رياض مصاروة؛ سيرة مسرح

الرّاحل رياض مصاروة (1948 - 2016)

 

يوم 18 حزيران (يونيو) 2016، وعن عمر يناهز الثّامنة والسّتين، رحل عنّا المخرج المسرحيّ الفلسطينيّ والكاتب والمترجم والمعدّ رياض مصاروة، أبو عديّ.

في مقالتي هذه، لن أتطرّق لسيرة أخي وزميلي ورفيق دربي رياض مصاروة الذّاتيّة، بل لسيرته المسرحيّة الفنّيّة.

انفتاح ثقافيّ

بعد طرده لأسباب سياسيّة من معهد 'بيت تسفي' للتّمثيل في تل أبيب، سافر إلى ألمانيا الشّرقيّة بمنحة من الحزب الشّيوعيّ لدراسة المسرح في جامعة لايبزغ، حيث حصل على شهادة الماجستير في الإخراج المسرحيّ وعاد عام 1977 إلى البلاد ليبدأ عمله في مدينة النّاصرة، مديرًا للمركز الثّقافيّ البلديّ.

المرحوم الأديب توفيق زيّاد، الّذي اختار رياض لإدارة المركز الثّقافيّ، آمن أنّ صقل الهويّة الفلسطينيّة لا يكون دون المسار الثّقافيّ، وعلى هذا الأساس، اختير رياض للعمل بشكل مهنيّ ومدروس لإنجاز المهمّة.

كان الاختيار الأوّل مسرحة رواية غسّان كنفاني، 'رجال في الشّمس'، وإخراج مسرحيّة 'بنادق السّيّدة كرار' لبرتولد بريخت، وكانت الانطلاقة ناجحة جدًّا، بالرّغم من الميزانيّات الشّحيحة الّتي قدّمتها البلديّة. والإنجاز الآخر كان تدريب رياض كوادر من الشّباب النّاصريّ، من هواة المسرح، ومنهم من احترفه لاحقًا، إن كان في مجال التّمثيل أو الإخراج أو الكتابة.

آمن رياض بشموليّة الفنون الّتي تتجلّى مجتمعة بالمسرح، ولهذا سعى إلى استقطاب ودعم وتنشيط الفنون التشكيليّة، التّصوير، التّمثيل، العزف، الغناء، الرّقص، الكتابة الإبداعيّة، في المركز الثّقافيّ بالنّاصرة. كما استضاف عروضًا في جميع هذه المجالات من البلاد وخارجها، بالتّعاون مع المجلس البريطانيّ، والنّادي الفرنسيّ والإسبانيّ، ومختلف السّفارات.

هذا الانفتاح الثّقافيّ الّذي شرع به رياض، سرعان ما انعكس على الجمهور النّاصريّ والمثقّفين في المجتمع العربيّ، وغدت النّاصرة منارة تضيء القرى والمدن العربيّة في فلسطين.

مسرح بريخت

اعتمد رياض في معظم أعماله أسلوب برتولد بريخت الملحميّ، المستمدّ من المسرح اليونانيّ. كان اعتماده الأساس اللّغة الشّاعريّة الرّاقيّة، والممثّل وعطاءه؛ فبعد إعداد نصوصه كان للقراءات وتحليل النّصوص والشّخصيّات الجزء الأهمّ قبل اعتلاء الرُّكَح. وكان للموسيقى والحركة والإضاءة أهمّيّة لا تقلّ من أجل تقديم العمل الأقرب إلى الكمال للجمهور؛ فَرُقِيُّ الجمهور ثقافيًّا يكتمل بتقديم الأعمال المهنيّة الّتي لا تستخف بفهمه واستيعابه. هذا ما ميّز أعمال رياض؛ فمن جهة كانت سياسيّة واجتماعيّة ناقدة لاذعة، ومن جهة أخرى كانت تطرح الأسئلة حول ماهيّة كوننا فلسطينيّين عانوا النّكبة والنّكسة ونير العبوديّة القمعيّة من الاستعمار والذّكوريّة والقبليّة والطّائفيّة والفئويّة.

رياض كان الولد العاقّ الّذي لم تنجح المؤسّسة الحكوميّة أو الحزبيّة، ولا حتّى الاجتماعيّة، في تدجينه؛ ففي أعماله كلّها وجّه سهام نقده اللّاذعة للحزبيّين المنتفعين، وحذر من القمع والقتل الفكريّ.

ذهب رياض ذهب في أعقاب بريخت إلى بناء مسرح أيديولوجيّ يعتمد الوضوح لا الرّمزيّة، فكانت شخوص نصصه واقعيّة أو مستمدّة من الواقع، لها مواقف حياتيّة ممّا يجري حولها، إن كان في العمل، والتّعامل مع النّاس، والعنصريّة، والفاشيّة، والتّاريخ، والحرب، والاستلاب. مسرح رياض مصاروة كمسرح بريخت، اعتمد طرح الأسئلة بهدف الوعي لا الفعل، فهو مسرح التّساؤل لا الحلّ. نلاحظ في جميع أعماله أنّه يدعونا لنبحث عن المخرج، من خلال وعي الممثّل ووعي الجهور. فالرّموز المادّيّة في أعماله هي الطّريق للوعي، مبتعدة كلّ الابتعاد عن المواعظ والشّعارات الطّنّانة.

من قلب الأزمات

إنّ الوعي الشّمولي عند رياض مصاروة ودراسته وتمكّنه من الدّيالكتيك الماركسيّ ومسرح بريخت، وغيره ممّن سبقوه وممّن أتوا بعده، جعله يبحث عن طريقه المسرحيّة والفكريّة الخاصّة، فالأزمات الفكريّة هي الطّريق المؤدّي للاستقلال الفكريّ والتّحرّر. من حياة القمع الدّينيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، وأزمات الفكر، استمدّ رياض نصوصه المسرحيّة، اعتمد الواقع وتفصيلاته، ثمّ أعاد صياغة تلك التّفصيلات بلغة ملحميّة فيها الشّعر وفيها النّثر، واستند على حقائق واضحة مَسْرَحَها لتصبح إنسانيّة شموليّة، تحاكي شعوب العالم في كلّ مكان وزمان.

بسبب النّقص في المخرجين والكتّاب المسرحيّين، اعتاد رياض إعداد أو كتابة وإخراج أعماله المسرحيّة، وبسبب انشغاله في إدارة المركز الثّقافي في النّاصرة من جهة، وشحّ الميزانيّات من جهة أخرى، كان مُقِلًّا في إنتاج الأعمال المسرحيّة.

من أعماله المسرحيّة الّتي كتبتها أو أعدّها وأخرجها: رجال في الشّمس، الموجة التّاسعة، الطّفل الضّالّ (الضّائع)، أفعى الحبّ، سرحان والسّنيورة، محطّة اسمها بيروت، جيفارا (دولة الشّمس)، العاجزون، راشيل كوري. كما أخرج بعض الأعمال المسرحيّة، منها: بنادق السّيّدة كرار، رعب الرّايخ الثّالث، العكش، مقهى يعقوب، طائر السّماء، البيت القديم، العنب الحامض.

بالإضافة للأعمال المسرحيّة، كتب رياض روايات كان آخرها ملهاة الألم، وكابوس الأرض اليباب. كتب القصص القصيرة والمقالات النّقديّة، وترجم نصوصًا مسرحيّة لبريخت وغيره إلى العربيّة، ودرّس المسرح في عدّة معاهد تمثيل.

نهوض

عمل رياض جاهدًا ليعزّز ما آمن به الجيل الّذي قاد النّهضة الثّقافيّة في سنوات السّبعين والثّمانين، وهو كان واحدًا منهم: الهويّة الفلسطينيّة. فلا يمكن مسح هويّة شعب له ثقافة ديناميّة تتأثّر بباقي الثّقافات وتؤثّر فيها، والمشروع الثّقافي الفلسطينيّ الّذي طُعِنَ في الصّميم بتدمير الحضارة المدنيّة في النّكبة، يجب العمل على تضميد جراحه والنّهوض به بعد جمود وانقطاع الحالة الثّقافيّة بسبب تشريد المثقّفين والفنّانين النّاشطين عام 1948.

إنّ اختيار رياض ليكون 'شخصيّة العام الثّقافيّة لعام 2015'، من قبل وزارة الثّقافة الفلسطينيّة، لمناسبة يوم الثّقافة الوطنيّة الفلسطينيّة، جاء وبحقّ ليكرّم قامة عظيمة وعامودًا من أعمدة المسرح الفلسطينيّ.

رياض مصاروة، كسائر المسرحيّين في فلسطين، لم تُفْرَشْ طريقهم بالورود. رياض ابن الطّيّبة نجح رغم كلّ الصّعوبات والتّحدّيات بتنشيط الحركة المسرحيّة والثّقافيّة في النّاصرة، وكان لنجاحه الأثر الكبير على النّهضة المسرحيّة والثّقافيّة في أراضي 48، بالرّغم من أنّ رياض قد أعاد الفضل في نجاحه 'للجمهور الّذي كان مسيّسًا ومثقّفًا'.

مقابل النّجاحات، كانت لرياض إخفاقات عديدة، لكنّها لم تقف حجر عثرة أمام استمراره في النّهوض من كبوة جواده. فمن النّاصرة إلى يافا وحيفا والمغار وعكّا والقدس ورام الله وغيرها، مارس الفنّ بنهم وعزيمة، متّخذًا العمل الجماعيّ له أسلوبًا وشعارًا، والمسرح الملحميّ طريقًا، وحقّق إنجازات عديدة تسجّل له بامتياز.

ذكراه ستبقى طيّبة، وصيغة الغائب الّتي كتبت بها عنه لن تغيّب وجده من الحياة، ولا من المسرح. رياض باق فينا إلى الأبد.