السّودان تلوّن الحياة

للفنّان السّودانيّ محمود جاه الله أحمد

يتميّز الفنّ السّودانيّ بالخصوصيّة المكانيّة، إذ تنتمي معظم الأعمال الفنّيّة المتنوّعة ما بين الرّسم والطّباعة بكافّة أنواعها، لروح المكان الّذي يمتاز بقوّة الضّوء، والحياة الفطريّة والبسيطة الّتي يعيشها السّودانيّون.

تمتاز الأعمال الفنّيّة السّودانيّة، بعامّة، ببساطة عناصرها وقدرة تطويعها بسهولة ويُسْر على سطح اللّوحة، كما نجد العمق الرّوحيّ والفلسفيّ في طرق معالجة الأعمال وتقنياتها، وتنويع أسلوبها والبحث عن فرض تجربة ذات خصوصيّة. يمكن في هذا السّياق الإشارة لأعمال فنّانين متعدّدين، مثل: إبراهيم الصّلحيّ بإنجلترا، تاج السّرّ حسن بالشّارقة، حسن موسى بفرنسا، صلاح سليمان بألمانيا، عبد الله بولا بفرنسا.

الرّوح

وفي حين نجد الكساد الحَراكيّ في التّجربة الفنّيّة السّودانيّة، إلّا أنّه يمكن التّوقّف أمام تجارب فرديّة متعدّدة، إن كانت تعيش في السّودان أو خارجها، مثل الفنّانين آنفي الذّكر، الّذين تميّزوا بأعمالهم على مستوى إقليميّ ودوليّ، وذلك بفضل التّعليم الأكاديميّ، والّذي بدأ في أربعينات القرن الماضي، حيث أُسِّسَتْ كلّيّة الفنون الجميلة والتّطبيقيّة بالخرطوم، بالإضافة إلى التّجريب المستمرّ لهؤلاء الفنّانين.

في مهرجان خان الفنون بالأردنّ، والّذي أقيم الشّهر الماضي، شارك فنّان سودانيّ بورشة المهرجان الفنّيّة، وعكس شخصيّة لافتة، امتازت برؤية منفتحة للحياة، وابتسامة دائمة، ونظرة بسيطة للواقع، مع القدرة على خلق أجواء إيجابيّة من المرح والمزاح؛ وهي روح الفنّان الّذي يصعب إيجادها بين الفنّانين. ربّما يساعدنا هذا التّشخيص السّريع للفنّان على فهم واكتشاف عوالمه الخاصّة، المتميّزة بالبساطة والعمق في الوقت نفسه.

يعكس الفنّان السّودانيّ  محمود جاه الله أحمد (1959)  روحه في أعماله، وطرق معالجة السّطح، وفرادة الأسلوب الّذي ينتمي غالبًا للأسلوب الطّفوليّ، والقصص الخياليّة، واكتشاف عناصر ومفردات أقرب للفضاء منها للواقع

دهشة

 يعمل جاه الله أحمد على موضوع الأطفال وعلاقتهم مع اللّا مكان، فنجد شخوصه متداخلة وكأنّها تطير في السّماء، ويشعرنا بانتمائها للأرض، ربّما باستخدامه للطّبيعة من أشجار وأزهار تحيط بهذه الشّخوص، إذ تُنشئ غابة إنسانيّة طبيعيّة تُنزّه الأبصار أثناء مشاهدتها. وبالرّغم من فقرها اللّونيّ الواضح، إلّا أّنها تشعّ ببعض الزّخرفات اللّونيّة الّتي تقتحم دواخل عناصره، فتحييها بالحياة والحركة، وباللّون المعتدل الّذي يبدو وكأنّه شهاب يمرّ سريعًا بين بعض خطوطه ومساحاته الصّغيرة؛ فكثافة العناصر تضيّق الفراغات الكبيرة.

ليس لدى جاه الله قوانين عامّة تحكم أعماله واستخدام الأدوات، فهو يعتمد على صياغة أفكاره أوّلًا، ومن ثمّ البحث الدّائم في تطوير أدواته بالملاحظة، وبما يتناسب وأعماله لخلق صور بصريّة غير عاديّة تختلف عن السّائد. كما يعمل جاهدًا على طرح أشكال جديدة تدهش المتلقّي، وتثقّف بصره بقراءة العمل والاستمتاع به.

يقول جاه الله أحمد: 'يكون الفنّ مبدعًا حينما يدهشنا بصريًّا وفكريًّا، وهو يدهش أعيننا وأفكارنا لأّنه غير عاديّ، ولم نرَ حلًّا يعادله من قبل.' لا شكّ في أنّ هذه النّظريّة تلائم كافّة أنواع وأشكال الفنون في فلسفتها وبحثها عن التّجديد والدّهشة.

أسرار

يعتمد جاه الله أحمد مستويات مختلفة في تجربته، تبدأ من الخامة أو السّطح، باحثًا عمّا يميّزه وما يمكن اكتشافه من خواصّ، والاستفادة منها في الأعمال، خاصّة أنّ سطح الرّسم غالبًا ما يمتلك أسرارًا على الفنّان اكتشافها ليحقّق التّجريب والممارسة.

وفي مستوًى آخر من التّجريب، فإنّ الأداة نفسها تدفعه نحو اكتشاف قدرتها على توفير ظروف وأشكال فنّيّة مختلفة، لا ترضخ للشّروط الكلاسيكيّة في فنّ الرّسم، بَيْدَ أنّها تلغي وتحذف وتحفر، والفنّان، مهما رسم من تخيّلات، لا يمكنه أن يتوقّع النّتيجة النّهائيّة إلّا بعد خوضه عمليّة الحذف أو الحفر في أعماله.

البداية... أَسْوَد

يبدأ الفنّان جاه الله أحمد أعماله ببقعة سوداء غالبًا، حيث ينشر لونه الأسود على سطح العمل، ومن ثمّ يبدأ بحفّ اللّون بشفرة حلاقة، ليبرز عناصره وكتله الحالمة مع وضع بقع ملوّنة بسيطة داخل العناصر، والّتي تؤكّد على ذكائه البصريّ بقدرته على شدّ انتباهنا للأعمال دون أن يفرض بذخًا لونيًّا لا مبرّر له؛ وتقترب مشاهده من الخطوط المنحنية غالبًا، والّتي تتبع حركة الشّفرة في حفرها ومعالجتها، والّتي تربك المشاهد بين أن تكون رسمًا يدويًّا، وبين الاعتقاد بأنّها أعمال مطبوعة على زنك أو خشب أو غيره، وبهذا الصّبر الكبير في العمل على لوحاته، فإنّها توحي بالدّقّة والمتانة وصعوبة تقليدها، لما تحتاجه صناعتها من خبرة ونفس طويل.

اختناق

ربّما يجب مناقشة افتقار أعماله للفراغ والمساحات ، حيث تشعر وأنت تنظر إليها أنّك بحاجة للتّنفّس من أثر الاختناق فيها، حتّى وإن كان اختناقًا جميلًا، لكنّ ذلك لا يمنع من ضرورة العمل على التّنفّس، وإعطاء أفق للعين حتّى ترتاح بعد التّمعّن الكثيف في مفردات الفنّان البصريّة، الّتي تنتمي للأسلوب الأكاديميّ في معالجة تكويناتها، ومراكز السّيادة المتعدّدة، وكثافة البقع السّوداء الّتي تفصل بينها بعض خطوط  أثر الشّفرة وبعض الألوان البسيطة.

بالرّغم من بعض الملاحظات الّتي يمكن قولها في أعمال جاه الله أحمد، إلّا أنّ ذلك لا يقلّل من فرادة تجربته أيضًا، وقدرتها على المناورة وفرض وجودها في المنطقة العربيّة، لا سيّما أنّ الفنّ السّودانيّ يمثّل خصوصيّة وسلوكًا بصريًّا مختلفًا أصلًا، يمكن لذوي الخبرة الفنّيّة ملاحظتهما.

تحدّيات

من الملاحظات الممكنة، أنّ الفنّان بحاجة لفتح أعماله على المعاصرة أكثر، وفرض خطاب فكريّ منتمٍ لموضوعه البصريّ، حتّى يجد مبرّرًا حقيقيًّا ومنطقيًّا في فرض وجوده على السّاحة الفنّيّة العربيّة، رغم أنّ ذلك يُعَدُّ إشكاليّة على الصّعيد السّودانيّ، لصعوبة التّواصل مع الخارج، والوضع السّياسيّ الصّعب الّذي يعاني السّكان منه، إلّا أنّه لا يمنع من تحدّي الفنّان لكافّة الظّروف في سبيل إيجاد مساحة له، تساعده على إيصال رسائله، وعلى أن يكون واحدًا من محاور العالم الفنّيّ.

يتميّز الفنّان جاه الله أحمد بأسلوبه الخاصّ، ونمط أعماله الّتي تُبنى على أسلوب الإزاحة والحفر، وهي أقرب ما يكون لعمليّة النحت، حيث من الصّعب إصلاح الخطأ، وهو بذلك يطرح تحدّيًا كبيرًا لمنطق الفنّ الّذي لا يقبل الخطأ.