أحمد دحبور: حين يكون الشاعر أغنية مقاتلة

أحمد دحبور (1946 - 2017)

يلتفت أحمد دحبور لواجهة سيّارة أجرة في تونس ويبتسم، فقد حملت لصيقة ملوّنة، عليها بيتان من أغنية 'شوارع المخيّم':

لا تلبس السواد أمّ المكارم

فموته ميلاد والفجر قادم

يقول دحبور أمام هذا المشهد: 'لا أستطيع إنكار سعادتي بما قرأت، على بساطة الكلمات. فليس قليلًا أن تسمع كلماتك تتردّد بين جموع الناس من غير أن يعرفوا أنّك أنت... لكن حذار من الغرور أو الوهم، فما كان لهذا الكلام أن يشيع لولا أنّه أصبح غناءً، والفضل كلّه لفرقة العاشقين'.

تثوير الأغنية

حظي بعض الفنّانين العرب بمرافقة ثابتة ونوعيّة من بعض الأدباء البارزين، نذكر منهم مرافقة محمّد الماغوط لدريد لحام، وفي الغناء مرافقة أحمد فؤاد نجم للشيخ إمام. في المشهد الموسيقيّ الفلسطينيّ، لا سيّما الملتزم، كان الشاعر الفلسطينيّ الكبير، أحمد دحبور، ظاهرة متميّزة، إذ ساهم مساهمة مركزيّة في تثوير الأغنية الفلسطينيّة أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وقد أسهم بشكل كبير في دعم الإرث الغنائيّ الفلسطينيّ، لا سيّما الإرث الغنائيّ لـ 'فرقة العاشقين'.

حافظ دحبور على التواضع والبساطة في سلوكه الإنسانيّ، من حيث استعداده إلى بذل المجهود في التأليف الغنائيّ، في وقت ردّد الملايين كلمات قصائده. لم يتخندق دحبور في دواوينه الشعريّة، ومقابلاته الصحافيّة، وندواته الشعريّة، بل قدّم مشروعه الشعريّ الغنيّ تحت تصرّف المسار الثقافيّ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة؛ فبدأ يؤلّف الأغاني لمشاريع فنّيّة فلسطينيّة ميّزها الطابع التعبويّ - التوعويّ والمقاتل، من دون الانتقاص من ذكائها وزخمها الموسيقيّ.

اللوز الأخضر

شكّلت أغنية 'اللوز الأخضر' نقطة انطلاق مهمّة في المشروع الغنائيّ الفلسطينيّ، وشكّلت، أيضًا، نقطة انطلاق لثنائيّة فلسطينيّة ثقافيّة إبداعيّة لافتة، جمعت الراحل دحبور مع الملحّن الفلسطينيّ الكبير، حسين نازك. وُلدت الأغنية مصادفة، حين طُلب من دحبور كتابة كلمات أغانٍ لمشروع مسرحيّ فلسطينيّ تنتجة منظّمة التحرير الفلسطينيّة لمسرحيّة سميح القاسم؛ 'المؤسّسة الوطنيّة للمجانين' عام 1977. كتب دحبور الكلمات من دون أن يدرك أنّها، مع تلحين نازك، ستنتشر انتشارًا كبيرًا، يردّدها أبناء المخيّمات، والمقاتلون، والطلّاب، والملايين في الوطن العربيّ.

حفّزت 'اللوز الأخضر' الدائرة الثقافيّة في منظّمة التحرير على أن تطلب من دحبور ونازك تأسيس فرقة مركزيّة فلسطينيّة، تحمل رسالة غنائيّة ثوريّة تحاكي الشارع الفلسطينيّ والعربيّ، فوُلدت 'فرقة العاشقين' محمولة على كتفي نازك و'يسار الشعبيّ'، كما كان يُلقّب دحبور في صفوف حركة 'فتح'، بالإضافة إلى الشاعر الكبير أبو الصادق الحسينيّ، ومجموعة من الشباب والصبايا الفنّانين، الذين كانوا أعضاءً في الفرقة، ونخصّ بالذكر حسين منذر ومحمّد الهبّاش. عدّ دحبور الفرقة 'تجربة جذّابة للمنصّة والجمهور، حملت الهمّ الفلسطينيّ الجمعيّ، وجرح الوطن النازف. رسمت في فضاء الكون أملًا، وفي خيال الشعب ثورة وحرّيّة، وهي تجربة واقعيّة تستحقّ أن تؤرّخ'.

الكلام المباح

أدّت كلمات دحبور دورًا محرّضًا على المقاومة، وكانت الأغاني رافدًا مهمًّا في التواصل الفلسطينيّ - الفلسطينيّ والفلسطينيّ – العربيّ، وكانت سلاحًا إبداعيًّا يغذّي الروح المعنويّة للعمل الوطنيّ بأشكاله المختلفة، فكانت الأغاني ترافق المقاتلين في ساحاتهم جميعها، والأسرى في معتقلاتهم، والطلبة في مظاهراتهم.

اقرأ/ ي أيضًاأحمد دحبور... خمس أغانٍ

عام 1982، قدّم دحبور أهمّ أعماله الغنائيّة مع 'العاشقين'، حيث تعرّضت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، آنذاك، لعدوان شامل، أدّى إلى خروج الحركة الفدائيّة من لبنان. وكانت لدحبور رؤية موسيقيّة ثاقبة تتلاءم ونبض الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ونبض الشارع، فألّف 'للعاشقين' كلمات أغاني ألبوم 'الكلام المباح'، الذي اشتمل على مجموعة مركزيّة من الأغاني التي رافقت مسيرة الفرقة لسنوات طويلة، وزادت من شعبيّتها في أوساط واسعة، عربيًّا وفلسطينيًّا.

وكانت الأغاني التي قدّمها دحبور شاحنة للهمم وللمعنويّات في ظلّ حالة إحباط وطنيّة وسياسيّة بعد الانسحاب من بيروت، فجاءت الكلمات مكرّسة لهويّة الفرقة وبوصلتها، بوصلة لشعبها:

لغة العاشقين هذه الجراح *** من فلسطين أرسلتها الرياح

هبّت النار والندى حملتها *** والعتابا والميجانا والسماح

الكلام المباح ليس مباحًا *** ونغنّيه فالأغاني سلاح

سرنا راية على راس رمح *** فأذيعي أسرارنا يا رياح

 

 وثيقة

أحدثت الأغاني التي ألّفها دحبور ولحّنها نازك وقعًا في الفضاء الفنّيّ الفلسطينيّ، وفي المزاج الشعبيّ، فكانت فعلًا جماليًّا يستفزّ الذاكرة ويخاطب التاريخ والمكان، وكانت الأغاني، بغالبيّتها، انعكاسًا للألوان الغنائيّة الشعبيّة التراثيّة، ما سهّل حضورها في الوجدان الجماهيريّ. حمل هذا الحضور مسمّيات ورموزًا ذات بعد توثيقيّ لمحطّات مهمّة في النضال الفلسطينيّ، تمنح للمكان صورًا حسّيّة وملحميّة، وما زالت، حتّى اليوم، تتحدّى الخطاب الفلسطينيّ المتأزّم، وتتفاعل مع الجدل الداخليّ حوله.

كانت أغنية 'اشهد يا عالم علينا وعبيروت' وثيقة تاريخيّة ملحميّة؛ قدّمت، آنذاك، صورة تمجيديّة للتضحيات الفلسطينيّة اللبنانيّة، ونجحت في رفع المعنويّات العربيّة بعامّة، والفلسطينيّة اللبنانيّة بخاصّة، في مواجهة صورة الانكسار التي تولّدت مع حصار بيروت وخروج المقاومة منها، فهي تخلق حالة من الشغف والحنين لأمكنة عايشتها المقاومة، كقلعة الشقيف، وخلدة، وبرج البراجنة، والنبطيّة، والجيّة.

لم تكن 'اشهد يا عالم' الأغنية الوحيدة التي حرّضت الشاعريّة الفلسطينيّة ورسّخت الأمكنة في الذاكرة، فقد نجح دحبور في صنع أهمّ الأغاني الخالدة، فكانت 'شوارع المخيّم' قصيدة غنائيّة ما بين المرثيّة والثوريّة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، كما نجد توثيقًا ملحميًّا بطوليًّا آخر في أغنية 'قامت القيامة بصور'.

اقرأ/ ي أيضًاأحمد دحبور: لغة مناكفة ودالّ متحرّر

وكان للأسرى مكان في توصيف حالة الأسر والتوق للحرّيّة وكسر القيد، فقدّم أغنية 'معسكر أنصار - جمع الأسرى'. ومن الأغاني التي لاقت انتشارًا شعبيًّا واسعًا، أيضًا، أغنية 'هبّت النار'، و'للقدس اشرح'، اللتان قدّمتا لوحة لهويّة البلاد عبر ذكر العديد من أسماء البلدان. أمّا أغنية 'دوس'، فقدّمت لوحة أكثر ثوريّة، تحريريّة وتحريضية، ذكر فيها دحبور العديد من المناطق الفلسطينيّة. ومن الأغاني المعروفة نذكر 'النسر الذي سافر'، و'زمان الشدّ'، و'في أيّ منفى'، و'أغنية وردة لجريح الثورة'، و'يا مية مسا'.

 

حسم أمره

أحمد دحبور، الشاعر المعاصر الذي احتلّ في جيل مبكر مكانة مهمّة بين شعراء المقاومة الفلسطينيّين، وبين الشعراء العرب، لم يتوان عن أداء دور أساسيّ في دعم مسيرة شعبه الكفاحيّة والثقافيّة؛ قدّم نموذجًا للمثقّف الفلسطينيّ الذي ينخرط في صفوف شعبه، ويرتقي لمستوى المسؤوليّة التي يُراد للمثقّف أن يرتقي إليها. حسم الشاعر أمره بتطويع نخبويّته الشعريّة لصالح الأغنية الوطنيّة الشعبيّة، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا. 

 

فايد بدارنة

 

من مواليد قرية عرّابة في فلسطين. باحث في العلوم السياسيّة، حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والإنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.