الفتاة الدّنماركيّة

حتى نفي الفيلم حقّه، أو حتى لا تذهب الجماليات فيه بجريرة المضمون التّوثيقيّ له، لنترك جانبًا حقيقة أن "الفتاة الدّنماركيّة" (The Danish Girl) نوع من البيوغرافيّ، يصوّر حكاية الرسّام الدّنماركيّ إينار الذي كان الحالة الأولى لعمليات تحويل الجنس، فيصير امرأة اسمها ليلي. ولنقف هنا قليلاً، الفيلم مبني على رواية بالعنوان ذاته، والرّواية خيال ‪ (Fiction)‬وما يميّز الأدب عن غيره حسب امبرتو إيكو هي، ببساطة، أنّ الأحداث فيه متخيَّلة. والرّواية تستوحي حكايتها من الرسّام الدّنماركيّ المذكور، مبنيّة على دفتر مذكّراته. أي أن لدينا دفتر يوميّات فرواية عن الدفتر ففيلم عن الرّواية.

فالفيلم، عمليًا ولبعد المسافة بينه وبين يوميات ليلي المكتوبة حيث تنحى الرّواية منحاها عنها وينحى الفيلم بالسيناريو منحاه عن الرّواية، الفيلم ليس نقلاً توثيقيًا لحياة أوّل متحوّل جنسيًا، أي ليس كما كان مجمل التلقّي له.

توثيقيًا وبيوغرافيًا، يُعدّ الفيلم متواضعًا، فلم يعط المسائل الطبيّة والتّقنيّة والقانونيّة وقتها فيه. العملية الجّراحيّة ونهايات الفيلم كانت خاطفة، كأنّ الحكاية انتهت بتحقيق البطل لأمنيته بإجراء العملية، بغض النظر عن كونها أوّل عملية تحويل جنس. لم يُرد الفيلم توثيق تفاصيل ذلك أو شرحها.

الفيلم إذن روائيّ يركّز على بطليْه، سيكولوجيًا تحديدًا، الشّخصيتان تتطوران من بداية الفيلم حتى نهايته، هنالك مفاصل واضح في ذلك، مَشاهد ندرك فيها انفتاحًا في مكان وانغلاقًا في آخر، في نفسيّتَي البطليْن، وهذا المتوقع من الفيلم الرّوائيّ المعتمد على الحكاية، لا التّوثيقيّ المعتمد على الوقائع ولا البيوغرافيّ المعتمد على نقل ما يفعله صاحب السّيرة لا ما يحسّه.

لنأخذ الفيلم إذن كعمل فنّي لا يسعى لرواية سيرة ليلي بل يستند عليها لرواية حكايتها، بذلك نفي الفيلم حقّه جماليًا، ويمكن الحديث، مثلًا، عن الألوان والأزياء المستخدمة فيه، دلالات الألوان تحديدًا، في كوبنهاغن حيث الرّماديّ والأزرق الباهت يملأ المَشاهد، مع ما يرافق ذلك من عدم تصالح كل من البطليْن مع نفسه، كلٌّ من ناحيته، هو كرجل يريد أن يصير امرأة، وهي، زوجته، كفنّانة تريد أن يقبل صاحب المعرض بيع لوحاتها.

ينتقلان إلى باريس، الألوان تزهو هناك، في الأزياء كما في الديكورات. وبالنسبة لكليهما، هو في باريس سيستطيع الخروج براحة أكبر في زي امرأة، ومتصالحًا أكثر مع زوجته، يشعر بالأمل بأنّ حلًا سيكون ممكنًا ليصير امرأة، وهي تذهب إلى باريس أساسًا لأنّ معرضًا كبيرًا هناك أراد أن يمثّلها ويبيع لوحاتها.

بصريًا، الفيلم ممتع، وإن كانت الحياة التي يصوّرها منكِّدة، الألم النّفسيّ الذي يعيشه الزوجان، ليلي تحديدًا، تسيطر على المزاج العام فيه.

الفيلم للمخرج الإنكليزيّ توم هوبر، صاحب أفلام جيّدة قد يكون أفضلها "البؤساء" (Les Misérables) في 2012، و "خطاب الملك" (The King's Speech) في 2010. ومن بطولة الإنكليزيّ إيدي ريدماين الذي أدّى دور ليلي ببراعة تستحق جوائز كالتي نالها في 2014 حين أدى دور ستيفين هاوكينغ في فيلم "نظريّة كل شيء" (The Theory of Everything) ونال جائزة أفضل ممثل في كل من الأوسكار والبافتا والغولدن غلوب وغيرها. وهو مرشّح الآن عن دوره في "الفتاة الدنماركية" للجوائز الثّلاث نفسها. وشاركته بالبطولة السّويديّة أليسيا ڤيكاندر التي أدّت دور زوجته جيردا، واستحقّت عنه التّرشيحات للجوائز الثّلاثة المذكورة عن أفضل ممثلة. والفيلم يذكّر بآخر صدر قبل سنتيْن فقط هو "صديقة جديدة" (Une nouvelle amie) للفرنسي فرانسوا أوزون، وتمت مقاربة مسألة الهويّة الجنسيّة، كذلك، من ناحية سيكولوجيّة.

لكن، كي نكون أكثر إنصافًا في الحديث عن الفيلم ونمنح التلقّي له بُعدًا آخر، لا بد أن نشير إلى أنّ اسمه "الفتاة الدنماركيّة" يمكن أن يوحي، بشكل أو بآخر، إلى الزوجة جيردا، الرّسامة التي كان اسمها مختبئًا في ظلّ زوجها الرّسام في كوبنهاغن، والتي استمرّت في الرّسم إلى أن تبنّاها معرض في باريس، وأصرّت على ذهاب زوجها معها لتساعده كي يجد ما يريد. من البداية آمنت به، هوّنت عليه، علّمته كيف يضع الميكياج ويرتدي الملابس النّسائيّة، زارت معه أطبّاء لإيجاد حل لحالته، حل يناسبه هو. كانت السّند الوحيد له مع علمها أنّها ستخسره كزوج إن حصل ونال ما يريد، لكنها آمنت به. فكانت التّضحية من الموضوعات الأساسية في الفيلم.

في مشهد نلمس فيه هذه التّضحية، نراهما يجلسان أمام الطبيب الذي أخبرهما بإمكانيته إجراء عملية تحويل جنس. يقول له إينار، الذي سيصير ليلي: أعتقد بأنّي امرأة. يقولها مرتبكًا متردّدًا أمام طبيب غريب وزوجته إلى جانبه، قد يبدو أمامهما ساذجًا ومجنونًا أو مُصابًا بالشيزوفرينيا كما وصّف أحد الأطباء حالته وأراد حجزه. لكن زوجته تتبعه قائلة للطبيب، وبحسم: أنا أيضًا أعتقد ذلك. بعدها يتم إجراء العملية. هو تصالح مع هويّته وهي أكملت إيمانها بذلك وتضحيتها بزواجها، إلى آخر الطّريق.