التّنورة المِصريّة، بهاءُ العروضِ الحيّة وبقاؤها

كانت السّاعة تقترب من السّابعة، وفي رفقتي مجموعة من الأصدقاء الأجانب، كُنتُ قد تحدثتُ إليهم عن عرض التّنورة في وكالة الغوري.

رِهانُ على الانبهارِ والإعجابِ والحبِّ في وقتٍ واحد، في مِكانٍ يصلُ عُمرُه لأكثرَ من خمسة قُرون.

شَقَقْنا طريقَنا وَسَط القَاهِرة الخيديويّة مِن أجلِ الوصولِ للقاهرةِ الفاطميّة، وإذا كنتَ تسيرُ في شَوارعِ القَاهِرة التي أنشأها الخديوي إسماعيل في مُنتَصَفِ القَرنِ التّاسعَ عشر، فستختلجك الكثير من المشاعر التي لا يمكن الإحساس بها سِوى في القَاهِرة الإسماعيليّة بشوارعِها أُوروبيّة المذاق، ومبانيها المُزخرَفة، وتماثيلها الشّامخة، ثُم تصعدُ بعد ذلك إلى كُوبري الحُسين فتدخل إلى عالمٍ آخر،  له سحرُه الخاص، تتضاربه الفوضى، والتّاريخ، والبشر، والآثار.

فرائحةٌ البَخورِ التي تُحاصرُك بمُجرد نُزولِك مِن الكُوبري، وعلى مَرمى البَصر، تَجدُ على مَيمنتِك الجامع الأزهر، وعلى اليسارِ مسجد الإمام الحسين، وبين زحام يكاد يَخنٌق الراجلُ والسّائقُ، فيُنسيكَ ماكنتَ فيه وَسط شوارع سليمان باشا، وعماد الدين، وشريف باشا، لتجد كُتلاً من البشر يقفون في انتظار الحُصول على تذكرة دُخول عَرْض التّنورة في وَكالة الغوري.

كان المشهدُ فوضويًا، فبابُ الوَكالة مُغلَق، والمُوظَفون يتحدثون مع الجُمهور بشكل يغلبُ عليه الزَعيق. كانتْ صَديقتي التّركية مُندهشة للغاية من هذا الأسلوب في التواصل، فقالت لي: 'لماذا يصرخ هكذا؟'، فقلتُ لها: إنه لا يصرخ، هُو فقط يتحدثُ إلى الجّمهور، إنها الطّريقة المصريّة في التّواصل.

وَكالة الغُوري، تعودُ تسميتُها إلى السُّلطان المملوكي قَنصوة الغوري، آخر سلاطين المماليك الذين حكموا مِصر قَبل دُخول العُثمانيين(1501-1516 من الميلاد).

والسُلطان الغُوري رُغم توليه الحُكم في فترة مأزومة سقطت على إثرها الدولة في يد العثمانيين، وسَقَطَ هُو صَريعًا مِن على حِصانه بعد أن أصابه الشّلل إثر سماعه عن هزيمة جيشه، إلا أنه تَركَ إرثًا مِعماريًا عظيمًا مازلنا نتمتعُ بمُشاهدتِه حتى يومنا هذا.

يومَ توليّه الحُكم، كان يبكي لأنه لا يُريدُ تَولّي السّلطة بعد اختفاء السّلطان 'طُومان باي'، إلا أن الأمراء جَذبوه من طَوق رِدائه وأجلسوه على كُرسي السّلطنة، وألبسوه العِمامة والجِبة السُّلطانية، وبعد هذا اليوم، ولمُدة أكثرَ مِن عَشر سَنوات قدَّم قَنصوة للعَالَم تُحفًا مِعمارية حاضرة بيننا.

داخلَ وَكالة الغُوري التي كان يُستقبَلُ فيها التُّجار القادمون من خارج مِصر، تراصت الكَراسي، وامتلأت، حتى جَلَسْنا على الأرضِ في انتظار بِداية العرض.

ولعلَ عرض التّنورة هُو الوحيد الذي مازالَ حافظًا لمَكانتِه وَسط كُلِ الأحداثِ التي تمرُّ بها مصر. أتذكرُ جيدًا أن العَرْضَ كان مُكتظــًا بالجُمهورِ قَبلَ ثورةِ الخامسِ والعشرينَ مِن يناير 2011، ورُغم افتقادِ البِلادِ لكثيرِ من استقرارِها، إلا أن التنّورة ظلَتْ باقية وبقوة وَسط كُلِ المُتغيراتِ السّياسية.

العرضُ امتد لقُرابة السّاعة ونصف، وتنوعَت فقراتُه ما بين المُوسيقى الشّرقية، ثُم المَديح والإنشاد حَول آل البَيت والرَسول مُحمد، ثم بَعد ذَلك يخرج علينا في حُلتِه البَهية التي تملؤها الألوانُ المُبهِجة، راقصُ التّنورة، وهُو ذلكَ الراقصُ المُتأثِرُ بالصُوفية، والذي يتشابهُ بعضُ الشيء مع راقصي المَولوية التي أسَّسها جلال الدين الرومي.

حاولتُ مَعرفة أصل فَن التّنورة، ومَتى ظَهَرت في مِصر، وهل تأثرت حقًا بالمَولوية التّركيّة، أم أنها نَسَجَتْ خُيوطَها بيدِها دُونَ عَون من أحد؟

إلا أنني لم أصلْ إلى حقيقةِ تاريخيّةِ مُؤكدة، ومع ذلك فأنا أميلُ إلى الرِّواية القائلة بإن التنّورة المِصريّة تأثرت بالدَولة الفَاطِميّة التي جَاءَ معَها الكثيرُ مِن الصِّور الاحتفاليّة، ومَظاهرِ البهجةِ، مثل فوانيس رَمضان. فألوانُ التّنورةِ المُبهِجة لا تختلفُ في جَمالِها عَن جَمالِ ألوانِ الفَانوس الفاطِميّ التَّقليديّ.

في رَقصة التنّورة فَلسفة صُوفيّة واضحة، يُدركها العَيان عِندما يتأملونَ حَركاتِ الراقصِ (اللفّيف) والمَجموعة التي تدورُ حَوله، فهُو الشّمسُ، وهمُ الكواكبُ، ففي حَركتِهم الدّائريّة المُعاكسة لدوَران السّاعة تشابهُ مَع الطَوَافِ حَول الكَعبة، ومَع كُلِ لَفّة أو دَورة، انعكاس لفَصل من فُصول العَام.

يَقوم اللفّيف برفعِ يده اليُمنى لأعلى، واليسرى لأسفل، في دلالةِ واضحةِ للربطِ بَينَ الأرضِ والسّماءِ، كما أنَ دورانَه حَولَ ذاتِه وكأنه ينْفُضُ عَن كاهلِه عِبءَ الدنيا، ورغبةَ في الارتقاءِ إلى السّماءِ.

ورُغم مَرجعيّة التّنورة الصّوفية، إلا أنها تحَلَّتْ بطابعٍ مِصريّ بمُرور الزَّمن، فصَارَ إيقاعُها أكثرَ حيوية من المَولويّة التُّركيّة، فتَجدُها مُتناغِمة في حَركاتِها مَع إيقاعِ الآلاتِ الشّعبيةِ المِصريّة مِثل المِزمار، الرَبابة، الطَبلة، الصَّاجات.

رُبما لم تكُن جَلستُنا مُمتعِةَ لدرجةِ الكَمالِ بسبب بَعضِ البيروقراطيّةِ التي لطَالما تتمتعُ بها المُؤسسات الحُكوميّة المصريّة. فتصويرُ الفيديو مَمنوع، و يُوجد شخص  يعمل في وَزارة الثَقافة مُهمته في الحياة أن ينغص حياتك ويقول لك: 'مَمنوع تصور فيديو!!'

انتهى العرْض، مَع انحناءاتِ كُلِ مَنْ شَاركَ في العَرْضِ وَسط ضَجيجِ التَّصفيقِ في القاعةِ. والسّعادةُ مُرتسِمةُ على الوُجوه. وأنا أُحاولُ الحُصولَ على أي مَعلومةِ مِن أحد المُشاركين في العَرْض، لكن دُون جَدوى، فالأستاذ مُدير الفِرقة أبلغني هاتفيًا قَبلَ العَرْض عَن وُجوبِ إرسالِ خطابِ رسميِّ لوزارة الثقافة؛ مِن أجلِ تحديدِ موعد لمُقابلةِ أحد راقصي الفرقة؛ لأنهم في النِهاية مُوظفين تَابعين للدَولة.

خَرَجْنا مِن وَكالة السُّلطان الغُوري، وسَعادتي غَامرة رُغم بَعضِ المُنغِصات، فرِهاني على سَعادةِ أصدقائي الأجانب بالعرض، كَانَ كفيلاً بالقضاءِ على أي شيء سَلبي ينأي الكثيرون عَن ذِكره حِفاظًا عَلى سُمعة مِصر ومَكانتِها!


*صحفيّ مصريّ