندوق الخاص بتسجيل الأصوات والحوارات في قمرة القيادة “CVR” والصندوق الخاص بتسجيل معطيات الطيران ويعرف بـ “FDR”.

أما في ما يتعلق بالصندوق الأول، فيمكن تحليل مكوناته الأساسية، وأهميتها كالآتي: يحتوي هذا الصندوق على شريط مغناطيسي حساس، يعتمد على ثلاثة أشكال من التقنيات هي: لفه على بكرة واحدة، بحيث يكون في صورة الرقم 8، ويكون اتجاه حركة الشريط من المركز إلى المحيط، ويعيب هذه التقنية أنه يجب عدم إغفال وضع مسحة من الزيت الخفيف على طرف الشريط لتسهيل انزلاقه على البكرة، وعملية التزييت هذه يجب أن تتم بحرص شديد للحصول على التسجيلات المطلوبة بوضوح ونقاء صوت، ولفه على بكرتين، كما هو الحال في المسجلات العادية المتداولة بين عامة الناس، وتعتمد هذه التقنية على مبدأ الرجوع الذاتي، حيث ما إن يصل الشريط إلى نهايته، حتى يبدأ على الفور في تغيير اتجاه دورانه ليصل إلى نقطة بدايته من جديد.. وهكذا. ولفه داخل خرطوشة، حيث يدور فيها حول نفسه بسرعة ثابتة، وفي نفس الاتجاه ليتم التسجيل عند كل دورة، وهذا الشكل التقني هو الأكثر انتشارًا.

أما في ما يتعلق بالشريط المغناطيسي ذاته، فهو مقسم إلى أربع قنوات مسجلة رئيسة، لكل منها وظيفة محدّدة، فالقناة الأولى تسجل الحوارات التي يتبادلها قائد الطائرة مع أبراج التوجيه الأرضي، والقناة الثانية تسجل الحوارات المتبادلة بين قائد الطائرة ومساعديه، من خلال جهاز اتصال داخلي، والقناة الثالثة خاصة بالتقاط وتسجيل الأصوات المختلفة التي تبث عبر ميكروفون صغيرة في أعلى قمرة القيادة، من أحاديث عابرة بين أفراد الطاقم، وصوت ضجيج المحركات، وصوت أيِّ انفجار قد يقع، إلى غير ذلك من الأصوات.

والقناة الرابعة خاصة بتسجيل التوصيات والتعليمات الموجهة إلى الركاب، سواء تلك التي يقدمها قائد الطائرة ومساعدوه أو المضيفون والمضيفات، وتجدر بالإشارة إلى أنه في بعض المسجلات يزيد عدد القنوات عن أربع، إلا أن ذلك لا يغير شيئًا من مبدأ عملها، فقط تدقيق الوظائف وتوزيعها على هذه القنوات، وتصل مدة الشريط المسجل إلى ثلاثين دقيقة، إذ يجرى باستمرار محو ما سجل سابقًا، ليحل محله التسجيل اللاحق، ومن هذا المنطلق، وعند وقوع حادث فإن الدقائق الثلاثين الأخيرة فقط هي التي تبقى في ذاكرة المسجل، وهذا كافٍ تمامًا للتعرُّف على الظروف التي كانت سائدةً قبل ظهور المشكلة مباشرة.

والصندوق الثاني، الخاص بتسجيل معطيات الطيران “FDR”، هو الأكثر تعقيدًا من سابقه، وتشير المصـادر التي بين أيدينا إلى أن البداية الأولى لدخول هذا الصندوق على متن الطائرات المدنية كان عام 1957م.

وكان آنذاك يحتوي على شريط معدني يتم الحفر عليه بواسطة أقلام خاصة، وتسجيل أهم المعطيات الخاصة بالطيران، مثل الزمن والضغط الجوي والتسارع الشاقولي للطائرة، إلى جانب معلومات أخرى عن وضعية بعض التجهيزات كمجموعة دواليب الهبوط والجنيحات.

كما اعتمد المبدأ ذاته بالنسبة للتسجيل التصويري، حيث تقوم نقاط ضوئية برسم المنحنيات اللازمة على شريط حساس يمرُّ من أمامها، ومن الواضح أن تغذية تلك الأفلام الخاصة والنقاط الضوئية بالمعلومات، تتم عن طريق لواقط مثبتة على دائرة الضغط الجوي للطائرة، وساعة المتن وأجهزة التسريع وما إلى ذلك.

وعلى الرغم من أن هذه التقنية تبدو بسيطةً، فإنها كانت في ذلك الوقت عملية إلى حد كبير، وإن كانت مشكلتها الأساسية كونها محدودة الإمكانيات التسجيلية، حيث لا تزيد سعتها عن ستـة مؤشرات كحد أعلى.

الصناديق الحديثة

في عام 1960م، بدأ الانتقال من هذه المسجلات ذات السعة المحدودة، إلى ما يعرف بـ”المسجلات المغناطيسية المنطقية” Analogic، وهي تعمل وفق مبدأ تسجيل الرموز بدلًا من تسجيل الأصوات، وقد ساهم هذا المبدأ في زيادة سعتها، وبالتالي إمكانية رصد عدد أكبر من المؤشرات.

ثم حدث تطور آخر ظهرت نتائجه مع بداية عام 1969م، حيث ارتفعت مؤشرات التسجيل إلى نحو 30 مؤشرًا، وبدأت منظمات الطيران المدني تُوصي بمزيد من التسجيلات حول كل ما يتعلق بمعطيات الطيران، وظهرت أنواع من الدوائر الإلكترونية القادرة على تسجيل كل المعطيات المتعلقة بعمل المحركات، وقياس كل ما يتعلق بخزانات الوقود، والزيت والسوائل الهيدرولكية، وأيضًا قياس درجة حرارة الهواء الداخل إلى المحركات، والغازات الخارجة منها، وتدفق مضخات التغذية بالوقود، وما شابه ذلك.

يغلق الصندوق الأسود بطبقة هيكلية صلبة، ذات مواصفات خاصة، حيث أنها قادرة على حماية الشريط المغناطيسي، من قوة صدم إستاتيكية مقدارها 2270 كيلوغرامًا، تؤثر باتجاه أحد المحاور الثلاثة للصندوق “الطول، والعرض، والارتفاع″، وذلك لمدة خمس دقائق، وأيضًا تحمل صدمةً ديناميكية مقدارها 227 كيلوغرامًا، تسقط من ارتفاع 3.05 أمتار، على سطح قطره 6.35 ملم. وضمان سلامة الشريط أمام حرارة تصل إلى 1000 درجة مئوية، موزعة على مساحة الصندوق الكلية لمدة نصف ساعة، وتحمل تسارع مقداره 1000ج يعادل “ألف مرة تسارع الثقالة” خلال 5 ميللي/ثانية. ومقاومة تأثير الانغماس في السوائل الهيدروليكية للطائرة لمدة تصل إلى 36 ساعة.

وهكذا، تبقى الصناديق السوداء، أو بعبارة أخرى المكعبات المعدنية ذات الشكل البرتقالي إذا أردنا اللغوية، الشاهد الوحيد على تفاصيل النصف ساعة الأخيرة من عمر الطائرة.

التعليقات