نجاة وماجدة: فاتحة أنيقة للأغنية العربيّة عام 2017

نجاة الصغيرة وماجدة الرومي

في أسبوع واحد، مطلع عام 2017، تلقّى المستمع العربيّ هديّتين وازنتين، اشتغل عليهما مجموعة من العمالقة، وجسّدهما صوتان ملاكان، نجاة الصغيرة وماجدة الرومي.

عودة في زمن الانحدار

فقد فجّرت الفنّانة الكبيرة نجاة الصغيرة، مفاجأة من العيار الثقيل، إذ طرحت أغنيتها الجديدة 'كلّ الكلام اتقال'، بعد غياب دام قرابة الـ 15 عامًا. الأغنية من كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، وألحان الموسيقار السعوديّ طلال، وتوزيع يحيى الموجي، وقد غطّى المخرج هاني لاشين الأغنية بمشاهد من أعمالها السابقة.

يمكن تسجيل ملاحظات أوّليّة حول الأغنية، تبدو في مجملها إيجابيّة، لا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار صعوبة عودة العمالقة في زمن انحدار الذائقة، وإذا ما قورن العمل والعودة، في مجملها، بعودة عمالقة آخرين من قبل، فمثلًا، حين عادت الفنّانة الكبيرة وردة الجزائريّة، اختارت أن تعود بأغان تنسجم مع 'الذوق الشبابيّ'، ما وضعها بين سندان عزوف الشباب عن أعمالها الجديدة بوصفها لا تمثّل جيلهم، ومطرقة الجيل السابق الذي لام عليها ما أسماه 'انحدارًا'.

نجاة الصغيرة اختارت ألّا تجازف، أو على الأقلّ، أن تجازف بقدر معقول ومقبول، فعادت بأغنية من ثوب أعمالها السابقة؛ عمل رصين من حيث الكلمة واللحن، وقفت فيه في منطقة حسّاسة وذكيّة، كأنّها تقول لجمهورها: عدت من أجلكم، وليس لأعيد مجدًا مضى.

إخفاق التوزيع

مدّة الأغنية 8 دقائق و15 ثانية، امتاز لحنها بالأصالة والتطريب، والانحياز إلى مزاج جيل 'السمّيعة' إن جاز التعبير، وكان من الحكمة اختيار نصّ من كلمات الشاعر الكبير الأبنودي، الذي كتب لها أغنيتها الشهيّة والشهيرة 'عيون القلب'، بعد أن سطّر عددًا من أغاني الزمن الجميل، والتي غنّاها عبد الحليم حافظ، ومحمّد رشدي، وفايزة أحمد، وشادية، وصباح، ووردة الجزائريّة، ومحمّد قنديل. خيار كهذا سيساعد المستمع على استعادة الماضي الحسّيّ، بمعنى آخر، سيحيله إلى القيم العاطفيّة التي تفتقر إليها الأغاني الحديثة. إلّا أنّ الموزّع الموسيقيّ، في تقديري، أخفق إخفاقًا كبيرًا في تصوير اللحن، إذ اختار كاميرا قديمة، أخرجت الصورة مليئة بالنمش.

لم أستطع التيقّن إن كان يحيى الموجي، الذي سبق له أن وزّع موسيقى كمال الطويل، كما يُعَدّ عازف الكمان الأوّل في فرقة عمرو دياب، قصد أن يشتغل وفق قواعد الـ Old Style، أم أنّه فشل في التوزيع فخرج اللحن على هذا النحو، دون أيّ مبرّرات، إلّا أّنني متأكّد أنّ التوزيع عمل على إيذاء اللحن، فبدا صوت الفنّانة ضعيفًا بالمعنى التقنّيّ، ومشوّشًا، إلى درجة أنّ بعض الكلمات احتاج إلى التركيز العالي لاكتشافه، كما بدت بعض الفراغات في المقدّمة، أو ما يمكن وصفه بالاستسهال.

لم تعد الأغاني في حاجة إلى الكليب رافعةً إعلاميّةً لها، في زمن بدأ الناس فيه بالتخلّي عن التلفاز لصالح الإنترنت، فما كان عليهم سوى وضع صورة مناسبة على يوتيوب لتدار الأغنية في خلفيّتها، فقد جاء كليب هاني لاشين ضعيفًا، ومكشوفًا، وعاد بالأغنية إلى زمن الكليبات البائسة، ونحن في عصر الـ HD.

طلال

يمكن وصف الملحّن السعوديّ طلال، بأنّه لغز الفنّ العربيّ الحديث، فبدءًا من تعاونه مع طلال مدّاح، مرورًا بحشد من الأسماء اللامعة، مثل عبد الكريم عبد القادر، ومحمّد عبده، وصابر الرباعي، وهاني شاكر، وكاظم الساهر، وغيرهم كثيرين، حتّى تعاونه الأخير مع الشاب خالد، وبالتزامن مع إطلاق أغنية 'كلّ الكلام اتقال'، استطاع أن يمنح كلًّا لونه على اختلاف مدارسهم، دون أن يتنازل عن بصمته الخاصّة كلّ مرّة.

وعلى الرغم من ذلك كلّه، ما زال طلال يواصل احتجابه التامّ عن كلّ وسائل الإعلام، حتّى في لحظات تكريمه من مهرجانات عربيّة؛ ففي مهرجان جرش 2016، استلم جائزته كاظم الساهر، وفي دار الأوبرا المصريّة استلمها مدير أعماله، وفي مهرجان ثالث استلمها عبّادي الجوهر، حتّى تكهّن بعض المتابعين أنّه الأمير خالد بن فهد بن عبد العزيز.

المهمّ أنّ طلال استطاع صناعة لحن على مقاس صوت نجاة الصغيرة وحسّها؛ تمكّن من استحضار تاريخها الحسّيّ وصوغه في قالب فخم ورصين، دون التعرّض لإمكانيّات صوت في الـ 79 من العمر. اشتغل على التطريب، والتلقائيّة، والمزاوجة الناجحة مع الكلمة، في آن، وخاض مغامرة الدقائق الثماني في زمن الدقائق الثلاث.

'كلّ الكلام اتقال'، عودة ميمونة لـ 'صوت الحبّ'، أغنية من ذلك النوع الذي يستطيع أن يحفر داخلك، وبسهولة يمكنه أن يغيّر مفاهيم عاطفيّة لديك. أغنية تحبّها بنعومتها وبرأسها المدبّب، وفأل الجملة الأولى المخيف؛ فنحن نريد أن تقول نجاة أكثر وأكثر وأكثر!

أناقة ماجدة

أمّا ماجدة الرومي، فقد طرحت أغنيتها في الأسبوع نفسه، على نحو مختلف. 'لا تسأل'، من كلمات الشاعرة سعاد الصباح، وألحان مروان خوري، وتوزيع ميشال فاضل؛ 4 دقائق و37 ثانية، أنيقة بما يكفي للاحتفاء بصوت لا ينضب، ولا يتعب، إنّما يمنح الحبّ والأمل دون توقّف. كلمات القصيدة مفعمة بالفرح والولاء التامّ للحبيب، وهي إحدى سمات شعر الصباح.

نستطيع القول إنّ العمل ينتمي إلى ألبومي ماجدة الأخيرين، 'اعتزلت الغرام' و'غزل'، من حيث الطقس اللحنيّ والأداء الحسّيّ، حيث التوجّه الجديد الذي لماجدة في السنوات الأخيرة، والذي من شأنه حمل الأغنية العربيّة إلى العالميّة بخفّة مدروسة.

غزارة مروان... تجديد ميشال

لا يمكن لأحد تجاهل غزارة إنتاج مروان خوري، الغزارة التي لم تؤثّر حتى الآن في جودة لحنه، وكلماته أيضًا، إلّا أنّني أجده حذرًا جدًّا في تعامله مع ماجدة، هذا الحذر اللذيذ، الذي أسفر عن أغنيات فخمة تستطيع أن تسير إلى الخلود بخطًى واثقة: 'أحبّكَ جدًّا'، 'غنّي للحبّ'، 'ما رح إزعل'، وأخيرًا 'لا تسأل'. لحن الفراشة المفترس، الذي يتسلّل إلى الدم ليخطفه نحو حقول الكلام اللذيذ، على متن مقام النهوند الملكيّ.

استطاع ميشال فاضل أن يجدّد في الأغنية العربيّة، عبر إدخال النفس الغربيّ الهادئ المطواع الذي ينصاع  للحسّ الشرقيّ. المؤلّف الموسيقيّ الشابّ، الذي انتُخِبَ ليكون عازف البيانو في حفلات فيروز الأخيرة، استطاع أخذ كاظم الساهر إلى منطقة جديدة في ألبومه الأخير، واصفًا هذه الرحلة بالتحدّي الكبير. إلّا أنّني أرى أنّ هذا التحدّي قد تكلّل بالنجاح أكثر بعد إطلاق 'لا تسأل' بفارق زمنيّ بسيط، إذ استطاع فاضل في هذا العمل إضافة ثوب الأبّهة على لحن مروان خوري الفخم.

 سنة فنّيّة يفتتحها هؤلاء العمالقة، لا بدّ أن تكون مبشّرة، في زمن تعيش فيه الأغنية العربيّة أزمة فصام مجهولة الطالع.

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، من مواليد الثمانينات، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'بائع النبيّ' عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.