رجال في الشمس؛ إيحاء يُجَسِّد الرواية

رجال في الشمس | مسرح المدينة

 

ليس من السهل تحويل الخشبة إلى مقهًى دون استخدام أثاث أو قطع ديكور تدلّ على ذلك، كما أنّه ليس من السهل تحويل ذات الخشبة التي كانت مقهًى قبل ثوانٍ إلى كرم زيتون يتجمّع فيه أهل القرية حول شجرة كبيرة يجنون ثمارها، ثمّ أن يتحوّل الأخير إلى سهل يُزرع قمحًا؛ حتّى المطر، ليس من السهل أن يتساقط بصمت وفرح دون أن يزعج ذات الخشبة السوداء بصوت البرق والريح.

لكنّ ذلك قد حصل فعلًا على خشبة "المسرح الوطنّي الفلسطينيّ - الحكواتي"، في القدس، عندما استضاف فرقة "مسرح المدينة" القادمة من مدينة شفاعمرو في أراضي 48، لعرض مسرحيّتهم، "رجال في الشمس"، المقتبسة عن رواية الكاتب الفلسطينيّ، الشهيد غسّان كنفاني، بنفس الاسم، والمطبوعة أوّل مرّة عام 1963.

 

صمت

سيشاهد الجمهور كيف يمكن لواحدة من أوائل الروايات الفنّيّة الفلسطينيّة، والمحفورة بشخصيّاتها في ذاكرته الثقافيّة النضاليّة، أن تُترجم إلى عمل تمثيليّ، فيقف على تفاصيل تخرج من خياله إلى التجسيد الحقيقيّ؛ فرواية "رجال في الشمس" يقرؤها المقدسيّون منذ صغرهم، إذ تُعَدّ جزءًا من مادّة اللغة العربيّة في المنهاج الفلسطينيّ الذي يُدَرّس في مدارسهم.

لم يأسرنا الديكور الذي توسّط خشبة المسرح، فلم يكن أكثر من ستارة بيضاء مقوّسة على شكل نصف دائرة، تخترقها أضواء برتقاليّة أوحت لنا بأنّها الشمس.

 

 

لم ننتظر طويلًا حتّى خرج علينا ستّة ممثّلين، ولم نستغرق وقتًا كثيرًا ليسحرنا أداؤهم الإيحائيّ الصامت، فالمسرحيّة عُرِضَت بأسلوب البانتومايم، فبدا كلّ واحد منّا معزلًا عمّن حوله، إذ تشعر أنّ المسرحيّة تُعْرَضُ لك وحدك لإتقان الممثّلين أداءهم وصدقه، وقد أخذونا إلى قريتهم الفلسطينيّة، نفلح معهم سهل القمح، ونقطف الزيتون، ونلهو بسعادة تحت قطرات المطر.

تقول إحدى الحضور، إيناس أبو ارميلة، لفُسْحَة: " أداء الممثّلين كان رائعًا جدًّا، إيحاؤهم جعلني أشعر بالمطر الذي تساقط فوق رؤوسهم، حتّى أنّني مددت يدي لألتقط المنجل الذي رماه أبو قيس لأحد الممثّلين حينما حان موعد حصاد القمح، على الرغم من أنّ المنجل لم يكن في يده أبدًا، لكنّه استطاع أن يوهمني بذلك، وهو ما يميّز هذه المسرحيّة."

 

في الخزّان

تحكي المسرحيّة حكاية الفلسطينيّين في النكبة، كيف عاشوا قبلها وبعدها؛ إذ روت التهجير وتشتّت أفراد العائلة الواحدة داخل الوطن وخارجه، كما تناولت حياة الفلسطينيّين في المخيّم وقساوة العيش فيه، لتصل بنا بعد إلى اختيار ثلاثة فلسطينيّين؛ وهم أبو قيس، رجل كبير في العمر، ومروان، شابّ في مقتبل العمر، وأسعد، شابّ مقبل على الزواج، الذي اختاروا، سواء بدافع شخصيّ أو بضغط من العائلة، السفر من العراق للعمل في الكويت، بلاد النفط والمال، لإعالة عائلاتهم وتحقيق أحلامهم.

يبحث الثلاثة عن طريقة للخروج من العراق إلى الكويت، دون الحاجة إلى تقديم أوراق ثبوتيّة أو تأشيرة، كونهم لا يملكون أوراقًا كهذه، وقد تسلّلوا في السابق من الأردنّ إلى العراق تهريبًا، ولم يكونوا لاجئين نظاميّين، وعرفوا جشع المهرّبين واستغلالهم للباحثين عن لقمة عيشهم وحياتهم الكريمة.

 

 

تنتهي المسرحيّة عندما يصرخ أبو الخيزران، وهو سائق الشاحنة التي تحمل خزّانًا كان سيهرّب الرفاق الثلاثة قائلًا: "لماذا لم تقرعوا جدار الخزّان؟ اقرعوا جدار الخزّان." لكنّ أبا الخيزران وجدهم ميّتين داخل خزّان المياه الفارغ، الذي خبّأهم فيه ريثما يوقّع أوراق دخول الكويت، إذ أنّ الجوّ كان شديد الحرارة ولم يتحمّل الرفاق الثلاثة ارتفاع حرارة الحديد.

حياة

لا ينتهي العرض هنا، إذ يقوم الرفاق الثلاثة من موتهم ليبحثوا عن مخرج من الخزّان، وهذا تحوير مقصود لنهاية رواية غسّان كنفاني، يبرّره مخرج المسرحيّة، سعيد سلامة، والذي يؤدّي دور أبو قيس في المسرحيّة، قائلًا لفُسْحَة إنّه أراد من خلال إعادة إحياء الرفاق الثلاثة إرسال رسالة للعالم أجمع، بأنّ الشعب الفلسطينيّ مثل طائر الفينيق، يخرج من الرماد، ولا يمكن أن يموت وتضيع قضيّته، فهو باق ومتجذّر في الأرض، ومستمرّ في نضاله.

استغرق إعداد نصّ رواية غسّان كنفاني وتحويله إلى مسرحيّة، ما يقارب الشهرين، كما يقول سلامة، مضيفًا أنّ التدريبات كذلك استغرقت شهرين، ومنذ عام ونصف العام يجوب العمل المسارح الفلسطينيّة المختلفة، وكذلك العالميّة، حيث عرضة فرقة "مسرح المدينة" هذا العمل في النرويج، وثمّة دعوات ستلبّيها للعرض في كلّ من بولندا وفرنسا قريبًا.

المسرحيّة في غالبيّتها صامتة، لا تعبّر باللغة المنطوقة، بل بالإيحاء الجسديّ، وقد اختار معدّ ومخرج العمل، سلامة، أن يدخل بعض الجمل، مبرّرًا ذلك بأنّه أراد الحفاظ على ملامح أساسيّة تُحيل إلى رواية غسّان كنفاني، لذا توجّب عليه الإشارة إلى أسماء الأبطال والأماكن التي تجري فيها الأحداث.

 

 

اقرعوا الخزّان

وعند سؤال سلامة عن تحويره للجملة الأخيرة في رواية غسّان كنفاني، التي صرخها أبو الخيزران، "لماذا لم تدقّوا جدار الخزّان؟" محوّلًا إيّاها من صيغة السؤال إلى الأمر، لتكون في المسرحيّة "دقّوا جدار الخزّان،" قال: "رسالتنا من ذلك أن نقول للشعب الفلسطينيّ أنّ عليه الاستمرار في الحياة، فقرع جدار الخزّان يكون بطرق شتّى، منها التشبّث بالأرض وزراعة الزيتون وبناء الأسرة والتعلّم والتعليم والفنّ، وغيرها الكثير."

مسرحيّة "رجال في الشمس" من تمثيل حسن طه، رشا جهشان، فداء زيدان، نعمة حازم، نضال الحاجّ؛ ضبط الحركة على المسرح باسكال كوبا؛ والموسيقى لأكرم حداد؛ وساعدت في الإخراج إلهام عرّاف؛ وصمّمت الإضاءة نعمة زاكنون.

تقدّم فرقة "مسرح المدينة" عروضًا مسرحيّة أخرى؛ كمسرحيّة "اثنين في تل أبيب"، والتي تحكي واقع العمّال العرب في تل أبيب من حيث الحياة والاستغلال بصورة كوميديّة، وكذلك حوّل المخرج والممثّل سعيد سلامة رواية "بائعة الكبريت" إلى مسرحيّة تحكي لجوء الشعب السوريّ في أوروبا، وقد عُرِضَت مرّتين، وستجوب مختلف المسارح الفلسطينيّة قريبًا.