غزّة، مكّة، القاهرة؛ هكذا يعبثون بالموروث الحضاريّ

وسط مدينة غزّة، باشرت الجرّافات بأعمال حفر لإقامة مجمّع تجاريّ كبير، أثناء عمليّة الحفر 'تتفاجأ' الجرّافات بوجود آثار، استمرّ الحفر لتنجلي أمام الحفّارين آثار مسيحيّة. بعد أن استُدْعِيَ عدد من الخبراء الغزّيّين، تبيّن أنّ ما عُثِرَ عليه آثار كنيسة تعود للعهد البيزنطيّ، وقد وجدت الحفريّات قطعًا أثريّة وأعمدة وزخارف وصلبانًا منقوشة في البناء، وما إلى ذلك. وأفادت الأخبار أنّ بعضها نُقِلَ إلى متحف محلّيّ. أمّا الجرّافات، فقد واصلت المهمّة المطلوبة منها دون أن تتلقّى أوامر بتجميد الأعمال على ضوء الوقائع الجديدة. سواء نُقِلَتْ هذه الأثريّات كلّها أو بعضها إلى متحف محلّيّ، كما يُقال، أو لم تُنقل، فإنّ القيمة الحقيقيّة لهذه الآثار تفقد جزءًا كبيرًا من أهمّيّتها لسلخها عن موقعها الأصليّ كلّيّة. بإزالتها العبثيّة من الأرض، تفقد الأشياء معانيها، وبالتّالي نفوّت فرصة نشوء مواقع معرفيّة سياحيّة أصليّة، تشكّل طبقة من طبقات تاريخ المدينة.

ضياع قطع 'البازل'

إنّ الخبر الموجز المقتضب ببضعة سطور لا يحمل أيّ إشارات اكتراث وجدّيّة، وإنّ مواصلة الحفريّات المعماريّة يجب أن يدقّ ناقوس خطر سخريتنا المتواصلة من قيمة الموروثات الحضاريّة، لكنّ المقلق أنّه لا يُدَقّ ناقوس الخطر إلّا عند البعض القليل، وتحديدًا عند أبناء الطّائفة ذات الصّلة الدّينيّة بالأثريّات. هذا الإيجاز في التّعاطي مع آثار الكنيسة البيزنطيّة يحمل دلالات مختلفة في غاية الأهمّيّة؛ إنّه يشير إلى تنامي دور رأس المال في تهميش القطاع المعرفيّ والإنسانيّ لصالح قوى الرّبح، ويطرح تساؤلات عن دور السّلطات والقيادات (في حالة غزّة على سبيل المثال لا الحصر) في تهميش هذه الآثار، كونها لا تمتّ بصلة لمذهبها الدّينيّ والسّياسيّ. والأخطر من ذلك هو الاستهانة بضياع قطع 'البازل' الحضاريّ لجغرافيّة البلد؛ فكيف للمنظومة المعرفيّة الحضاريّة التّاريخيّة أن تتشكّل وتتّخذ مكانًا في التّاريخ دون تجميع تلك القطع؟

آثار كنيسة بيزنطيّة في غزّة

هذا التّساهل والتّهميش المقصود، أو غير المقصود، يشكّل في النّهاية ضررًا غير مستردّ لعافيتنا الحضاريّة، ضررًا جسيمًا غير قابل للتّرميم؛ ومن هنا لا بدّ من فتح نقاش حقيقيّ حول تنامي هذا التّساهل والتّهميش في عالمنا العربيّ، وعدم التّوقّف النّقديّ عند الظّاهرة محلّيًّا فقط، لأنّها تشكّل نهجًا جماعيًّا واسعًا مترابطًا.

باريس هيلتون في مكّة

مكّة. ماضٍ تحت الرّكام. مكّة أكثر المدن قداسة لدى المسلمين، وفي مكّة نشأت وانطلقت الدّعوة المحمّديّة، ومنها انطلق الجيل المؤسّس للدّولة الإسلاميّة. مكّة تحتضن بيوت 'الصّحابة' الأوائل، وتحتضن بيت وأمكنة النّبيّ محمّد وأهله وزوجته. على الرّؤيا الثّقافيّة الشّاملة أن لا تجد حرجًا أمام الإنسان المسلم والمؤمن بأن تقدّم له مكّة، حاضنة ثقافيّة حضاريّة ما قبل إسلاميّة، وأنّ ما تحمله مكّة هيكل بنيويّ يقوم على مركّبات ما قبل الإسلام وما بعده. هذه المدينة تواجه في السّنوات الأخيرة 'بلدوزرًا' وحشيًّا عملاقًا يجتثّ العراقة من جذورها، بقصد بناء مجمّعات تجاريّة وفنادق حديثة ومرافق للسّائحين الحجّاج. فقد وثّقت تقارير تابعة للأمم المتّحدة، وتقارير أمريكيّة مختصّة، ومشاهدات عربيّة حيّة، تدمير عدد كبير جدًّا من المباني الّتي ارتبطت بحياة النّبيّ محمّد، وأُقيمت مكانها سلاسل الفنادق الفاخرة والمحال التّجاريّة الرّأسماليّة، مثل ماكدونالدز وستاربكس، والعديد من بوتيكات باريس هيلتون.

يمكن القول إنّ الحجّاج الّذين يريدون أن يزوروا بيت خديجة زوجة الرّسول محمّد، سيجدون مكان البيت كتلة من ١٤٠٠مرحاض عامّ! وإن أرادوا زيارة منزل أبي بكر الصّدّيق، فسيجدون محلًّا للصّرافة. بالإضافة إلى ذلك، نُسِفَتْ مقابر تعود لأكثر من ١٠٠٠ سنة، كما نُسِفَت جبال مكّة لإفساح الطّريق لمواقف السّيّارات، وغدا فندق برج السّاعة الملكيّ، وهو من أطول المباني في العالم، يهيمن عمرانيًّا وبصريًّا على فضاء مكّة العامّ، بدلًا من المسجد الحرام، حيث تقع الكعبة المقدّسة للمسلمين.

أنانيّة الأيدولوجيا

ولا نستغرب أن يذهب البعض للاعتقاد أنّ هذا التّدمير الممنهج يُفَرِّغُ طقوس الحجّ من معانيها، حيث يُمَسُّ الاعتكاف الرّوحانيّ في هذه الأماكن ذات القيمة الدّينيّة التّاريخيّة، كما يُضْعِفُ تدريجيًّا فرصة اللّقاء بين الأمم والشّعوب للتّعارف خلال موسم الحجّ.

مكّة المكرّمة؛ عمارة رأس المال تأتي على آثارها

هذا التّدمير لآثار مكّة ذو صبغتين: الأولى أيديولوجيّة تتمثّل بفرض مفهوم واحد إقصائيّ لأيّ مظاهر قد تعتبر 'دنيويّة'، من المؤكّد أنّها ستخلق جذبًا نحو تلك المنازل والمباني، أو أيديولوجيّة مذهبيّة، تعمل على شطب آثار أمويّة وعثمانيّة، وإقصاء فرق إسلاميّة أخرى مثل الشّيعة. والصّبغة الثّانية، وهي الأكثر استفادة، تلك الاقتصاديّة الّتي تتمثّل بهيمنة الوحش الرّأسماليّ على موسم الحجّ، وتحويله لموسم كسب ماليّ عظيم.

أبو الهول في المرمى

مصر الّتي تحتضن حضارة أجدادها الفراعنة، تواجه في السّنوات الأخيرة تهديدًا متزايدًا من قبل قوى سلفيّة متعدّدة، ومن قبل دعاة إسلاميّين من دول متعدّدة، كالدّاعية الكويتيّ إبراهيم الكندريّ، الّذي عدّ إزالة الأصنام والأوثان ضرورة شرعيّة، وأنّ الأمر ينطبق على الآثار التّاريخيّة في مصر، مثل أبو الهول والأهرامات. وقد ادّعى الدّاعية أنّ تعليل عدم الهدم بأنّ الصّحّابة الأوّلين لم يحطّموا أبو الهول والأهرامات، تعليل غير مقبول، لأنّ التّماثيل الفرعونيّة كانت مدفونة تحت الأرض، ويؤكد أنّ المسلمين هدموا آثارًا وتماثيل كثيرة في مصر، في محاولة من هذا الدّاعية لتصعيد خطابه الهدّام.

كما تصاعدت في مصر أصوات القوى السّلفيّة أثناء فترة حكم الرّئيس محمّد مرسي، فقد دعا القياديّ السّلفيّ الجهاديّ، مرجان سليم الجوهري، إلى تحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات، وطالب بتنفيذ حكم مماثل للحكم الشّرعيّ الّذي نُفِّذَ في أفغانستان بتحطيم تماثيل بوذا، والّذي شارك فيه الجوهريّ شخصيًّا.

طبقات التّاريخ الإنسانيّ

من غزّة إلى القاهرة مرورًا بمكّة، نصطدم بذات العقليّة، ذات النّهج والممارسة. نحن أمام تضييق مستمرّ لنافذة الرّؤية، نقترب من ثقب صغير، من خرم إبرة، ربّما نستطيع من خلاله إسماع صوت مناهض لثقافة الهدم بذرائع دينيّة. هذا الصّوت الخافت يقول إنّ عمليّة البناء الإنسانيّ والثّقافيّ عمليّة تراكميّة، التّاريخ الإنسانيّ مكوّن من طبقات متعاقبة، قد تكون متصالحة، وقد تكون متناقضة. وليس هناك نظام أو فصيل سياسيّ أو دينيّ، يمتلك الحقّ بشطب طبقات من تاريخه أو تاريخ الآخر لمجرّد انتمائه لمذهب، لطائفة، لديانة، لشعب مختلف.

موقع تمثال بوذا الّذي فجّرته طالبان في أفغانستان (2001)

لا قيادةً ولا أميرًا في غزّة، ولا شيخًا سلفيًّا أو أزهريًّا، ولا أميرًا نفطيًّا في الرّياض ومكّة، يملك حقّ إلحاق ضرر جسيم غير قابل للتّرميم في المنظومة الأثريّة على هذه الأرض، وهذه اللّاءات المتتالية تفترض بأنّ الصّراعات القوميّة والوطنيّة تمتلك خطابًا آخرَ يُؤَسَّسُ على  سقف أعلى من شكل النّقش في الحجر، فليس من يجمع نقوشًا أكثر هو من سيحسم الصّراع. أمّا النّقش الموجود في هذا الحجر أو ذاك العمود، فإنّه يفتح أبوابًا للمعرفة، للعلم، ويفتح مساحة للنّوافذ الثّقافيّة العريقة، تمامًا كما أعبّر عن رفضي لحصر تاريخ البلاد بالإسراء والمعراج والمسجد الأقصى ودخول الإسلام للبلاد، وشطب كلّ الحضارات السّابقة له، والّتي فيها تشكّل عمودها الفقريّ. علينا أن نتعلّم تعميق البحث العلميّ في كنعانيّتنا مثلًا، وأن نفخر بانتمائنا للمكان ونرسّخ هذا الانتماء، دون شطب ثقافاتنا وحضارتنا الّتي سبقت الدّيانات.

قطع الخيوط

أمّا في مصر، فإنّ النّهج الرّجعيّ الّذي يحاول مصادرة وشطب تاريخ وحضارة مصر، وحصره فقط بدخول عمرو بن العاص إليها، فهو يجازف مجازفة لا تعرف المزاح، ويفتح باب العداء على 'المصالحة' الحاصلة بين الفترة الإسلاميّة لمصر وبين تاريخها الفرعونيّ العريق. بل أقول إنّ هناك حاجة لتوسيع رقعة هذا التّراث المصريّ الإنسانيّ، بشمل مجموعات أخرى مثل النّوبيّين، وقطع الطّريق على إقصاء الأقباط المصريّين.

في المقابل، يُعَدُّ النّموذج السّعوديّ الأكثر مأساويّة ودمويّة من بين الحالات الّتي عدّدتها في هذه المقالة، فالحالة السّعوديّة تمتلك دولة حامية وراعية لعمليّة الهدم، وتمتلك مساحة عريضة من 'الشّرعيّة الدّينيّة' لمواصلة التّهديم، لحجج دينيّة وهندسيّة، وخطورة النّموذج السّعوديّ تكمن في قدرته الطّائفيّة والدّينيّة على تصدير هذه الشّرعيّة لأماكن أخرى، ورعاية عمليّات الهدم.

بين غزّة ومكّة والقاهرة، خيوط رفيعة للهمجيّة المذهبيّة، وعلينا العمل توعويًّا لقطع خيوطها قبل أن تستكمل هذه الخيوط الإجهاز على أعناقنا جميعًا.