في الحرب وحده: عن الأسر في الأغنية الفلسطينيّة

من البحر إلى النهر | Estamos Juntos

لطالما واكبت الأغاني الأحداث المختلفة الحاصلة في حياة الأفراد والجماعات، ولطالما ساهمت، كذلك، في مواكبة الأحداث السياسيّة، فتسبق الحدث وتساهم في صنعه حينًا، وتكون انفعالًا ونتيجة له في حين آخر.

شكّل الأسر الصهيونيّ مفهومًا مركزيًّا في هويّة الفلسطينيّ، إذ إنّ وجوده مقترن بوجود الاستعمار، وزواله نتيجة حتميّة لزوال الأخير، ولذا كان موضوع الأسر والسجن والسجّان حاضرًا، وبقوّة، في الأغاني السياسيّة التي عبّرت عن القضيّة الفلسطينيّة ومعاناة الفلسطينيّين، ومن هذه الأغاني، مثلًا: 'معسكر أنصار'، و'سجّان ابوك يا سجن'، و'عن إنسان'، و'11 ألف محلّ فاضي'، و'شموع الأمل'، و'أنا للأبد باقي'، و'مكتوب ع جبينك بطل'، وغيرها الكثير.

لا يمكن حصر الأغاني السياسيّة التي عبّرت عن مفهوم الأسر في هذا المقام، فهي عديدة ومتنوّعة جدًّا، وقد واكبت كلّ مراحل القضيّة الفلسطينيّة حتّى زمنها الآنيّ، لكن بالإمكان أخذ صورة بانوراميّة عن كيفيّة عرض الأغاني لقضيّة الأسرى الفلسطينيّين، وآمالهم بالحرّيّة والتحرّر، بالإضافة إلى مفهوم الأبد لديهم، ذاك الذي يتملّكه الصهيونيّ في أحكامه، ويراهن عليه الفلسطينيّون في ثباتهم وبقائهم.

صراع على الأبد

يسود، في الأسر، الصراع غير التقليديّ بين الفلسطينيّ والصهيونيّ، إذ يغدو صراعًا على الزمن القادم، الذي لا يملكه أحد. تمثّل أغنية فرقة العاشقين 'أنا للأبد باقي' (كلمات أحمد دحبور، ألحان حسين نازك، 2011) هذا الصراع، فيتحوّل الأبد إلى أداة رهان وصراع على الامتلاك بين الأسير والسجّان، فيتحدّى الأسير ويراهن على امتلاكه لحقّه الأزليّ في الأرض، وزمنها الماضي والآتي، ويسخر من العنجهيّة الصهيونيّة التي تحسب أنّها تمتلك الأبد، ليكون طيّعًا لها، ووسيلة لتهديد الأسرى وعقابهم. تقول الأغنية على لسان الأسير:

زيد المؤبّد تأبيدْ... ليش ضامن إنّك باقي؟

أبدكم ما هو بالإيد وأنا للأبد باقي!

أوّلتي حرّيّة وعيد... وآخرتك تطلع برّه

 

وفي أغنية أخرى انتشرت في الثمانينات، غنّتها كاميليا جبران ضمن فرقة صابرين، عنوانها 'عن إنسان' (كلمات محمود درويش، ألحان سعيد مراد، 1984)، تعلّل نفس الأسير بالأمل في انتصاره الحتميّ على سجّانه، إذ تقول:

يا دامي العينين والكفين إن الليل زائلْ

لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زَرَد السلاسلْ

 

فالأمل، والصبر، والثقة بالحرّيّة القادمة من العوامل التي توسّع زنزانة الأسير وتزيد من قدرته على الصبر في انتظار حرّيّته، وغناء هذه القيم والتأكيد عليها يصبح مثل تذكير غنائيّ، أو ترجيع لصدى الوعد غير المنطوق بين الأسير وبلاده، أو بينه وسجّانه، عن حتميّة الانتصار والحرّيّة القادمة، ما يعزّز صمود الأسير الذي لا يملك في سجنه سوى الإيمان بذلك.

أمانٍ واحتمالات

وحينها يمتدّ القتال والصراع بين الأسير وسجّانه إلى صراع على المعنويّات والإرادة، فأكثر ما يتمنّاه السجّان بعد السيطرة على جسد الأسير تحطيم معنويّاته والنيل منها، ففي هذا يكمن انتصاره. تردّ أغنية فرقة العاشقين، 'معسكر أنصار' (كلمات أحمد دحبور، ألحان حسين نازك، 1982)، على هذه الأمنية البعيدة:

حبستوا جسم البطل ما حبستوش الروحْ

روحه بحجم الجبل تحمِل عنّا الجروحْ

 

تبقى الأغاني تلهج بما يحدّث الأسير نفسه به، وبالاحتمالات التي تدور في ذهنه، أقساها وأبسطها، حول مصيره ومصير أحبّته، وتحقّق حلمه بالحرّيّة، قَرُبَ أم بَعُد، فتأتي الأغنية كما عزيمة الأسير، لتحسم موقفًا ثابتًا من دون احتمالات، إذ تتعادل كلّها معًا؛ فلا القيد، ولا التحقيق، ولا احتماليّة الاستشهاد في ظلمة السجن تقصي الأسير عن حلمه الموثوق بالحرّيّة. يتمثّل ذلك في أغنية فرقة صمود، 'سجّان ابوك يا سجن' (1988):

عمري قضيته بسجن يا الله ويشِ الحالْ!

والسجن لي مرتبة والقيد لي خلخالْ

والمشنقة معلّقة مرجوحة للأبطالْ

سجّان أبوك يا سجن... ومْفارق أحبابي

 

المقاومة بالجسد

حين يضيق أمل الأسير وتقلّ قدرة احتماله لقسوة ظروف اعتقاله، وصلف سجّانه، فإنّه يختار طريقًا أخرى يدافع بها عن حقوقه، ألا وهي المقاومة بجسده لانتزاع الحقوق، في عمليّة الإضراب عن الطعام. وفي هذا تكمن العودة إلى الجسد 'المهمّش' الذي لم يكن يشكّل للأسير، قبل الإضراب، أهمّيّة كبيرة، لأنّ السجّان يستخدمه وسيلة لإخضاعه، ولذلك فهو يتجاهل جسده في الجبهة الأولى، لئلّا تخضع روحه، أيضًا، لقوّة السجّان وبطشه، في الجبهة الثانية.

يعيد الأسير، في هذه اللحظة، تعريف العلاقة بينه وجسده، وينطلق في هذا التعريف من كون جسده، الآن، ليس مهمّشًا وخاضعًا للسجّان، بل وسيلة للضغط عليه، بل وتهديده. ففي إضراب الأسرى الفلسطينيّين عن الطعام، المستمرّ منذ 17 نيسان (أبريل) الماضي، هم وحدهم يحصون الساعات الثقيلة والحادّة على أرواحهم وأجسادهم، وها هو العجز، أيضًا، يكبّل ساعات الحائط البطيئة، فليس للزمن أهمّيّة بعد الآن، إلّا على ميقات الأمعاء الفارغة.

ولو كان بسيطًا

خلال هذه الفترة من الإضراب، التي زادت الآن عن الشهر، انتشرت أغانٍ كثيرة تحدّثت عن الإضراب، ودعمت صمود الأسرى البطوليّ فيه، ودعت الجماهير إلى التحرّك والانتصار للأسرى. من هذه الأغاني 'ما بدنا هالزاد' لعدنان بلاونة وأسامة قاسم، و'إضراب الكرامة' لعلاء رضا ونادر صايل، و'عتم الزنزانة' لعلي أبو بكر، و'إضراب الكرامة' لفراس البوريني، و'رجال العزّ' لربيع أبو بكر. ومن هذه الأغاني ما هو مرتجل، أو اتّخذ نمط الأداء الشعريّ، مثل أغنية شادي البوريني المسمّاة 'الأسرى في خطر'، وقاسم النجّار في أغنية 'إضراب الكرامة'، الذي أنتج، سابقًا، أغنية عن إضراب الأسرى بعنوان 'ميّ وملح' عام 2014، بالإضافة إلى أغنية تحمل الاسم نفسه، لفرقة غرباء للفنّ الإسلاميّ (كلمات محمود عيّاد، ألحان بلال الأحمد، 2014)، لمناسبة إضراب الأسرى الإداريّين عن الطعام في ذلك العام، تقول:

رغم الألم، رغم الظلم، رغم العدو إضرابْ

بالميّ نقوى والملح، يا دولة الإرهابْ

 

 

إنّ هذا العدد الكبير من الأغاني التي صدرت بعد إعلان الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام، على الرغم من بساطة جودتها الفنّيّة، يدلّ على رغبة الأفراد في مساندة الأسرى، والشدّ من عزائمهم، والسعي إلى فعل شيء، ولو كان بسيطًا.

نقد قاسم النجّار في 'إضراب الكرامة'، العجز الفلسطينيّ وشحّ المشاركة الشعبيّة، التي لم تصل إلى ما هو متوقّع في الفعاليّات الداعمة للإضراب، لأسباب عديدة، لعلّ أهمّها الانقسام الفلسطينيّ المستمرّ منذ أكثر من عقد، أمّا ما عداها، فقد مجّدت الأسير الفلسطينيّ، وعوّلت على انتصاره الحتميّ، وعلى روحه الصلدة أمام السجّان.

'إضرابهم' و'تضامننا'

في ازدحام هذه الأغاني، وغيرها كثير لا يتيح المقام ذكره، حُقّ التساؤل عن مضمونها وكيف عكست دور الشارع الفلسطينيّ، أفرادًا ومؤسّسات، في مواصلة حرب الأسرى من خارج المعتقل وإكمال دورهم. وتأتي الإجابة مفزعة، إذ تجد أنّ غالبيّة الأغاني موضعت الأسير في الحرب وحده، فهو الذي يضرب عن الطعام، وهو من يتعذّب، ويغادره النوم، وتفارقه الطمأنينة، وهو من سينتصر في النهاية. أمّا مَنْ هم خارج المعتقل، فيتغنّون بصبره وجَلَده، ويؤسطرون نضاله ورمزه. هنا يأتي الفصل البشع بين الداخل والخارج، بين العجز والجدوى، بين القيد والحرّيّة، بين 'هم' و'نا' في 'إضرابهم' و'تضامننا'.

هذه الحقيقة المفزعة لا تخلقها الأغاني، إنّما تعكس صورتها من خلال الواقع المعيش المرير. وإن أطرقنا السمع قليلًا، سنسمع أغاني أعلى، وأقرب منّا للواقع وللحقيقة، سنسمع الأمعاء الخاوية والأنّات المتعبة، نشيدنا وغناءنا الحرّ الأصيل.

 

قسم الحاجّ

 

 

طالبة دكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعيّة بجامعة بيرزيت، وقد أنهت درجة الماجستير في برنامج الدراسات العربيّة المعاصرة من الجامعه ذاتها. تهتمّ بالسياقات الثقافيّة والسياسيّة في المجتمعات المُسْتَعمَرة وما بعد الاستعماريّة، والمجتمع الفلسطينيّ بخاصّة