«الكركند» والحبّ بلا رومانسيّة

من فيلم «الكركند» The Lobster (2015)

 

 

"نفكّر في الحبّ بطريقة رومانسيّة جدًّا... في مجتمعنا نفكّر في الحبّ بطريقة تدمّر الحبّ الّذي نريده" – آلان دي بوتون. 

في فيلم «الكركند» The Lobster (2015)، للمخرج اليونانيّ يورجوس لانثيموس، يعرف بطله دافيد أنّ زوجته أحبّت شخصًا غيره، وبذلك يكون لديه خمسة وأربعون يومًا عليه أن يجد خلالها شريكة بديلة، وإلّا سيحوّل إلى كركند أو أيّ حيوان آخر بحسب اختياره، وبحسب قواعد المجتمع الّذي يعيش فيه دافيد حيث لا مكان للفرديّة. 

أزمة الفيلم هي أزمة الزوجيّة في علاقتها بالحبّ، فهي الشكل المثاليّ الّذي نتصوّره للحبّ، والحبّ ذلك الخطر الّذي يتربّصها ويهدّد بقاءها. نتصوّر أنّنا سنصادف الشريك المثاليّ في لحظة ما وسيكون الحبّ الأبديّ، لكنّ الحبّ متقلّب لتقلّب البشر أيضًا، وقد تكون احتمالات إيجاد الحبّ أكبر لو كنّا حيوانات. 

يتحدّث الفيلم عن عالم تخضع فيه الحميميّة والحبّ للبيروقراطيّات والرقابة والقانون الّذي يلزم الجميع بالزوجيّة ليضمن بقاءها، فيضع «الأفراد» في فندق لمدّة خمسة وأربعين يومًا بهدف العثور على شريكة أو شريك، فإن انقضت المهلة دون حصول ذلك يحوّلون إلى حيوان يختارونه ثمّ يطلَقون في البرّيّة ليواجهوا شريعة الغاب وخطر الفناء. في المقابل، يعيش ’الوحيدون‘ الهاربون من تلك المدينة أو المجتمع حياة حيوانيّة خارج القانون في الغابة، ويخضعون لقوانينهم الفاشيّة الّتي تحرّم أيّ شكل من أشكال الحميميّة وتفرض على ممارسيها عقوبات قاسية. 

أزمة الفيلم هي أزمة الزوجيّة في علاقتها بالحبّ؛ فهي الشكل المثاليّ الّذي نتصوّره للحبّ، والحبّ هو ذلك الخطر الّذي يتربّصها ويهدّد بقاءها...

خلال رحلة دافيد في هذا العالم لاستعادة الشراكة والقدرة على الحياة في المدينة/ المجتمع البشريّ، يفكّك الفيلم الحبّ بوصفه "فكرة رومانسيّة"، أي كمثاليّات مبهمة نجد أنفسنا عالقين فيها بحكم القدر كما تصوّره لنا الثقافة والسرديّات السائدة؛ فـ "الحبّ أعمى" في ثقافات عديدة، أمّا في «الكركند»، فدافيد مصاب بقصر النظر لا أكثر. هكذا يعيد الفيلم ظاهرة الحبّ إلى حيثيّات النفس البشريّة المحمّلة بالأعباء، ويؤكّد أنّنا لكي نحبّ حقًّا علينا أن ننضج كأفراد قبل أن نصبح أزواجًا.

 

في الحبّ  وفي فخّ الرومانسيّة 

ثمّة تشابه كبير بين سينما لانثيموس وعوالم الروائيّ التشيكيّ فرانز كافكا (1883 – 1924)، ففي كليهما تواجه الذات الإنسانيّة معضلة بيروقراطيّة تهدّد وجودها في ذلك العالم، حيث تختفي أصول الممارسات الإنسانيّة والقوانين الّتي تحكمها، بتأصّلها في بنيته على هيئة بيروقراطيّات متشابكة ولا نهائيّة، وتذويتها كحقائق مفروغ منها في البناء النفسيّ الفرديّ والجمعيّ. لكنّ ’الغريب‘ أن يتحوّل شيء ’عفويّ‘ ينبع من دواخلنا، كالحبّ، إلى قواعد صارمة تنشئ العالم وفق صورة معيّنة، كأن تعترض الشرطة الأفراد الّذين يتجوّلون بمفردهم وتستجوبهم وتفتّشهم بحثًا عن شهادة الزوجيّة. لكنّ هذه التجربة ’المعكوسة‘ عن الحبّ، كما في الفيلم، تحاكي الحياة الزوجيّة في صلبها، فعند الحديث عن الحبّ نتحدّث عن العلاقات والعادات الّتي نمارسها مع الآخر، والّتي تحدّد شكل العالم الّذي نشيّده معًا. من خلال عكس هذه التجربة، أي الصورة الّتي ذوّتناها عن الحبّ في عالم الفيلم ’الخارجيّ‘، نستطيع معاينة علاقاتنا بالحبّ خارج نطاق الذات المبهم بوصفها عادات نمارسها في توجّهنا إليه. في النهاية، إنّ الإحساس بـ ’الغرابة‘ بحسب المنظّر مارك فيشر (1968 – 2017)، ليس إلّا ’إحساس بأنّ ثمّة خطب ما، بأنّ شيئًا ما لا ينتمي حيث صادَفَنا، لكنّه موجود هناك، ممّا يعني أنّ تصنيفاتنا الّتي ندرك بها العالم حتّى الآن غير كفيلة بفهمه"، أي أنّنا بحاجة إلى تحديث ما. 

عندما يُدخَلُ دافيد إلى ’فندق الزوجيّة‘ يختار التحوّل إلى كركند إذا لم ينجح، بحجّة أنّ الكركند حيوان أصيل نقيّ الدم، يعيش طويلًا وتظلّ قدرته على الإنجاب عالية لأكثر من مئة عام. لكنّه لا يذكر أنّ الكركند يظلّ في مغارته طوال الوقت حيث تتزاحم الإناث على بابها قبل أن يسمح لواحدة منهنّ بالدخول كلّ فترة تزاوج. فبعد هجر زوجته له، يختار دافيد الكركند تأكيدًا على تصميمه وقدرته على إيجاد شريك آخر وآخر إذا اقتضى الأمر، حتّى وإن كان حيوانًا. يسجن دافيد نفسه داخل هذا التصوّر بحيث لا يرى نفسه إلّا في الزوجيّة، مثلما يسجنه العالم داخل الفندق؛ فالشرطة تعتقل الأفراد من المدينة وترسلهم إلى الفندق حيث عليهم إيجاد شركائهم إن أرادوا العودة إلى المجتمع البشريّ. أمّا عمليّة تسجيل الدخول إلى الفندق فتشبه دخول السجن، بما في ذلك الاستجواب والأسئلة الشخصيّة عن تاريخ علاقات المعتقلين وميولهم، إضافة إلى مصادرة ممتلكاتهم وتزويدهم بملابس موحّدة خلال فترة إقامتهم. 

 

بوستر فيلم «الكركند» The Lobster (2015)

 

هذه الفكرة متأصّلة في نظرة ’رومانسيّة‘ Romanticism للحبّ، التي تنصّ بأنّ "لكلّ منّا توأم روح في مكان ما، وما علينا غير إيجاده" بحسب وصف الفيلسوف البريطانيّ آلان دي بوتون Alain De Botton. إذن يصبح الحبّ أو الزوجيّة في ’الرومانسيّة‘ مسـألة صراع بقاء، فيقدّم عاملو الفندق عروضًا لـ ’نزلائه‘ في قاعة المحاضرات تشرح مخاطر الحياة الفرديّة تقابلها حسنات الحياة الزوجيّة؛ فالرجل الّذي يأكل وحيدًا معرّض لخطر الاختناق، والمرأة الّتي تمشي وحيدة في المدينة معرّضة للاعتداء والتهجّم عليها، بينما ثمّة الأزواج الّذين ينقذون حياة بعضهم ويحمون بعضهم البعض في تلك المواقف. ليس ذلك فحسب، بل إنّ بإمكان ’النزلاء‘ تمديد مهلة العثور على شريكة أو شريك من خلال اصطياد ’الوحيدين‘ من الغابة وتقديمهم للسلطات.

"من وجهة نظر رومانسيّة، ثمّة علاقة غريبة بين الموت والحبّ"، كما يخبرنا الفيلسوف آلان دي بوتون، حيث فكرة ’الحبّ الحقيقيّ‘ في الروايات الرومانسيّة مرتبطة دائمًا باستمراريّته حتّى فناء الإنسان، وعادة ما يموت البطل فور وقوعه في الحبّ، تأكيدًا على أهمّيّة إيجاده. تجلس خادمات الفندق في «الكركند» في أحضان الرجال ويرقصن حتّى يستثيروهم، أي حتّى يشعرون بالحاجة الملحّة لإيجاد ’الحبّ‘ وبسرعة، ثمّ يتركونهم يعانون، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الفندق يعاقب على الاستمناء سرًّا بحرق اليدين. هكذا، بدل أن تكون الزوجيّة مصدرًا للمتعة والتعاطف، تصبح ضرورة ملحّة للتخلّص من ’معاناة الفرديّة‘ الّتي نفرضها على أنفسنا عندما نقع في فخّ ’صورة الحبّ‘ الّذي تصنعه الثقافة الدارجة معنًى وحيدًا للحياة.  

 

أين ’نقع‘ في الحبّ

"علّمنا التحليل النفسيّ أنّنا لا نقع في الحبّ اعتباطًا، بل نختار شركاءنا لأسباب منطقيّة جدًّا"، إذ يخبرنا دي بوتون أنّنا ’نختار‘ من نحبّ بحسب "الخارطة الّتي نملكها عن الحبّ"، أي استنادًا إلى معلوماتنا الّتي اكتسبناها من تجاربنا السابقة والمألوفة لنا منذ الطفولة. لذلك يبحث البعض في الحبّ أو في شركائهم عن تلك "المعاناة المألوفة لهم"، بحسب ظروف تجربة الحبّ الّتي عاشوها في طفولتهم. فنزلاء الفندق يحاولون بجدّ العثور على الحبّ المحصور في مَنْ يتطابق معهم بـ "السمة المحدِّدَة" لشخصيّاتهم بحسب وصف الفيلم. ’جون‘ مثلًا، أحد نزلاء الفندق، يعرّف نفسه بـ "عرجة في رجله"، تسبّب بها هجوم ذئاب حديقة الحيوان عليه عندما حاول احتضان والدته الّتي حوّلها النظام إلى ذئب بعد فشلها في العثور على زوج بدل والده، الّذي كان قد تركها من أجل امرأة "أبرع منها في الرياضيّات". 

إنّ الإحساس بـ ’الغرابة‘، ليس إلّا ’إحساس بأنّ ثمّة خطب ما، بأنّ شيئًا ما لا ينتمي حيث صادَفَنا، لكنّه موجود هناك، ممّا يعني أنّ تصنيفاتنا الّتي ندرك بها العالم حتّى الآن غير كفيلة بفهمه"...

هكذا يبحث كلّ النزلاء عمّن يشاركهم تلك السمات أو يتلاءم مع "حمولاتهم العاطفيّة"، كما يسمّيها دي بوتون، مثل العرجة أو قصر النظر أو اللثغة أو البلادة الشعوريّة ’التمسحة‘، إلخ. لكنّ اعتقادنا الرومانسيّ بأنّ الحبّ "إحساس مميّز" يصعقنا عند مصادفتنا لتوأم روحنا، يغيّب هذا التاريخ العاطفيّ ويختزل التعقيد السيكولوجيّ للنفس في "لحظة نشوة". فترى البعض "يمشي وراء إعجابه بشخص قد يلفت نظره شكل كاحله أو تفصيل من تفاصيل الوجه، فيعتقد بأنّه عثر على الشخص المثاليّ قبل أن يعرفه حقًّا" بحسب دي بوتون. ذلك ما يدفع نزلاء الفندق إلى تجاهل معايير "السمة المحدّدة"، ومحاولة مزاوجة أيّ شخص يعجبهم حتّى وإن كانت سمته/ ـا تنذر بعلاقة مأساويّة. فكما يقول دي بوتون، "في البداية تشكّل نقاط ضعف وهشاشة الآخر جزءًا من انجذابنا إليه، لكن على المدى البعيد، تصبح هذه النقاط ذاتها مصدر إزعاجنا وقلقنا داخل العلاقة". 

ذلك ما يحدث لشخصيّة الفيلم الرئيسيّة، دافيد، الّذي تعجبه "المرأة متحجّرة القلب"، أو المشاعر، ويرى فيها شريكًا ملائمًا، فيعاني معاناة أشدّ من الوحدة عندما يحاول خداعها والتظاهر بعدم امتلاكه لأيّة مشاعر ليكون ممكنًا أن يصبحا زوجًا، وبذلك يتجنّب مصيره في أن يتحوّل إلى حيوان. فهي تحطّم قلبه عندما تقتل كلبه الّذي يكون أخاه الّذي حُوِّلَ إلى حيوان، في اختبار لعلاقتهما، فإن كان "الكلب" أو ’أخوه‘ يدلّ على ’العائليّ‘ بتصوّر فرويدي، أي ما تبقّى له من علاقته بـ ’الحبّ‘ بشكل عامّ  بعد هجر زوجته له، فالمرأة متحجّرة القلب تخرّب علاقته مع الحبّ في حياته تمامًا بقتل الكلب. 

يفشل دافيد في اختبار الحبّ والزوجيّة بشكل كامل، فيهرب من الفندق بعد أن يحوّل "المرأة متحجّرة القلب" إلى حيوان انتقامًا، وينضمّ إلى ’الوحيدين‘ في الغابّة؛ فلا مفرّ من حياة العازب الحيوانيّة، ذلك أنّ الزوجيّة لا تنمو على الأشجار كما قيل لنا في السرديّات الرومانسيّة. 

 

الحبّ مدرسة

ينضمّ دافيد إلى ’الوحيدين‘ الّذين يسمعون الموسيقى الإلكترونيّة فقط لأنّهم "يرقصون فرادى‘، والّذين يعاقب قانونهم مَنْ يخالف قواعد الامتناع عن الحميميّة والحبّ بإجباره على ممارسة الحميميّة بعد التنكيل بأعضائه اللازمة لممارستها مثل عقاب القبلة الحمراء؛ فثمن الحميميّة في الحياة الفرديّة هو الحميميّة الجارحة الّتي تنطوي على خطر جرح القلب والمشاعر. يتعلّم دافيد في تلك الحياة البقاء والعيش وحتّى الموت وحيدًا، فعليه "ألّا يتوقع من غيره حتّى أن يحفر قبره"، بحسب قوانين الوحيدين. 

في ذلك الوقت يتمكّن دافيد من الحبّ حقًّا، إذ يتعرّف على امرأة تنقذه من نزيل من نزلاء الفندق كان يحاول اصطياده – أي تنقذه من أن يصطاده وهم ’الرومانسيّة‘ القائل بحتميّة نظام العلاقة الزوجيّة للإنسان والّذي يمثّله ويفرضه الفندق ويتبنّاه نزلاؤه – فيردّ لها الجميل باصطياد الطعام لها، وفقط عندما يذهبان متخفّيان كزوج في رحلة خاطفة للمدينة لشراء بعض الحاجيّات، يعلم أنّها مصابة بقصر النظر مثله - أي أنّها تشاركه السمة المحدّدة. تبدأ علاقتهما بالتعاطف المتبادل والتعارف البطيء الّذي يكشف التلاؤم بينهما، وكأنّ رحلاتهما الخاطفة إلى المدينة، إلى عالم الزوجيّة، فيها رمزيّة المواعدة العاطفيّة المترويّة عوضًا عن فكرة ’لحظة النشوة‘ الرومانسيّة، الّتي تبتلع الأفراد في عالم زوجيّ مثاليّ فوريّ النشوء، وهي الفكرة الّتي يروّج لها نظام الفندق. بل إنّهما يطوّران لغتهما الخاصّة في التواصل من خلال الإشارات كي لا يكتشف أمرهما فيعاقبا. هكذا يتغلّبان على وهم آخر للرومانسيّة والقائل "إنّ كثرة الحديث والتفكير في المشاعر يقتلها"، أيّ أنّ العشّاق يتفاهمون بالفطرة دون الحاجة إلى التعبير بحسب وصف دي بوتون، فيؤكّد الفيلم على أنّ التواصل ضروريّ لنشوء العلاقة السليمة واستمراريّتها، فأغلب المشاكل في العلاقات تنشأ عن توقّعاتنا من الآخر أن يفهم حاجاتنا دون أن نتكلّم لأنّه "يحبّنا". 

 

من فيلم «الكركند» | دافيد [كولين فاريل] وحبيبته اللّا مسماة [ريتشل وايز]

 

لاحقًا، تكتشف زعيمة الوحيدين علاقتهما، فتأخذ المرأة قصيرة النظر إلى المدينة بحجّة "تصحيح نظرها" فتعميها تمامًا. يشكّل هذا التطوّر أكبر عائق أمام دافيد في علاقتهما العاطفيّة؛ فكأنّ «الكركند» يوحي بأنّ ثمّة في داخلنا فرد متعصّب لفرديّته يستفزّ عند اكتشاف "الجانب المظلم" في شريكه على المدى البعيد، وكأنّ سلوك الزعيمة هو سلوك ذلك الفرد الّذي تغدو حمولات شريكه العاطفيّة من منظوره ’كابوسًا‘، "فكلّ منّا كابوس يصعب التعايش معه فعلًا في العلاقات... لدى كلّ منّا جوانب يصعب التعامل معها"، بحسب دي بوتون. عندما تتغيّر السمة المحدّدة للمعشوقة أو ما يمكن وصفه بالأرضيّة المشتركة بينهما، يواجه دافيد التحدّي الحقيقيّ للعلاقات الّذي يتحدّث عنه دي بوتون، فيتحتّم عليه تغيير سلوكه ومنظوره إن أراد استمرار العلاقة. 

عوضًا عن تجاهل سمات الحبيبة أو أحمالها العاطفيّة الّتي عرفها عن كثب مع مرور الزمن، عليه ألّا يكون أعمًى تجاه ’عماها‘؛ فبدلًا من أن يسألها باستمرار عن خاصّيّة هامشيّة قد تكون مشتركة بينهما مثل عزف البيانو أو اللغة الألمانيّة، عليه التعامل مع هشاشتها هذه بأن يصبح ما سمّاه الإغريق قديمًا بـ ’المعلّم الجيّد‘ داخل العلاقة. فقد آمن الإغريق بأنّ "الحبّ عمليّة تعلّم متبادلة... يتبادل فيها الشريكان دورَيّ المعلّم والطالب... ليتعلّما أن يكونا أفضل نسخة من نفسيهما"، كما يكتب دي بوتون الّذي يعلّمنا من خلال هذه الفلسفة أنّ علينا أن نكون كرماءً في فهمنا وتعاطفنا مع شركائنا، وأن نحاول تعليمهم أن يكونوا أفضل بالمداعبة واللطافة.

مثلما فعل دافيد الّذي قضى وقته في تعليم شريكته العمياء رؤية الأشياء والتعرّف عليها باللمس في لعبة «إلمس- خمّن – فكّر – إربح»، الّتي اخترعها. بل إنّه تركها تربح أحيانًا حتّى وإن أخطأت. لكنّ معشوقته ترفض تقبيله حتّى بعد كرمه ومحاولة تفهّمه مأزّقها، خوفًا من عقاب الزعيمة لها على ممارسة الحميميّة أو ’الحبّ‘ مجدّدًا، مثلما أعمتها أوّل مرّة. فربّما تبتعد عنه المعشوقة عاطفيّا خوفًا من جانبه الميّال للفرديّة الّذي تمثّله الزعيمة ببطشها، والّذي قد يكون غير متفهّم أو نافذ الصبر في بعض الأحيان، فالألعاب الّتي اخترعها تعلِّمها التأقلم مع منظوره للحياة، ولا يتعلّم هو فيها منظورها ’الأعمى‘ الّذي يشكّل عائق العلاقة بحسب معايير ’السمة المحدّدة‘ أو الحمولات العاطفيّة. 

 

نعاني لننضج

بعدما فكّر دافيد وحيدًا وهو يجلس في مكان التقاء البحر باليابسة – المكان الّذي يرتبط عادة بلقاء العشّاق في الروايات الرومانسيّة – مردّدًا محاسن الحبّ والمعشوقة على شكل أغنية، يخطف زعيمة الوحيدين إلى موتها، ويهرب مع شريكته العمياء إلى المدينة حيث تنتظره بقلق على طاولة مطعم حتّى يتمّ خطّته. 

علينا أن نتعلّم التعامل استراتيجيًّا في الحبّ مع جنوننا وجنون الآخر… فحتّى وإن لم يبدو هذا في ظاهره رومانسيًّأ، لكنّه يظلّ في صالح الحبّ، وبالتالي قد يكون أشدّ الأفعال رومانسيّة على المدى البعيد...

يقف دافيد متردّدًا أمام مرآة حمّام المطعم، وفي يده سكّين سيعمي نفسه بها ليستنّى لهما العيش في مدينة الزوجيّة معًا. يتركنا الفيلم مع هذه المعضلة؛ ففي النهاية يخبرنا «الكركند»، كما دي بوتون، أنّ الزوجيّة أو الحبّ ليسا من المثاليّات بأيّ صورة، وليسا دواءً للألم والحزن في هذا العالم، بل هما اختيار لنوع المعاناة الّذي نستطيع التعايش معه لنتمكّن من النضوج؛ هما حياة مع شريك تنقصها الحرّيّة الفرديّة، أو مع شريك سيّئاته أقلّ سوءًا من غيره، أو شخص يتحمّل عيوبنا، أو حياة فرديّة كخادمة الفندق الّتي تقتل زوجها الّذي لا تطيقه وترقص بحماس وحدها في حفلات الوحيدين الإلكترونيّة. 

لربّما يوحي لنا الفيلم أنّ الحبّ ليس فقط "إحساسًا مميّزًا"، بل هو تلك المهارة الّتي نتعلّمها مع ومِنْ شركائنا، لربّما يكون عالم الفيلم بأكمله إسقاط شعريّ أو صورة رمزيّة لمسار علاقة دافيد مع زوجته الّتي لم تهجره فعلًا، بل واجهت علاقته بها تحديّات اضطرّته ليبحث عن الحبّ فيها مجدّدًا. فهو بطل هذه القصّة، لكنّها تُرْوى بصوت المعشوقة الّتي تشاركه قصر النظر مثل زوجته. لعلّ كلّ نساء الفيلم هنّ إسقاط لجوانب من زوجة دافيد؛ فنساء الفيلم وحدهنّ الّلاتي يصنعن شيئًا من علاقاتهنّ  ويضعن التحدّيات أمام دافيد والرجال الآخرين الّذين يكتفون بمحاولة الارتباط معهنّ بطريقة أو بأخرى، مثل المرأة الّتي تحمّل دافيد مسؤوليّات أخلاقيّة وعاطفيّة عندما تلمّح له بأنّها ستنتحر إن لم يرتبط بها. وذلك إلى أن يتعلّم دافيد أن يكون وحيدًا ليصنع هو الحبّ في العلاقة.

ليس غريبا إذن أنّ أوّل سؤال يَفْتَتِحُ به دافيد الفيلم كان عن الرجل الّذي ستتركه زوجته لأجله: "هل يرتدي النظّارات أم العدسات اللاصقة؟"، فربّما كان دافيد يسأل لا عن الرجل بل عن نفسه، أي عن ’الفرد‘ الّذي يجب أن يكونه كي يكون شريكًا أفضل لغيره. فكما يقول دي بوتون: "أفضل هديّة نقدّمها لشركائنا هي معرفة أنفسنا أوّلًا... علينا أن نعترف لأنفسنا أوّلًا بأنّنا جميعًا مجانين… كما علينا أن نتعلّم التعامل استراتيجيًّا في الحبّ مع جنوننا وجنون الآخر… فحتّى وإن لم يبدو هذا في ظاهره رومانسيًّا، لكنّه يظلّ في صالح الحبّ، وبالتالي قد يكون أشدّ الأفعال رومانسيّة على المدى البعيد". 

 


مرجعيّة

* De Botton, Alain. «Alain De Button on Romanticisim», The School of life (2016): https://www.youtube.com/watch?v=sPOuIyEJnbE&t=3345s. Accessed 20 February 2022.

* De Botton, Alain. «The concept of True Love – TV- Talk with Alain De Botton | Stenstunde Philsophie | SRF Kultur», SRF Kultur, (2019): https://www.youtube.com/watch?v=wFCsLSGPLMk. Accessed 20 February 2022.

* Fisher, Mark. The Weird and the Eerie. Watkins Media (2016).

 


 

حنين عودة الله 

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».