كليلة ودمنة: الانتصار للحرّيّة والعدالة أوبراليًّا

الفنّانان محمّد الجبالي وريم تلحمي

ثقافات متعدّدة جغرافيًّا وزمانيًّا امتزجت في عمل واحد، أوبرا 'كليلة ودمنة'، لصاحبها، الموسيقار الفلسطينيّ، منعم عدوان، والّذي اختتم الأسبوع الماضي سلسلة عروض افتتاحيّة له في مهرجان 'إكس أون بروفانس' للأوبرا والموسيقى، في الجنوب الفرنسيّ، وسط إقبال كبير وحفاوة إعلاميّة.

فالنّصّ الأصليّ باللّغة السّنسكريتيّة، كتبه الفيلسوف الهنديّ بيدبا في القرن الرّابع الميلاديّ، بعنوان 'الفصول الخمسة'، ثمّ أمر كسرى الأوّل بنقله إلى الفهلويّة في القرن السّادس الميلاديّ، لينقله إلى العربيّة بتصرّف بعدها، الكاتب عبد الله بن المقفّع في القرن الثّامن الميلاديّ، بعنوان 'كليلة ودمنة'.

شخصيّات الكتاب السّرديّ من الحيوانات والطّيور، ترمز إلى شخصيّات إنسانيّة إذ أراد بيدبا إيصال رسائل سياسيّة وقيميّة للطّبقة الحاكمة دون أن يتعرّض إلى أيّ مساءلة، كما تروي مصادر عديدة.

أمّا الشّاعر السّوريّ فادي جومر، فقد اختار أن يكتب نصّه الغنائيّ الجديد بالمحكيّة السّوريّة، وأن يؤنسن الشّخصيّات. وقد أطّر النّصوص العربيّة كلام الرّاوي للأحداث (كليلة) بالفرنسيّة، والّذي كتبته كاثرين فريلاج، بالإضافة إلى أغنية واحدة بالفرنسيّة.

عابر للثّقافات

جمعت موسيقى العمل الّتي وضع ألحانها منعم عدوان (فلسطين)، وقادها ووزّعها زياد الزّواري (تونس)، نكهات وإيقاعات وتقنّيات من ثقافات متعدّدة، أدّتها في نظم جميل آلات القانون (صامد سيليكال، تركيا)، والكمان (زياد الزّواري، تونس)، والكلارنيت (صلاح الدّين كباشي، تركيا)، والإيقاعات (وسيم حلّال، فلسطين)، والتّشيلّلو (ياسر بوسلام، تونس).

الفنّانان منعم عدوان ورنين الشّعّار

كما أدّت أدوار العمل مجموعة فنّانين عرب من بلاد الشّام والمغرب العربيّ، هم: اللّبنانيّان رنين الشّعّار (كليلة) وجان شهيد (شتربا الشّاعر)، والفلسطينيّان منعم عدوان (دمنة) وريم تلحمي (الملكة الأمّ)، والتّونسيّ محمّد الجبالي (الملك)، وقد منح تفاوت طبقات ومساحات أصواتهم النّصّ المغنّى تنوّعًا وغنًى كبيرين.

وقد أخرج العمل الفرنسيّ أوليفييه لاتيلييه، وأنتجه مهرجان 'إكس أون بروفانس'.

جذور العمل السّنسكريتيّة، فصحاه الأولى، محكيّته السّوريّة الملتقية مع فرنسيّة شخصيّة كليلة، تنوّع جنسيّات طاقمه، تعدّد نكهاته وتقنّياته وآلاته الموسيقيّة، حضاريًّا، وإخراجه وإنتاجه الفرنسيّان؛ كلّ ذلك يجعله عملًا عالميًّا وعابرًا للثّقافات، ولعلّ هذا أهمّ ما يميّز العمل ويمنحه خصوصيّته.

حاورت فُسْحة – ثقافيّة فلسطينيّة ثلاثة من طاقم عمل 'كليلة ودمنة' الأوبراليّ، مسلّطة الضّوء على أهمّ خصائص العمل الفنّيّة ومضامينه؛ الشّاعر السّوريّ فادي جومر، كاتب العمل، والفنّانة الفلسطينيّة ريم تلحمي، مؤدّية شخصيّة الملكة الأمّ، والفنّانة اللّبنانيّة رنين الشّعّار، مؤدّية شخصيّة كليلة، وهي الّتي تروي الأحداث.

الشّاعر فادي جومر

صراعاتنا لم تتغيّر

حول استناده إلى نصّ تراثيّ لإنتاج عمل يُقدّم للجمهور عام 2016، قال الشّاعر فادي جومر (سوريا): 'ترتكز حكايا ’كليلة ودمنة‘ في عمقها على طبيعة العلاقات النّفسيّة بين البشر، وهذه طبيعة فطريّة راسخة. قد تتغيّر دوافعها ظاهريًّا، لكنّها في العمق، ما زالت راسخة؛ فالصّراع على زعامة قطيع ’في بدايات التّجمّع البشريّ‘ هو ذاته حرب الأحزاب من أجل السّلطة، واختلاف أدوات الصّراع لم يغيّر من طبيعته. تظهر براعة الكاتب الأصليّ، الفيلسوف الهنديّ بيديا، في رواية القصص على ألسنة الحيوانات وأنسنتها، لتمرير الرّسائل إلى ملكه دبشليم، وإن كان المغزى بشريًّا.'

وأضاف جومر: 'لم يُقصد بالارتكاز على التّراث، في هذا العمل، تجديده أو إعادة إحيائه، بل التّركيز على مأساتنا نحن المشرقيّين بخاصّة، وبشرًا بعامّة، بأنّنا ما زلنا نعيش ضمن ذات الصّراعات وبذات الوحشيّة. إعدام معارض بالرّصاص ليس أكثر تحضّرًا من إعدامه بالسّيف. الغزو والاستباحة على ظهور الخيل وإحراق خيم الآمنين، ليس أكثر همجيّة من قصف المدن بالطّائرات. لعلّ أهمّ رسالة يوجّهها اختيار نصّ عمره أكثر من ألفي عام، هي أنّنا لم نتغيّر للأسف.

عن  الأنسنة

وحول قرار جومر كتابة العمل بالمحكيّة لا الفصحى، قال: 'التّوجّه للمحكيّة بعامّة له غايتان؛ أن يقترب العمل من الواقع، وإظهار أنّ ما يحدث على الخشبة يحدث الآن وفي الكثير من البلاد النّاطقة بالعربيّة، إن لم نقل فيها جميعًا. إذ أنّ ’زعماء‘ هذه البلاد، وحاشيتهم، بالكاد يتقنون قراءة الفصحى، فما بالك بالتّحدّث بها في دهاليز قصورهم، لذا فضّلت أن يكون العمل أقرب لروح النّاس ولغتهم المعيشة. أمّا التّوجّه للمحكيّة السّوريّة، فهو لأنّني سوريّ ببساطة، إضافة إلى أنّها باتت لغة مفهومة في الشّرق بعامّة، لعدّة عوامل، منها انتشار الأغنية والدّراما.'

شاهد: أوبرا 'كليلة ودمنة' من مهرجان 'إكس' الفرنسيّ

سألنا جومر أيضًا عن أنسنة شخصيّات النّصّ الأصليّة، وعن أهمّ التّحويرات الّتي طرأت على الشّخصيّات والبيئة السّرديّة للعمل. قال: 'اخترتُ الأنسنة لتكون الرّسالة واضحة مباشرة لا تحتمل التّأويل، ولأنّني لستُ مضطّرًا للتّرميز مثل الفيلسوف بيدبا، ولأنّ الحيوانات أكثر إنسانيّة، إن صحّ التّعبير، من البشر؛ فالمجتمعات البشريّة ما تزال أكثر وحشيّة من القطعان البرّيّة، والعلاقات الّتي تحكمها تفتقر إلى أبسط معايير العدل والتّوازن الموجودة في شريعة الغاب. الحيوان لا يقتل إلّا ليأكل، ولا يأكل إلّا حاجته، لا يغتصب ولا يعذّب ولا يتفنّن في التّدمير، لا يخرّب البيئة على أقلّ تقدير.'

قال جومر حول التّحويرات على النّصّ الأصليّ: 'حاولت ما أمكن أن أكون أمينًا للنّصّ الأصليّ في الحبكة القصصيّة، أو لفهمي لهذه الحبكة بشكل أدقّ، وركّزت على القصّة الرّئيسيّة ’قصّة الأسد والثّور‘ ولم آخذ إلّا قصّة فرعيّة واحدة من القصص الواردة فيها، وهي قصّة الجمل والذّئب والغراب والأسد.'

الفنّانة ريم تلحمي

حاكم ومحكوم

سألنا الفّنانة ريم تلحمي (فلسطين) عن دور الملكة الأمّ الّذي أدّته في العمل، ما سماته وما القيم الّتي يمثّلها في الحياة، فقالت: 'هي أمّ وملكة في الوقت نفسه، أمّ تخاف على ابنها، لكنّها في الوقت نفسه تمثّل السّلطة الّتي يريد أصحابها الحفاظ عليها. ربّت ابنها على أين يكون أسيرًا وتابعًا لها، وهي تحرص دائمًا على أن يكون بعيدًا عن الشّعب والتّأثّر بطموحاته وأحلامه؛ فالحاكم لا صديق له سوى العرش والتّاج وفقها، ولا بدّ له أن يكون دائمًا قويًّا وبعيدًا عن العاطفة ليتمكّن من جمع الشّعب حوله، لذا لا وقت لإنشاء صداقات مع النّاس، لا سيّما أنّ العالم المحيط به مليء بالمؤامرات. عكس هذه الرّوح غير الإيجابيّة صوت ضخم وغامق ومنخفض، وهامس أحيانًا، يبثّ شرًّا هنا وهناك.'

وتضيف تلحمي حول شخصيّة الملكة الأمّ: 'تتصارع الملكة الأمّ مع شتربا، الشّاعر المحبوب بين النّاس، والّذي يعكس طموحاتهم وأحلامهم وآمالهم، ويمثّل مفهوم الأمل والحياة والثّورة، لهذا تتآمر عليه مع دمنة بعد أن يؤثّر على ابنها الملك ويدفعه إلى الخروج من قصره لأوّل مرّة ليختلط بالنّاس وخلع الثّوب الّذي ألبسته له، فيقتله دمنة. عندما يثور النّاس بسبب مقتله، تتصرّف بدهاء وخبث، تعتقل دمنة، وتحوّل إحدى قصائد شتربا لنشيد وطنيّ، فتمتصّ الغضب.'

وتقول أيضًا: 'لم يكن من السّهل عليّ أبدًا التّعامل مع هذه الشّخصيّة، وخضت صراعًا معها نحو إتقان أدائها، فأنا لم أكن أرغب بأن أكون شريرة، لكن كان لا بدّ من ذلك. هذه الشّخصيّة مثيرة للاهتمام، ولإتقانها كان عليّ أن أذهب بها إلى حدّ متطرّف من الشّرّ.'

غنًى موسيقيّ

وفي حديث مع تلحمي عن موسيقيّة العمل، ما الذّي تضيفه وما أهمّ سماتها، فقالت: 'الأعمال الأوبراليّة باللّغة العربيّة نادرة جدًّا في العالم العربيّ، وما هو موجود أكثر الأوبيرات، وهذا بحدّ ذاته إضافة مهمّة لإنتاجنا الموسيقيّ العربيّ. رغم أنّ الأوبيرا شكل فنّيّ غربيّ، إلّا أنّ منعم عدوان قدّم كليلة ودمنة بقوالب موسيقيّة شرقيّة منحتها خصوصيّة واختلافًا عمّا يعرفه الجمهور الفرنسيّ بخاصّة، والغربيّ بعامّة.'

وأضافت تلحمي: 'لقد منحنا كلّ من منعم عدوان في ألحانه، وتوزيع زياد الزّويري، حرّيّة كبيرة في الغناء، ومساحة رحبة لأصواتنا في تعاملها مع النّصوص، وهذه مسألة كانت من أولى استفساراتي عن العمل قبل الانضمام إليه. بل إنّ كلًّا منعم وزياد قد أخذانا إلى أماكن مثيرة من المغامرة اللّحنيّة والتّجريب، لم أتوقّعها، وسمح لأصواتنا أن تكتشف نفسها أكثر.'

وأخبرتنا تلحمي أنّ 'تنوّع الآلات ما بين الشّرقيّة والغربيّة، واختلاف المناطق الّتي ينتمي إليها العزفة ومدارسهم الموسيقيّة وأساليبهم، بالإضافة إلى تعدّد جنسيّات الفنّانين العرب الّذين يغنّون المحكيّة السّوريّة بمخارج حروف ولكنات مختلفة، جعل موسيقيّة العمل متنوّعة وغنيّة، بالإضافة إلى أنّ منعم عدوان قد أدخل إلى العمل نكهات موسيقيّة من عدّة حضارات، مثل الآسيويّة والجنوب أمريكيّة والأفريقيّة والعربيّة والتّركيّة، وهو ما أضفى على العمل خصوصيّة موسيقيّة لافتة.'

الفنّانة رنين الشّعّار

خير وشرّ

تقول الفنّانة رنين الشّعّار (لبنان) حول الدّور الّذي أدّته في العمل، إنّها ولأوّل مرّة تؤدّي 'دورًا تمثيليًّا غنائيًّا بالفرنسيّة، وهو ما كان يستحقّ المغامرة، وكانت مغامرة جميلة فعلًا. لقد كنت الخيط النّاظم لمشاهد العمل الـ 24، ولم أغب سوى عن مشهدين منها، فقد أدّيت دور الرّاوي للأحداث من خلال شخصيّة كليلة.'

وأضافت: 'كليلة أخت دمنة التّوأم، وهما رمزيًّا يمثّلان شخصيّة إنسانيّة واحدة بجانبي الشّر والخير فيها، فدمنة يمثّل ما في الإنسان من شرّ وأذًى ووصوليّة على حساب الآخرين، أمّ كليلة فتمثّل الخير والمحبّة والسّلام. بينما يتآمر دمنة مع الملكة الأمّ ليتخلّص من الشّاعر شتربا، رمز الحرّيّة والعدالة، فإنّ كليلة تسعى إلى منعه من ذلك، لكنّ نزعة الشّرّ تغلب، ويقتل دمنة شتربا، فتكون ذروة الغضب بعد ذلك عندما تلتقي دمنة في سجنه وتغنّي أغنية المواجهة معه، وهي الأغنية الوحيدة بالفرنسيّة في العمل'. شخصيّة كليلة، وفق رنين، مركّبة الأداء، 'فهي الرّاوي الّذي لا يملك القدرة على الفعل والتّأثير في سير الأحداث، وإن كان يراقبها ويعرف تفاصيلها، لكنّها في بعض المشاهد شخصيّة مشاركة وتحاول التّأثير والتّغيير.'

قيم كونيّة

وحول أهمّيّة مشاركة العمل في مهرجان 'إكس' بفرنسا، قالت رنين: 'مهرجان ’إكس‘ الغنائيّ من أهمّ المهرجانات الفرنسيّة، وهو متخصّص في الغناء الأوبراليّ، وأن يشارك عمل من إبداع عربيّ وباللّغة العربيّة لأوّل مرّة فيه، فهذا يُعَدّ أمرًا في غاية الأهمّيّة. نحن نحضر هنا بحضارتنا وقيمنا لنخاطب الجمهور الفرنسيّ من خلال إبداعنا، بدعم كامل للعمل وصاحبه، الفنّان منعم عدوان، من المهرجان. الإقبال الكبير من الجمهور الفرنسيّ على العمل، وإصرارهم على الاستماع للأغاني دون ترجمة، والاحتفاء الّذي لقيه من وسائل الإعلام المختلفة، أمور تدلّل على أنّنا تمكّنّا من إيصال رسالتنا الفنّيّة بشكل يلبّي ذائقة الجمهور المعتاد على أعمال أوبراليّة ضخمة مثل باخ وموتسرات، وهذا يفرح ويرضي. التّوق إلى الحرّيّة ورفض الظّلم والاستبداد، والتّمسّك بالمحبّة والأمل، هي القيم الّتي يدافع عنها العمل، وهذه قيم كونيّة، نأمل أن تسود وطننا العربيّ والعالم.'

اختتمت رنين كلامها باقتباس كلمات إحدى أغاني العمل، والّتي تفتتحه بها: 'لو تقتل الشّاعر بتعيش بعده ألف غنّيّة/ لو تحرق الكرم بينبت زهر يعبّي البرّيّة/ لو تسرق عيون الحكي/ عيون الحكي/ تبقى الأغاني بكلّ سهريّة.'