بشير السنوار: المجدلي الذي سُرقت ألوانه

لوحة بشير السنوار

كنت في السادسة من عمري عام 1948، عندما سرت بقدميّ الصغيرتين من بلدي المجدل إلى غزّة، لتبدأ عمليّة اللجوء والرحيل عن الوطن، وجرت مأساة شعبي في عروقي وملأت كياني .وبعد أن ألقينا عصا الترحال وضمّتنا خيام اللجوء، دخلت المدرسة، وفي التاسعة من عمري ظهرت لديّ موهبة الرسم، بمساعدة جدّي الحاجّ عبد الله، والذي كان يحضر لي المجلّات المصوّرة والألوان، ويطلب منّي رسم بعض صورها. وأخذت هذه الموهبة تنمو وتكبر في المرحلتين الإعداديّة والثانويّة. وبعد حصولي على الثانويّة العامّة، التحقت بكلّيّة الفنون الجميلة بالقاهرة، وحصلت على البكالوريوس في التصوير، دورة أكتوبر 1965.

بهذه الكلمات التي رافقت معرضه "قربان"، الذي أُقيم في غزّة عام 2010، يعرّف الفنّان بشير السنوار نفسه شاهدًا على حدث النكبة، إذ عاش التهجير طفلًا، ليخوض بذلك تجربة استثنائيّة في مرحلة عمريّة يبدأ الوعي فيها بمراكمة إدراك الوجود من حوله؛ المجتمع، والثقافة، والأحداث التاريخيّة.

في أوائل نيسان الحاليّ، غادرنا بشير السنوار تاركًا وراءه إرثًا بصريًّا من أعمال تشكيليّة تخبر عن فنّان ملتزم بقضايا أبناء شعبه وهمومه، وقد جاء التزامه هذا، بالتأكيد، أصيلًا في تكوينه الإدراكيّ والنفسيّ والمعرفيّ والثقافيّ، ما يعبّر عنه بقوله: وجرت مأساة شعبي في عروقي وملأت كياني. فتجربة التهجير وتداعيات حدث النكبة تركت أثرها الكبير في الفنّان، كما هي الحال مع كثيرين من أبناء جيله، روّاد الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة، سواء الذين خاضوا تجربة اللجوء داخل الوطن، أو هؤلاء الذي هُجّروا إلى خارجه، لتسيطر النكبة وتداعياتها على معظم التجارب البصريّة التي قدّموها.

البدايات: الاشتباك باللوحة

بعد أن حصل السنوار على درجة البكالوريوس في الفنون من القاهرة، عاد إلى غزّة ليتابع مسيرته فنّانًا وأكاديميًّا، حيث عمل مدرّسًا للتربية الفنّيّة بمدرسة حيفا الثانويّة للبنات بخانيونس، ومدرسة العريش الثانويّة للبنات، ومدرسة خانيونس الثانويّة للبنين. وهو بعودته هذه إلى الوطن، سيواجه مصيرًا اشتباكيًّا مع الاحتلال، إذ يقول:

وكان مشروع التخرّج عن الرحيل في قضيّة اللاجئين، والذي تمّت مصادرته مع سبعين لوحة زيتيّة ومئات الإسكتشات من قبل القوّات الإسرائيليّة عند احتلالها لقطاع غزّة عام 1967، وقد أقامت القوّات الإسرائيليّة بهذه اللوحات معرضًا دائمًا لمدّة ثماني سنوات 1967 – 1975، مع تعليق بثلاث لغات على كلّ لوحة، وأخذوا يحضرون أصدقاءهم لمشاهدة هذه الأعمال المعروضة في مدرسة حيفا الثانويّة للبنات بخانيونس، حيث كان الجيش الإسرائيليّ متمركزًا في هذه المدرسة طيلة فترة احتلاله للقطاع، وقد أعدت رسم لوحات المشروع بأحجام صغيرة نسبيًّا، كي لا تضيع.

واجه الفنّانون الفلسطينيّون، في المرحلة التي تلت النكسة، أساليب قمع مختلفة على يد قوّات الاحتلال، تمثّلت في الاعتقال ومصادرة اللوحات والملاحقة والمنع من السفر، لدرجة دفعت بالفنّانين، منذ منتصف السبعينات، إلى تنظيم معارض جماعيّة بشكل سرّيّ، في قاعات المدارس والبلديّات والجامعات والنوادي الرياضيّة وغيرها. وفي العام نفسه الذي صودرت فيه أعمال السنوار، أي عام النكسة، أطلقت قوّات الاحتلال الرصاص على لوحتين لإسماعيل شمّوط، كانتا معلّقتين في مكتب الجامعة العربيّة في القدس، تمثّل إحداهما ربيع فلسطين، وتمثّل الأخرى النكبة. ويعلّق الفنّان والناقد الفلسطينيّ الراحل عبد الكريم السيّد، في مقال بعنوان "واقعيّة بشير السنوار الغنائيّة تسرد المأساة الفلسطينيّة"، على مصادرة أعمال السنوار في هذه الفترة، فيقول: "وقع الاحتلال الصهيونيّ للقطاع في عام 1967، وصودرت جميع هذه الأعمال من قبل السلطات الإسرائيليّة التي أقامت لها معرضًا استمرّ ثلاث سنوات، وكان مرفقًا مع كلّ لوحة شرح بثلاث لغات، يبيّن كيف يعلّم الفلسطينيّون أولادهم الحقد على الصهاينة...".

لقد أدرك السنوار والعديد من أبناء جيله من روّاد الحركة التشكيليّة، أنّ الثقافة تصبح ميدان اشتباك أساسيّ في الصراع مع الاحتلال. وعلى الرغم من أنّ لوحات السنوار التي صودرت تمثّل تداعيات النكبة على الفلسطينيّين، وما لاقوه من معاناة أثناء التهجير وبعده، في مخيّمات اللجوء، إلّا أنّها، أي لوحاته، قد أُخضعت لعمليّة إعادة قراءة وتأويل ضمن الأيديولوجيّة الصهيونيّة التي تنكر وجود ضحايا نتيجة الوجود الصهيونيّ في فلسطين، إذ إنّ هذه الأيديولوجيّة تنكر، بالأصل، الوجود الفلسطينيّ على الأرض، كما جاء في الشعار الذي رفعته: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

 

وفي 1-11-1977 قدّمت استقالتي بسبب المضايقات الإسرائيليّة، وذهبت للعمل بدولة الإمارات العربيّة في التدريس والوسائل التعليميّة وإدارة المناهج، حتّى نهاية عام 2001، حيث بلغت سنّ التقاعد، وعدت إلى القطاع وعملت في مرسم الهلال الأحمر الفلسطينيّ، ومحاضرًا بجامعة الأقصى لمادّتي الرسم والتصوير، لمدّة خمس سنوات .

الواقعيّة سرديّة غنائيّة للمأساة

تميّز السنوار، منذ بدايات مسيرته، باحترافيّة عالية، سواء في التصوير الواقعيّ، أو في التعامل مع الألوان والإحساس بها وبتدرّجاتها، وبدراية لجماليّة وتناغم وتناسب العلاقات بين الأشكال والعناصر في اللوحة. هذه الاحترافيّة والدقّة، إضافة إلى التزامه بالهمّ الجمعيّ موضوعًا، مكّنته من فرض نفسه فنّانًا من الروّاد في المشهد البصريّ الفلسطينيّ، منذ الستّينات. يقول الفنّان: "وقد التزمت الواقعيّة في معظم أعمالي، لأنّها الأقدر في التعبير عن هموم الناس ومعاناتهم". ويصف عبد الكريم السيّد واقعيّة السنوار بأنّها غنائيّة وليست فوتوغرافيّة، إذ يقول: "إنّ السنوار له مقدرة على الرسم الواقعيّ تبلغ حدًّا من الجودة والدقّة، بحيث لا يملك المتلقّي إلّا أن يعجب بها. فواقعيّته غنائيّة وليست فوتوغرافيّة، إذ إنّه يضيف إليها مهارته اللونيّة واستخدام اللون بدرجاته المختلفة، كما أنّه يعايش الشخصيّة أو الحدث المراد إبرازه، بحيث يظهره بدواخله وليس فقط بشكله الخارجيّ، كما يضيف إليه بعدًا دراميًّا مع حسّ وجدانيّ".

المكان: مساحة رقص واشتباك

يحضر كلّ من الإنسان والمكان محورين مركزيّين في أعمال السنوار؛ وهما محوران كانا، بطبيعة الحال، محلّ اهتمام عديدين من جيل الروّاد في الفنّ الفلسطينيّ بعد النكبة، في تجاربهم التي وثّقت هذا الحدث التاريخيّ، وعالجت من خلاله العلاقة بين الإنسان والأرض/ الوطن. يحضر المكان في أعمال السنوار بحالات مختلفة، فهو المخيّم المكلّل بالفقر وبشقاء قاطنيه، والموسوم باللّا تمركز في الوعي الجمعيّ، إذ تظهر حالة اللّا تمركز هذه في أعمال الفنّان من خلال تصويره البيوت العشوائيّة في المخيّم، المسقوفة بالخشب والصفيح، لتبدو وكأنّها بيوت مؤقّتة غير ثاتبة، عالقة في فضاء من الفراغ الذي يحيل إلى الاغتراب واللّا تجذّر.

في مقابل اغتراب المخيّم، تصوّر أعمال أخرى للسنوار حميميّة العلاقة بين الإنسان والأرض/ الوطن/ المكان الأوّل؛ فتيات في مقتبل العمر وصبية في حالة من البهجة والسلام والتماهي الجماليّ مع الأرض، غارقون في بحر ذهبيّ من السنابل، يقطفون شقائق النعمان التي تزيّن المشهد. تصوّر لوحة أخرى رجالًا ونساء في موسم الحصاد، في حالة من التناغم مع الأرض، على نحو تبدو حركاتهم أثناء الحصاد وكأنّهم يؤدّون رقصة مع الأرض، ما يؤكّد الواقعيّة الغنائيّة في العديد من أعمال السنوار، كما وصفها عبد الكريم السيّد.

والمكان في أعمال السنوار ساحة الاشتباك والمقاومة، يقدّم حجارته سلاحًا لأطفال الانتفاضة، وهو الشاهد على المجزرة واغتيال الفلسطينيّ وهويّته، وهو الجدار الذي تُسَجّل عليه طبقات الذاكرة من ملصقات الشهداء والأشعار والشعارات حول الوطن والثورة، وهو القدس المنتظرة للأمل، ترتقب الثورة، والثورة تنظر نحوها كما في لوحة خلفيّتها المدينة المقدّسة، يتصدّرها حصان تزيّن الكوفيّة رقبته.

وفي لوحة أخرى، تتصدّر البندقيّة المشهد المقدسيّ، في إحالة إلى المقاومة سبيلًا لاسترجاع المدينة والحقّ المسلوب. يحضر البحر، أيضًا، في أعمال السنوار، في حالتين؛ فهو البحر الهائج الذي يحمل قوافل المهجّرين إلى المجهول، وهو، أيضًا، بحر غزّة وشاطئها الذي تستلقي عليه قوارب الصيّادين.

الفلسطينيّ القربان

يصوّر السنوار الإنسان في أعماله بحالات مختلفة، تتردّد بين الكونيّ، غير المعرّف بهويّة مكانيّة أو ثقافيّة ما، والفلسطينيّ المغرق في ارتباطه بقضيّته وبالأرض. فإلى جانب بورتريهات لأطفال ونساء ورجال لا تشير هويّتهم إلى حيّز جغرافيّ محدّد، يصوّر الفنّان الفلسطينيَّ طفلًا يلهو في الحقول والأزقّة، أو لاجئًا يشقى في حياة المخيّم، أو فلّاحًا وفلّاحة في موسم الحصاد، أو مقاومًا مقاتلًا تشير كوفيّته إلى هويّته، ويقدّم نفسه قربانًا للقدس.

تحضر المرأة في كثير من أعمال السنوار، بزيّها التقليديّ في الريف الفلسطينيّ، ليعنونها، بذلك، هويّة تختزل جماليّة الذاكرة والحنين لفلسطين قبل النكبة، ويصوّرها لاجئة تمسك بيد طفلها في طريق رحلتهما نحو المجهول، أو في حالة من اليأس والفجيعة في قوارب اللجوء على صفحات الموج. والمرأة في أعمال السنوار مقاومة تحمل الحجارة، تعبيرًا عن مشاركة المرأة الفلسطينيّة بفاعليّة في الانتفاضة الأولى.

وهي المفجوعة بالمجزرة، كما في لوحة من ثلاثيّة "صبرا وشاتيلا"، الموجودة، حاليًّا، في متحف الفنّ العربيّ المعاصر بالشارقة، وهي تتكوّن من ثلاث جداريّات. تصوّر واحدة من هذه اللوحات، بواقعيّة دراميّة، تَكَدُّسَ جثامين الشهداء بعد المجزرة، وتتصدّر المشهديّة امرأة تحمل طفلها في حالة من الذعر والفجيعة، وفي الخلفيّة يبدو المكان مدمّرًا. في حين يصوّر الفنّان، في لوحة أخرى من هذه الثلاثيّة، الكوفيّة الفلسطينيّة مخضبة بالدماء، وإلى جانبها وثيقة سفر تغطّيها الدماء أيضًا، في إشارة إلى عمليّات القتل التي كانت تُنفّذ خلال المجزرة بناءً على الهويّة، فقد كان يُقتل كلّ من هو فلسطينيّ، كما يذكر الفنّان في مقابلة معه.

أخيرًا، وعلى الرغم من التزام السنوار بالمدرسة الواقعيّة التي وجدها الأسلوب الأكثر ملاءمة لحاجته إلى التعبير عن مأساة الشعب الفلسطينيّ، إلّا أنّه لم يبق أسيرها على الدوام، إذ أنجز خلال مسيرته العديد من الأعمال التي تنتمي إلى مدارس مختلفة؛ فمن بين أعماله ما ينتمي إلى المدرسة السرياليّة، كما في لوحته التي تصوّر ملثّمًا يحمل رأسه في يده، بينما قلبه المدينة المقدّسة. كما أنجز الفنّان، كذلك، مجموعة من الأعمال التجريديّة.

ولعلّ رحيل الرائد والفنّان الملتزم، بشير السنوار، يذكّر بضرورة أن يؤدّي القائمون على المشهد الثقافيّ والفنّيّ الفلسطينيّ دورهم في حفظ وثوثيق هذا الإرث البصريّ للشعب الفلسطينيّ، والاهتمام بتجارب الفنّانين الفلسطينيّين بعامّة، وتكريم الروّاد منهم بخاصّة، امتنانًا وعرفانًا لرسالتهم البصريّة والمعرفيّة، التي ساهمت في التعريف بالقضيّة الفلسطينيّة، وبتعزيز دور الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة في ميدان اشتباك الثقافة والهويّة، في صراعهما على الوجود.

 

 

د. مليحة مسلماني

 

 

أديبة وباحثة فلسطينيّة تقيم في القدس. حاصلة على الدكتوراه في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر، ولها العديد من الدراسات والمقالات في الفنون البصريّة والثقافة، بالإضافة إلى عدد من الإصدارات الأدبيّة.