وفا حوراني؛ مستقبل الاختفاء في زيادة الحضور

جانب من مشروع "سينما دنيا" لوفا حوراني

في ليلة أنبأت ببداية الصّيف، وفي حديقة استولت لنفسها على جانب من الهدوء من صخب المدينة، كانت حلقة حوار استضافها مركز خليل السّكاكينيّ الثّقافيّ مع الفنّان وفا حوراني. حاورته القيّمة والنّاقدة الفنّيّة، ومديرة المركز الأسبق، رلى خوري، على هامش معرضه الّذي أقامه في چاليري 1،  حيث بدأت بالتّعريف عن علاقتها بحوراني، ومعرفتها له فنّيًّا، والّتي بدأت في شهر كانون الأوّل هذا العام، من خلال عمله 'سينما دنيا'، والّذي شكّل حلقة وصل بين تاريخه السّينمائيّ وعمله التّشكيليّ، إذ درس حوراني السّينما التّجريبيّة في تونس.

صناعة التّاريخ

يشمل عمل حوراني هذا مجموعة من الوسائط المتنوّعة؛ الأفلام، والتّصوير، والتّركيب، والأداء، والموسيقى، والشّعر، والّذي شرّحه بوصفه السّبب الّذي يعيد تكوين المكان الّذي أُغْلِقَ خلال الانتفاضة الأولى لعدّة أسباب؛ منها العصيان المدنيّ، وانعدام المنتج السّينمائيّ الفلسطينيّ في حينه، واعتقادًا من القوى الوطنيّة أنّها بهذا الفعل ستحمي المجتمع في صحوته وانتفاضته، وكأنّه يتجرّد من الوقت كي تتسنّى له قراءته.

وفا حوراني خلال ورشة فنّيّة دوليّة في سيينا، إيطاليا (2014)

لم يكن العمل المذكور مجسّمًا فحسب، بل استحضر فيه آلاف الصّور الّتي جمعها منذ عام 2005 لصناعة التّاريخ كما يشتهي. افتراضًا للواقع، في حال أنّ المكان لم يصمت عن سرد حكايته، جعل حوراني المكان رباعيّ الأبعاد، وربّما خماسيّها، إذ لم يكتف بصناعته مجسّمًا، ولم يقنعه سرد الصّور فحسب، بل انتقل فيه أيضًا للّعب مع المتلقّي، لفهم هويّة العمل وتاريخه وكينونته من خلال تفاصيله، ولسرد التّعقيدات السّياسيّة.

مرآة في وجه الجدار، ووجهنا

أعاد حوراني، باستخدامه عددًا مهولًا من الصّور، بناء مخيّم قلنديا في أدقّ تفاصيله، بواقعيّة مفرطة، وكان أمام خيارين: إمّا أن يزيل الجدار فَيُتَّهَم بالتّفاؤل، أو يرفع الجدار فَيُتَّهَم بالتّشاؤم. لم يكن ترك الجدار على حاله خيارًا، لكنّه، وبذكاء، عالج المشهد بوضعه مرآة أمام الجدار تواجه المخيّم، وكأنّني أسمعه يقول: إن لم ننته من القبح المنتصب، فسيكون المخيّم مرّتين.

ابتعد حوراني عن تجميل الواقع النّضاليّ، اعتمادًا على استراتيجيّة الوهم، وذهب إلى النّقد والنّقد الذّاتيّ، لنرى أنفسنا أيضًا في المرآة، ونرى ما ستؤول حالنا إليه عبر السّنين، حين نرى أنفسنا ضمن العمل. بذلك تصبح المرآة أخطر من الدّبابة علينا. فبحسب رأيه، المرآة أداة لفحص الثّقة، فمن تثق به لن يخشى المرآة إن أعطيته إيّاها، ومن لا تثق به، حتمًا سيؤذي نفسه بمرآتك.

مقبرة الأسرار

هنا كان حوراني يعمد إلى توظيف وقت المتلقّي للمشاركة في إنتاج العمل الحيويّ، بأن يدفن سرًّا له في العمل مُدَوَّنًا على قصاصة ورقيّة، ما يخلق شراكة لحظيّة بينه والحضور كما علّق: 'العلاقة بين الجمهور والفنّان بدها خِفّة.' وهنا يكمن النّصّ الحقيقيّ للعمل، وللقبر في أعمال حوراني مرجع شخصيّ، مردّه حسن، أخوه، الّذي فقده قبل فترة.

الأسرار بطبعها أقوى من التّصريح الواضح، إذ أنّها تخلق الفضول وحبّ معرفة الماوراء والتّساؤل عمّا اختفى، وما هو الدّاعي لاختفائه، وهل هو بذلك قد اختفى بعضه أو جلّه.

داروين

هذا ما أوحت به طفلة من طولكرم لحوراني، في رسمها لشخصها إلى جانب الجدار عام 2009، خلال إحدى ورشات العمل مع الأطفال. مثّلت نفسها برقبة طويلة تمتدّ عاليًا فوق الجدار، ما أطلق في رأسه شرارة، إذ ربّما قانون التّطوّر يحمل في طيّاته جانبًا آخر.

قال حوراني: 'على قدّ ما عندك حقّ بتطّوّر.' مشيرًا إلى أنّه، وفي نظرة مستقبليّة، ربّما بعد سنين، سترتقي رقبة الفلسطينيّ عاليًا، وستتقزّم رقبة الإسرائيليّ، ولن تتعدّى في أحسن أحوالها السّنتيميترات الخمسة لليساريّين منهم، على حدّ قوله.

السّلك والظّهور الخفيّ

ما السّلك إلّا مؤطّر لفراغ بجعله كتلة دون وزن، أو حضورًا خفيًّا بخجل وفخر في آن معًا، عكس فيه حوراني اثنتي عشرة سنة من قرار اختفائه عن السّاحة الفنّيّة، وصوّر به رحلته الخاصّة بوصف الفنّ علاجًا للفنّان.

في تمثيله للفنون القتاليّة الفلسطينيّة، كانت مقارنة بين فنون الانتفاضة الأولى والثّانية، إذ رأى أنّ من التّطوّر الطّبيعيّ والواجب على الفلسطينيّ، أن تتطوّر أدواته من الحجر إلى ما بعد ذلك، مع استمرار وجود الحجر أيضًا؛ ملمّحًا بذلك إلى أساليب المواجهة الّتي تفاعلت مؤخّرًا في البلاد؛ فلو بقي الحجر فقط في يد الفلسطينيّ، لبقي على حاله للأبد. ربّما هي محاولة لإعادة بعث الأمل في سياق فنّيّ، باعتبار الفنّ ليس إلّا ملاحظة شخصيّة من الفنّان، وليس تعريفًا أو تسجيلًا للواقع، وهو بذلك منطقة ثوريّة لا تخضع لقانون الجماعة.

الخوف من الاختفاء

الاختفاء عند حوراني منبعه زيادة الحضور؛ ففي مقارنة بسيطة طرحها، قال إنّ الصّورة الفوتوغرافيّة حينما كانت نادرة في الماضي كان لها حضورها، أمّا اليوم، ومع تطوّر التّكنولوجيا، صارت الصّورة بذاتها مادّة تُسْتَهْلَكُ وتختفي بين جموع قريناتها، وغابت فردانيّتها في ظلّ الكمّ، وهذا ما يخلق قلقًا عند الفنّان من ضياع اللّحظة في وهم تسجيلها، وهذا ما ينطبق بطريقة أو أخرى على الإنسان.

يذكر أن وفا حوراني من مواليد مدينة الخليل عام 1979، وهو يعيش ويعمل في رام الله.

كان 'قانون نيوتن الرّابع' أوّل معرض فرديّ للفنّان في مؤسّسة المعمل للفنّ المعاصر في مدينة القدس؛ وقدّم أعماله في مهرجان التّعبير عن المقاومة، بولهاوس، برلين. كما شارك بـ 'وصول ومغادرة' في أنكونا، إيطاليا، ونيوتوبيا، وميكلين، وقلنديا الدّوليّ، القدس. وكذلك في 'لقاء' بالدّوحة، قطر، وبرنامج عاصمة الثّقافة الأوروبيّة في غيمارايش. عرض أعماله في العديد من المعارض الدّوليّة الآخرى.