هدنة «كايروكي»... المقموع يبحث عن مكان

من حفلة لفرقة «كايروكي» | المصدر: صفحة الفرق الرسميّة على «فيسبوك».

 

تابعت أحداث الثورة المصريّة من خلال عدسة أغاني «كايروكي»، وكان ذلك خلال عامي الدراسيّ الأوّل في تخصّص علم النفس. كنّا نجتمع، مجموعة طلّاب فلسطينيّين، خلال فترة الامتحانات للفصل الأوّل، أمام شاشات مكتبة العلوم الاجتماعيّة في «جامعة تل أبيب» الإسرائيليّة، على أنقاض قرية الشيخ مونّس الفلسطينيّة، ونتابع أحداث ثورة 25 يناير المصريّة. كنّا نحفظ أغاني «كايروكي» ورامي عصام ودينا الوديدي، ونغنّيها بين استراحات الدراسة، أو نناقش كلماتها. بينما كنّا نغنّي، لم أستطع إلّا أن أشعر بالغيرة العميقة بالنضال من أجل التغيير في مصر. لو كان لدينا ميدان كميدان التحرير، أو حكومة، أو أيّ جهاز سياسيّ لنهتف ضدّه مطالبين بالحرّيّة.  

في تلك الأثناء، خارج جدران الجامعة، اشتعلت النيران في شوارع تل أبيب مع متظاهرين أشكنازيّين؛ مطالبين بإسكان ميسور التكلفة، وبالأساس بتخفيض أسعار جبنة ’الكوتيج‘ (Cottage Cheese). ذكّرني التناقض الصارخ بين المشهدين النضاليّين بالصراعات والعواطف المعقّدة الّتي نعايشها في فلسطين؛ ممّا زاد من رغبتي في متابعة الثورة المصريّة. كنت أقول: "إذا نجح المصريّون بإسقاط فرعون، فزوال الطواغيت محتّم بلا شكّ". سقط فرعون مصر، لكنّ الطواغيت بقيت. انتهت الثورة، وبقيت لنا موسيقاها. من خلال أغاني «كايروكي»، شعرت، وما زلت، بتوق إلى وطن، أيّ وطن. كان شعورًا مفعمًا بالتضامن مع أولئك الّذين يناضلون من أجل العدالة والحرّيّة، في الميدان في مصر.

استعدت ذكريات تلك الفترة هذا الأسبوع، عند سماعي أغنية «هدنة» لفرقة «كايروكي». مرّة أخرى أستمع إلى «كايروكي»، ومرّة أخرى أقرأ أخبار المتظاهرين الأشكناز في شوارع تل أبيب، هذه المرّة مطالبين بالحفاظ على ديمقراطيّتهم الّتي لم نعايشها من قبل. لكنّ الشوارع المصريّة هذه المرّة خالية من المتظاهرين. والميدان خالٍ. فهل هناك بعد صوت ثوريّ في أغاني «كايروكي»؟ وما علاقتنا نحن الفلسطينيّين بهذا الصوت؟

 

الهدنة

«هدنة» أغنية نسمعها بصوت أمير عيد، مغنّي الفرقة، وهي صادرة في عام 2017، ضمن ألبوم «نقطة بيضا». تعبّر الأغنية عن إحساس عميق بالغربة واليأس والإحباط. يمكن قراءة الغربة من خلال منظور اجتماعيّ وسياسيّ يعرض واقعًا قاسيًا من التشتّت النفسيّ، والمأزق الاجتماعيّ لأفراد يعيشون في مجتمع مأزوم. تبرز ثيمات الصراع والأعراف المجتمعيّة والقمع الجندريّ وفقدان الإيمان على مدار الأغنية، وتكشف لنا مشهدًا مؤلمًا بواقعيّته يربطنا، نحن فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948، بالحال السياسيّ المحلّيّ العربيّ، وربّما يكشف لنا تفكّك مجتمعنا بمفهوم إقليميّ.

هدنة «كايروكي» مقسومة إلى ثلاثة أبيات، ولازمة تأتي بعد كلّ بيت. البيت الأوّل يناقش نفسيّة الفرد في مجتمع مأزوم، فيما الثاني يقدّم نقد الفرد للذات المجتمعيّة؛ أي أنّ الأوّل يعرض الصراع الداخليّ للفرد، والثاني يعرض الصراع الاجتماعيّ، بينما يقدّم الثالث خلاصة الصراعات والثورة عليها.

 

البيت الأوّل: الصراع النفسيّ

 

"عايش في هدنة من زمان

آن الأوان أحارب عشان أعيش فسلام

جرّبت الاستسلام والإنكار كمان

كلّ الطرق بتأدّي لصدام".

 

تبدأ الأغنية بفكرة العيش في هدنة مستمرّة، يمكن تفسيرها على أنّها فترة من الهدوء والاستقرار النسبيّين. لكنّ الأمر يحمل في طيّاته صراعًا مع معايير وتوقّعات لا تتوافق مع الهدوء والسلام. ضغط الوصول إلى التوافق مع النفس يؤدّي في نهاية المطاف إلى صدام. يعرض هذا القسم من الأغنية بطريقة مباشرة مفهوم الصراع النفسيّ الّذي يعايشه الفرد في بيئة غير مريحة، حتّى لو لم يكن واضحًا له مصدر عدم الارتياح هذا.

يمكننا فهم هذا الشعور من خلال مصطلح باللغة الألمانيّة هو ’أونهايمليش‘ (Das Unheimliche)، أي غير بيتيّ، الّذي تُرْجِم غالبًا إلى العربيّة ’الغرائبيّة‘، بالرغم من عدم دقّته. ربّما ’لابيتيّة‘ تكون أفضل في هذا السياق، حيث إنّ المصطلح في نظريّة فرويد للتحليل النفسيّ يشير إلى الشعور بالغبطة أو الألفة الغريبة المرتبطة بشيء يجب أن يكون مألوفًا، لكن بدلًا من ذلك يشعر بأنّه غريب أو مقلق. بما معناه أنّه شيء ما يُشْعِر بالحاجة إلى محاربته والتخلّص منه، بالرغم من ألفته. يقول أمير عيد: "جرّبت الاستسلام والإنكار كمان"، وهي كذلك مصطلحات تأتينا من علم النفس التحليليّ، حيث كلّها يصبّ في محاولة التوفيق بين الأجزاء المختلفة للنفس البشريّة. يسمّيها فرويد بآليّات دفاعيّة، حيث يستخدمها الفرد في محاولته لتقبّل الواقع اللامنطقيّ من ناحية وعيه؛ أي لخلق صورة مختلفة لهذا الواقع، أو التلاعب بها. إلّا أنّ هذه الحيل قد تؤول إلى الفشل أحيانًا، وتؤدّي إلى المأزق النفسيّ؛ وهو الصدام في «هدنة».

 

 

في السياق الفلسطينيّ السياسيّ لهذه الكلمات، ثمّة العديد من المفاهيم اللابيتيّة الّتي يعايشها الفلسطينيّ في بلاده المستعمَرة، حيث يرى من حوله الحيّز المستعمَر يتآكل في كلّ لحظة، فيما يواصل اختيار الهدنة السياسيّة للحصول على السلام؛ فسياسيًّا خضنا تجارب الاستسلام والإنكار في الانضمام إلى السياسة الإسرائيليّة، وفي المعاهدات المختلفة، وفي «أوسلو»، وكلّها، واحدة تلو الأخرى، أدّت إلى صدام تلو الآخر، وزيادة ’لابيتيّة‘ البيت.

 

"صدام مع شخص جوّايا اتزرع

تربية الزمن والناس والمجتمع

مش منّي بس غصب عنّي هو المتحكّم

زيّ الإيقاع أغنية ماشي معاه وخايف أتقدّم".

 

هنا يرسم لنا عيد صورة الصدام بين الأنا والشخص المزروع في داخل الأنا بوضوح أكبر. وما يميّز هذا الشخص الآخر هو أنّه يعتمد على مصادر المعايير النفسيّة، ويمثّل ضغط التوافق مع أعراف الزمن والأسرة والمجتمع، وهو ما يؤدّي إلى خلق الصراع الداخليّ. يعكس هذا التوتّر بين الفرديّة والتوافق المجتمعيّ مصطلحًا آخر في نظريّة فرويد، هو مصطلح الأنا الأعلى (Super Ego).

’الأنا الأعلى‘ مفهوم في التحليل النفسيّ يمثّل المكوّن الأخلاقيّ في نفس الفرد، ويتضمّن المعايير المجتمعيّة والقواعد الداخليّة الّتي توجّه السلوك وتقيّده. "تربية الزمن والناس والمجتمع" عند عيد، هي ذاتها المعايير الأخلاقيّة الّتي ينمو على أساسها الفرد في المجتمع؛ بهدف بلورة شخصيّة على أكمل وأفضل شكل بنظر المجتمع. يؤدّي صراع الذات مع هذه المعايير الأخلاقيّة إلى الصدام النفسيّ، وتقدّم زمام الأمور إلى إحدى القوى النفسيّة المتعاركة، إمّا الأنا (Ego) أو الأنا الأعلى (Super-Ego). في المجتمعات المحافظة، يغلب الأنا الأعلى بقيّة المركّبات النفسيّة، فقد عايش فرويد مجتمعًا محافظًا جدًّا في فيينا، وعنه كتب نظريّته. التزام المجتمعات بالقيم الليبراليّة يؤدّي إلى تغيير المركّب النفسيّ المفضّل عند أفرادها. بنظر تلك المجتمعات الليبراليّة، يغلب عندها الأنا (Ego)؛ كونها تقدّس الفردانيّة، ولكن بنظر المجتمعات المحافظة لها، فما يغلب عندها هو مركّب الغرائزيّة (الهو - ID).

في هدنة «كايروكي»، نجد الصدام بين الأنا الفرديّ والأنا الأعلى، ونجد رفض قبول تحكّم الأنا الأعلى؛ أي تقاليد المجتمع ومعاييره وأعرافه. إلّا أنّ هذا الرفض الثوريّ ضدّ المجتمع، هو حركة مخيفة جدًّا: "ماشي معاه وخايف أتقدّم"؛ ففيها تهديد لبقاء الفرد جزءًا من المجتمع؛ أي تهديد لاستمراريّة انتمائه إلى المجتمع.

 

"جسمي أصبح سجن وأنا فيه محبوس

مكنة دايرة وأنا ترس من التروس

وسيلتي الوحيدة للهروب إنّي أعيش للناس

سجن أكبر مصطنع مقفول بترباس".

 

يواصل عيد هنا ما بدأ به في بداية البيت، من عرض للصدام الفرديّ والشخصيّ، ويناقش إسقاطاته من خلال مجازيّات السجن في داخل النفس، أو الآلة. كأنّ وكالة الفرد ليس لها أيّ دور حقًّا في حياته النفسيّة، إلّا عندما يختار التنازل عنها و"إنّي أعيش للناس". أي أنّ التغلّب على الشعور المتواصل باللابيتيّة، يعني أنّ على الفرد التنازل عن صوت الأنا عنده، ويقدّم زمام الأمور لمعايير الأنا الأعلى. لكنّ الهروب من هذا السجن، يدفع الفرد إلى سجن آخر، وهو سجن المراضاة وإنكار الذات.

 

اللازمة: اللّابيتيّة

 

"أنا متغرّب

استسلام في شكل السلام

خايف أبعد أنا وخايف أقرّب

انكسار فشكل انتظار".

 

تؤكد لازمة «هدنة» مفهوم اللابيتيّة والشعور بالغربة في الوطن وفي البيت، بين الفرد ومجتمعه، كما بين الفرد ونفسه. الغربة هنا في "أنا متغرّب" لا تدلّ بالضرورة على العيش خارج الوطن، بل يمكنها أن تكون الغربة عن المعايير السارية في المكان، أو عن السلطة المتّخذة فيه. ولا يمكننا الاستماع إلى اللازمة دون التفكير بعنوان الأغنية. فهل يمكن للسلام أن يبدأ من استسلام؟ هل يبقى هدنة ووقفًا مؤقّتًا لإطلاق النار، بمفهومها النفسيّ والاجتماعيّ والحرفيّ؟

في قراءة فلسطينيّة للّازمة، يمكن لأي فلسطينيّ في أراضي الـ 48 التماهي مع شعور الغرابة عن الوطن المتحدّث بلغة أخرى، بالرغم من أنّه ليس لديه أيّ مفهوم آخر للبيت...

في قراءة فلسطينيّة للّازمة، يمكن لأي فلسطينيّ في أراضي الـ 48 التماهي مع شعور الغرابة عن الوطن المتحدّث بلغة أخرى، بالرغم من أنّه ليس لديه أيّ مفهوم آخر للبيت. هذه الغربة في البيت أبرز صور اللابيتيّة، ’الداس هايمليش‘ الفرويديانيّة، حيث يشعر الفرد بالهلع من أكثر شيء يُفْتَرَض أن يكون آمنًا له، أي البيت، الوطن.

لابيتيّة الوطن في حالة أراضي الـ 48، لم تبقَ محصورة بمفهومها الاستعماريّ، بل تفشّت إلى لبّ القرى والمدن الفلسطينيّة بسبب تفشّي الجريمة فيها. أصبحنا نخشى البيت نفسه، ولا نشعر بالأمان فيه، بالرغم من كون الأمان مركّبًا أساسيًّا في تعريف البيت. هنا يُتَرْجَم مفهوم "خايف أبعد أنا، وخايف أقرّب"؛ كون الفرد يريد الإصلاح ويؤمن به، لكنّه يخشى التدخّل الإصلاحيّ لاستعادة البيت ودفع الثمن المترتّب على ذلك. وأصبح الاستسلام من أجل السلام، مجرّد صورة جديدة للانكسار الّذي يطغى عليه الانتظار. انتظار أيّ خلاص.

 

البيت الثاني: الصراع الاجتماعيّ

 

"حرب ضدّ مجتمع مريض وأفكاره

مجتمع أعمى مش شايف انهياره

مليان أمراض نفسيّة وعنصريّة وطبقيّة".

 

يشير عيد هنا إلى الحرب ضدّ المجتمع المريض والأعمى الّذي يعاني من أمراض نفسيّة وعنصريّة وطبقيّة. محاربة المجتمع المريض شكل من أشكال المقاومة ضدّ الهياكل والممارسات القمعيّة، وقد تَظْهَر هذه المقاومة نشاطًا اجتماعيًّا، أو دعوة إلى التغيير لتحدّي الوضع الراهن، أو حتّى وضع أغنية نقديّة بهذا الشكل. يشير هذا الوصف إلى تدهور القيم والأنظمة المجتمعيّة، ممّا يستلزم الإصلاح والتجديد لمعالجة المشاكل القائمة. وإن واصلنا القراءة النفسيّة للأغنية، فسيمكننا الادّعاء بأنّ الوعي لمركّبات المرض وعوارضه أوّل خطوة لمعالجته، لكن هناك قضيّة أخرى معقّدة في السياق الاجتماعيّ لهذا القسم من الأغنية.

قراءة هذه الكلمات، من خلال عدسة النظريّة الما بعد استعماريّة، تنطوي على التدقيق في ديناميكيّات القوى والسياقات التاريخيّة والسياسيّة وإسقاطاتها على المجتمع. في "حرب ضدّ مجتمع مريض وأفكاره"، يشير عيد إلى مجتمع ورث الهياكل والأيديولوجيّات القمعيّة من ماضيه الاستعماريّ، وحافظ عليها. غالبًا ما يسلّط منظّرو ما بعد الاستعمار الضوء على كيف يمكن لإرث الاستعمار أن يتجلّى في استمرار عدم المساواة الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وهذا ما نراه في المجتمعات المستضعفة، حتّى الّتي تخلّصت من بنى الاستعمار التقليديّة. في حين يرمز عمى المجتمع في ذات الوقت إلى شكل العمى ومضمونه، بما يحاكي المجتمعات الّتي تعيش إسقاطات الاستعمار عليها وتفسّرها لكونها بنفسها منحطّة ومنهارة وضعيفة.

في السياق الفلسطينيّ في أراضي 48، يمكننا سماع أصوات يائسة ومخذولة تقول أشياء مشابهة، مثل "مجتمعنا أصبح منحطًّا" و"مجتمعنا أصبح عنيفًا"، وتذنّب نفسها، متماهية مع اتّهامها بالانحطاط والضعف والمرض والعنصريّة. لكن علينا التذكّر بأنّ لكلّ هذا العنف والإجرام والمأزق الأخلاقيّ، ثمّة منبع سياسيّ واقتصاديّ ينقل أشكال العنف وهياكله من مكان إلى آخر، من خلال تغيير صورها. هذه التهم تجاه النفس، هي جزء ممّا يسمّيه بورديو ’العنف الرمزيّ‘، تجاه المجتمعات الّتي تقبع تحت قوًى استعماريّة. يشير العنف الرمزيّ إلى القوّة الّتي تُمارَس من خلال الأنظمة الرمزيّة، مثل اللغة والثقافة والأعراف الاجتماعيّة، الّتي يمكن أن تفرض الهيمنة وتديم العنف الداخليّ، دون ربطه بسياقاته الأصليّة؛ فهو عنف خفيّ وهادئ، غير مرئيّ وغير محسوس، خاصّة بالنسبة إلى ضحاياه.

 

"زيّ بالظبط ما هو بيخاف من هي

هي تغلط يدبحوها وتداوا

هو يغلط يقولوا معلش دي شقاوة

وقيس على كدة كلّ تفصيلة فحياتنا

كلّ المبادئ بتتجزّأ فكلّ حكاياتنا".

 

تتناول الأغنية القضايا المتعلّقة بالجندر السائدة في المجتمع، إذ تنتقد الطبيعة الملتوية والمتحيّزة، حيث يُخْضَع الرجال والنساء لمعايير مزدوجة. يشير ذكر جرائم قتل النساء الّتي تتعرّض لها الفتيات اللواتي ’يغلطن‘، وقبول تجاوزات الفتيان بعبارة "معلش دي شقاوة"، إلى المعاملة غير المتساوية والظلم الّذي تتعرّض له المرأة، ما يعرض ازدواجيّة معايير الهياكل المجتمعيّة الأبويّة الّتي تستثمر العنف ضدّ المرأة أداةً قمعيّة.

الجملة "قيس على كدة كلّ تفصيلة فحياتنا، كلّ المبادئ بتتجزّأ فكل حكاياتنا"، تحمل في طيّاتها ازدواجيّات أخلاقيّة وفلسفيّة واسعة النطاق؛ فالعنف الجندريّ هنا ليس المركز، إنّما مثال على تجزئة المبادئ. في السياق الفلسطينيّ السياسيّ لهذه التجزئة يمكننا الإتيان بعشرات الأمثلة العينيّة لكيفيّة التعامل مع خارقي المبادئ المجتمعيّة، فعندما تدعم شركة إنتاج طعام معيّنة قضايا المثليّين، نجد ’المقاطعة‘ المجتمعيّة باسم ’المجتمع المحافظ‘ وتحارب بأعلى صوت، بينما عندما تدعم شركة أخرى بناء المستوطنات أو جيش الاستعمار، نجد الصمت سيّد الموقف.

 

"مبقاش ليّا فالناس ومش قادر أخبّي

كفرت بكلّ حاجة إلّا ربّي

ومش هخبّي في أسئلة كتيرة عندي

ورغم كلّ ده لسّا الإيمان فقلبي".

 

يعبّر عيد هنا عن فقدان الإيمان بالحياة، باستثناء الإيمان بالله. ويمكن اعتبار فقدان الإيمان هذا بمنزلة ردّ فعل على الظلم الاجتماعيّ، والاستسهال الأخلاقيّ الّذي يشهده المجتمع من عنف داخليّ. والكفر هنا بالمعايير والمسلّمات من أبسط ما يمكن للفرد اتّخاذه تجاه المأزق الأخلاقيّ الّذي يعيشه. لكنْ عيد يقترح فصل الأخلاقيّات الراهنة مجتمعيًّا عن الإيمان بالله، ممّا يعيدنا مرّة أخرى إلى سؤال الأنا الأعلى وسلطته، وكما يحدث عادة عند ضياع البوصلة الأخلاقيّة، وفقدان الإيمان بقدرتها على الإصلاح، تبدأ الأسئلة الفلسفيّة الوجوديّة بالنموّ.

الإيمان التقليديّ بإله سامٍ وكلّيّ القوّة قد فقد أهمّيّته وتأثيره في المجتمع الحديث؛ كونه لم يعد المصدر الحصريّ للأخلاق...

في فترات أخرى عايشها فلاسفة الوجوديّة، اختار بعضهم التخلّص من مفهوم الأخلاق المستقاة من الدين، باعتبارهم الدين بنية مؤسّساتيّة قامعة بنفسها. هذا ما اقترحه نيتشة في الشذرة رقم 125 (الأخرق) من كتاب «العلم المرح» (1888). عندما أُرْسِل إلى الناس رجل أخرق يصرخ "أبحث عن الإله! إنّي أبحث عن الإله!  (...) أين الإله؟ أنا سأقولها لكم! لقد قتلناه – أنتم وأنا! نحن كلّنا قتلَته!". قاصدًا أنّ الإيمان التقليديّ بإله سامٍ وكلّيّ القوّة قد فقد أهمّيّته وتأثيره في المجتمع الحديث؛ كونه لم يعد المصدر الحصريّ للأخلاق. لكنّ عيدًا لا يواصل الطريق في أعقاب نيتشة، ولا يصل إلى العدميّة في نهاية المطاف، بل "رغم كلّ ده لسّا الإيمان فقلبي".

ومرّة أخرى نجد في السياق الفلسطينيّ تساؤلًا قد يكون غريبًا في أعقاب هذه الكلمات، وهو تلاشي دور رجال الدين في المصالحات المجتمعيّة، أو حتّى في التأثير للأخلاقيّات الدينيّة على المجتمع. تتشتّت فكرة ’الضمير‘ المصاحب للأنا الأعلى عندما نسمع عن أحداث القتل اليوميّة في المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، وكأنّها مرّت تطبيعًا، عند القيادات الدينيّة. بينما عند الأفراد نجدها تولّد تساؤلات إيمانيّة بأحقّيّة هذا الصمت الإلهيّ ومنطقيّته في وجه القمع والعنف المستشري.

 

البيت الثالث: الرافضون

 

"كلّ ده ساب فيّا أثر

دقّت جوّايا أجراس الخطر  

أفكار كتير نزلت زيّ المطر

غسلت نفسي من عُرْف البشر".

 

من منظور التحليل النفسيّ، يمكن اعتبار هذه السطور تمثيلًا لصراعات عيد الداخليّة، ومحاولاته لاكتشاف الذات والشفاء من تأثير ’عُرْف البشر‘، الّذي نقده في البيت الثاني. تشير عبارة "كلّ ده ساب فيّا أثر" إلى النضال النفسيّ في البيت الأوّل. ونتيجتها كانت أنّ الوعي التطوّريّ للخطر قد دقّ، "دقّت جوايا أجراس الخطر"، وكأنّ مظاهر الخوف والقلق اللاواعية أصبحت واقعيّة. في البيت الأوّل، قال لنا عيد "كلّ الطرق بتأدّي لصدام"، وهنا نواجه هذا الصدام بوضوح. حضور هذا الصراع أدّى إلى تدفّق الأفكار كالمطر، حتّى جاءت لحظة القرار النهائيّ، "غسلت نفسي من عُرف البشر"؛ أي التخلّص من معايير المجتمع المزدوجة الّتي انكشفنا لها في البيت الثاني. الأفكار الّتي نزلت كالمطر نتيجة الصدام، قدّمت فرصة لغسل النفس، أو تطهيرها من المعايير المزدوجة. وهذا سوف يؤدّي في النهاية إلى وعي اجتماعيّ خالص للخطوة العمليّة الآتية.

 

"الكلّ شارك فالجريمة الكلّ داس على الزناد

الكلّ اختار السكات ودافن راسه فترابه

الكلّ إلّا استثناء أحرار ورفضوا الاستعباد

محبوسين جوّا قطيع متحاوطين بالكلاب".

 

يتألّف هذا الجزء من الأغنية من قسمين؛ الأوّل فيه مناداة للمجتمع بالاستيقاظ من خلال تذنيب الجميع بالمشاركة في الجريمة من خلال السكوت عنها، ما يذكّرنا بالمقولة الشهيرة "الساكت عن الحقّ، شيطان أخرس"، في سياق ذمّ السكوت على المنكر وعدم إنكاره. وفي الثاني نجد تطرّقًا إلى قضيّة التهميش، حيث يُقَدَّم الأفراد القلائل الّذين يرفضون السكوت على أنّهم يتمتّعون بالحرّيّة الحقيقيّة. هؤلاء الأفراد لا يخشون تحدّي الأعراف والتوقّعات المجتمعيّة، ويقاومون الضغط للتوافق مع الممارسات القمعيّة. تسلّط هذه العبارات الضوء على ديناميكيّات القوّة الّتي تؤدّي دورًا في المجتمع؛ إذ يحاول مَنْ هم في مواقع السلطة إسكات الأصوات المعارضة للحفاظ على الوضع الراهن. هنا نجد النقد، ربّما لأوّل مرّة في الأغنية، لسلطة ما، هي فوق سلطة المجتمع وأقلّ من سلطة الإله. ربّما تكون هنا رمزيّة إلى سلطة الدولة، الّتي تحبس مَنْ "رفضوا الاستعباد". من المفارقة الجميلة جدًّا في هذه العبارات، أنّ الوحيدين الموصوفين بالأحرار هم أولئك "الـمحبوسين جوّا قطيع متحاوطين بالكلاب".

قضيّة العنف المعتمد على الجريمة في المجتمع الفلسطينيّ، متعلّقة بشكل دائريّ بنفسها...

قضيّة العنف المعتمد على الجريمة في المجتمع الفلسطينيّ، متعلّقة بشكل دائريّ بنفسها؛ ذلك أنّ الأحرار ذاتهم الّذين يستثنيهم عيد، هم الصحافيّون الشجعان الّذين يواصلون الكتابة عن الجريمة، بالرغم من تهديد حياتهم وعائلاتهم، وهم أصحاب المحلّات التجاريّة الّذين يرفضون دفع الخاوة، بالرغم من إطلاق النار على منازلهم، وهم كثيرون في المجتمع؛ أي أنّ الصامت يصمت خوفًا، والمتحدّث يواجه التهديد حتّى يُفْرَض عليه السكوت. لكنّ الإشكاليّة والمفارقة الفلسطينيّة في ظلّ الجريمة: هل لأجل الحرّيّة ورفض الاستعباد؛ على الفرد أن يستغني عن الأمان وحقّ عائلته بالحياة؟

 

"خلاص مبقاش فيه قلب

دقّت طبول الحرب

وانتصار أو انتحار مفيش عندي اختيار

آن الأوان الحقيقة تنفجر

فوش مجتمع مريض بيحتضر".

 

يفهم عيد المفارقة الأخيرة، ويرفع يديه عن القضيّة، لكن هذه المرّة ليس "استسلام في شكل السلام" بل "انتصار أو انتحار" و"آن الأوان الحقيقة تنفجر" لأنّه "مفيش عندي اختيار". هذه هي اللحظة الّتي يفهم فيها المستمع النداء الأخير للميدان.

تعكس هذه الأغنية تعقيدات العلاقة بين الفرد والمجتمع والنضال، من أجل العثور على مكان داخل بنية اجتماعيّة قد لا تتوافق دائمًا مع القيم والمعتقدات الشخصيّة. في مركز الأغنية تظهر القضايا المجتمعيّة الّتي يمكن أن تؤدّي إلى الشعور بالغربة اللابيتيّة والصراع الداخليّ مع الأنا الأعلى، والحاجة إلى التغيير. وتعمل الأغنية أيضًا بوصفها نقدًا سياسيًّا للمعايير المجتمعيّة الّتي تُعْتَبَر تقليديّة وضارّة، وفي أساسها روح استعماريّة قمعيّة. من خلال معالجة قضايا مثل القمع الجندريّ والعنصريّة والتحيّز وازدواجيّة المبادئ، تتساءل الأغنية عن صحّة هذه المعايير وشرعيّتها في تشكيل النسيج الاجتماعيّ. قراءة الأغنية في السياق الفلسطينيّ في أراضي 48، وبشكل خاصّ في سياق الجريمة والعنف الّتي يعيشها المجتمع في عام 2023، قد لا تكون أوّل ما نفكّر فيه عند الاستماع إلى الأغنية، لكنّ تجنيدها وترجمتها لتكون نداء للصحوة الاجتماعيّة، وضبط البوصلة الأخلاقيّة، هو جزء من سرّ الموسيقى النقديّة.

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».