غالب شعث في «يوم الأرض»... توثيق المؤامرة على الجليل | أرشيف

من فيلم «يوم الأرض» (1977).

 

المصدر: «مجلّة العربيّ».

زمن النشر: 1 شباط (فبراير) 1979.

الكاتب: راجي عنايت.

 


 

"فلتسمعْ كلّ الدنيا، فلتسمع،
سنجوع ونعرى، قطعًا نتقطّع
ونسفّ ترابك يا أرضًا تتوجّع،
ونموت، ولكن لن نركع.
للقوّة... للفانتوم... للمدفع
لن يخضع منّا حتّى طفل يرضع".

بهذا النشيد يصل الفيلم الوثائقيّ «يوم الأرض» (2022) إلى نهايته. الفيلم الّذي يبدأ وسط صمت مطبق بهذه الكلمات المكتوبة: "إذا كان حكّام إسرائيل قد فشلوا في أن يصيغوا سلامًا مع نصف مليون عربيّ، يُعتبرون مواطنين إسرائيليّين، فكيف ستنجح هذه السياسة في أن يصيغوا سلامًا مع الشعوب العربيّة؟".

وفيلم «يوم الأرض»، هو أوّل فيلم وثائقيّ يتحدّث عن نضال الشعب الفلسطينيّ داخل ’إسرائيل‘. أخرجه الفنّان غالب شعث في 41 دقيقة، ويعتبر صرخة عقلانيّة مؤثّرة، فيحكي قصّة الأحداث الدامية الّتي جرت في منطقة الجليل، يوم 30 آذار (مارس) 1976، ويصوّر إحياء الفلسطينيّين لذكرى هذا اليوم، وقد عَمِلَت «مؤسّسة صامد» على إنتاج الفيلم سينمائيًّا.

 

قصّة اليوم الدامي

كان معروفًا قبل صدور قرار التقسيم، عام 1947، أنّ منطقة الجليل ستكون خارج حدود الدولة اليهوديّة، لكنّ الحركة الصهيونيّة كانت تعدّ العدّة للاستيلاء على الجليل، قبل قيام ’الدولة الإسرائيليّة‘. كان هذا الهدف موضع جدل داخل الحركة الصهيونيّة، انتصرت فيه آراء دعاة استيطان الجليل.

ودعوة تهويد الجليل قديمة، تسبق إجراءات عام 1976 بسنوات طويلة؛ فأمام اللجنة التنفيذيّة الصهيونيّة عام 1937، ألقى أوشسكيني خطابًا جاء فيه: "... علينا أن نبذل جهدًا للاستيلاء على مواقع بعيدة عن مراكز الاستيطان، لضمان أوسع الحدود لبلادنا، ولمّا وضعنا البرامج لشراء الأرض، كان هذا الهدف دائمًا نصب أعيننا: الاستيلاء على مناطق بعيدة؛ ففضلًا عن جودة الأرض، كانت تحرّكنا الرغبة لتوسيع الحدود مهما تبلغ المصاعب (...) فليست مسألة الزراعة هي ما نصبوا إليه، بل إنّنا نطمع بالدرجة الأولى في ضمان أوسع الحدود الممكنة لبلادنا...".

استعمرت إسرائيل أقسام الجليل الّتي لم تكن مخصّصة للدولة اليهوديّة بحسب قرار التقسيم عام 1948، وكانت المنطقة الّتي خضعت للحكم الإسرائيليّ ذات أغلبيّة سكّانيّة عربيّة، ولا تزال حتّى يومنا هذا. ولتغيير هذا الواقع، طرح حكّام إسرائيل مسألة تنفيذ مشروع التهويد الصهيونيّة تحت ذرائع مختلفة، منها ’التطوير‘ و’توزيع الأرض‘.

يكشف مشروع تهويد الجليل الّذي أُطْلِقَ عليه اسم «مشروع تطوير الجليل»، عن نواياه بوضوح في نصّه الّذي جاء فيه: "القضيّة الخاصّة بالجليل هي قلّة السكّان اليهود بالنسبة لغير اليهود، الّذين يؤلّفون 70 بالمئة من مجموع السكّان (...) وفي أطراف الجليل، هناك 40 ألفًا من السكّان غير اليهود، يقطنون ضواحي حيفا وعكّا وطمره وشفا عمرو...".

أي أنّ مشروع التطوير المزعوم كان يهدف إلى تحويل إقليم الجليل الجبليّ إلى منطقة ذات أكثريّة يهوديّة، وقد تقرّر تنفيذ المشروع على مرحلتين: المرحلة القريبة حتّى عام 1980، والمرحلة اللاحقة حتّى عام 1990. وفي هذا استمرار للخطّة الصهيونيّة في التعامل مع العرب، القائلة "إنّ ما أصبح في يدنا هو لنا، وما لا يزال في يد العرب، هو المطلوب، وهو موضوع التفاوض"، وهكذا بدأت الحكومة الإسرائيليّة زحفها على منطقة الجليل.

 

مؤامرة على الجليل

في الثالث عشر من شباط (فبرابر) عام 1976، صَدَرَ أمر الشرطة بمنع دخول السكّان إلى المنطقة رقم (9)، جاء فيه "مَنْ يدخل إلى المنطقة المذكورة، ولأيّ غرض كان، يعرّض نفسه لطائلة القانون، وحكمه كحكم مَنْ يدخل ثكنة عسكريّة دون إذن". وقد أثار هذا الأمر سخط السكّان، خاصّة الفلّاحين الّذين أحسّوا بخطر الاستيلاء على أراضيهم، وتهديد لقمة عيشهم، فتنادى سكّان القرى إلى الاحتجاج، ذلك الاحتجاج الّذي تجسّد في «مؤتمر سخنين» المنعقد يوم 14 شباط (فبراير) 1976.

وكانت المنطقة رقم (9) في الجليل، معظمها سهليّة تستغلُّ في زراعة أشجار الزيتون والفواكه المختلفة، وفي أقسام منها تُزرع بجميع أنواع الحبوب والخضراوات. ومساحة الأرض الزراعيّة الّتي تقع ضمن المنطقة الّتي أغلقت، ليهدّدها خطر المصادرة، تبلغ حوالي 17 آلاف دونم، وهي أراض مملوكة لأصحابها العرب الساكنين في تلك المنطقة، انتقلت إليهم بالوراثة وبموجب شهادات تسجيل أصدرتها دائرة تسجيل الأراضي التابعة للحكومة الإسرائيليّة.

بعد هذا المؤتمر، تعالت الاحتجاجات في كافّة وسائل الإعلام، مما اضطرّ وزارة الدفاع إلى دعوة ممثّلي السكّان من رؤساء وأعضاء السلطات المحلّيّة، وانتهى الأمر إلى حلّ وسط، فجرى تقسيم المنطقة إلى قسمين، قسم يستطيع فيه العرب ممارسة عملهم الزراعيّ، ولا تجري فيه المناورات العسكريّة، على أن ينظَّف هذا القسم من مخلّفات الجيش مثل المتفجّرات والألغام، وعلى أن تُعطي السلطة للأهالي تصريحًا جماعيًّا لمدّة عام لممارسة الزراعة فيها. وقسم ثانٍ تجري فيه المناورات العسكريّة ولا يمكن الدخول إليه إلّا بموجب تصريح خاصّ من الجيش. وعلى كلّ حال، بقيت الأرض لأصحابها، ولم تصادر أيّ أرض من القسمين.

 

فتح النار على المسالمين العرب

لكنّ السلطة الاستعماريّة الإسرائيليّة سرعان ما بدأت بمصادرة الأراضي في الجليل، لإقامة مستوطنات يهوديّة جديدة في المنطقة رقم (9). فدعت «لجنة الدفاع عن الأراضي العربيّة» إلى اجتماع في الناصرة يوم 6 آذار (مارس) 1976، حضره رؤساء وأعضاء السلطات المحلّيّة في المنطقة. وفي هذا الاجتماع، قرّر الحاضرون إعلان يوم 30 آذار (مارس) 1976، إضرابًا عامًّا للعرب في ’إسرائيل‘، احتجاجًا على سياسة الحكومة بإعلان مصادرة أراضٍ عربيّة في الجليل.

تحرّكت السلطة الاستعماريّة الإسرائيليّة على الفور في محاولة لاستمالة بعض أعضاء المجالس المحلّيّة، لتحصل منهم تحت الضغط والتهديد والترغيب، على قرار مضادّ بمناهضة الإضراب السلميّ العامّ. وفي يوم 29 آذار (مارس) 1976، أي قبل موعد الإضراب بيوم واحد، توجّه مندوبو قرى سخنين وعرّابة ودير حنّا إلى مراكز الشرطة، مطالبين بعدم ظهور قوّات الشرطة وسط جماهير الإضراب منعًا لأيّ اصطدام محتمل، باعتباره إضرابًا سلميًّا. ونظرًا لأنّ هذه القرى ليس فيها أيّ مؤسّسات حكوميّة، يُخشى عليها من اعتداء المتظاهرين، ممّا قد يبرّر وجود قوى الشرطة.

ورغم موافقة المسؤولين على هذا الطلب، فقد تصاعدت الأحداث ابتداءًا من ذلك اليوم؛ ففي نفس الوقت الّذي جرى فيه هذا اللقاء، دخلت قوّات الجيش إلى دير حنّا وعرّابة، وأطلقت النار على الفلّاحين العرب فقتلت منهم وجَرَحَتْ.

وفي يوم 30 آذار (مارس) 1976، وفي الساعات الأولى من الصباح، والقرى بعد يلفّها الهدوء، قبل أن يستيقظ أهلها من نومهم، كانت سيّارات الشرطة، ومن خلفها مجنزرات الجيش، تحتلّ هذه القرى، وتذيع النداءات إلى الأهالي بمنع التجوّل حتّى الساعة العاشرة مساءًا.

 

أسطورة الفردوس الإسرائيليّ

كان حصاد ذلك اليوم سلسلة من الفظائع والاعتداءات الصارخة على الأهالي العرب، استُخْدِمَت فيها أساليب الإرهاب الّتي تذكّرنا بالوسائل الّتي كان يمارسها النظام النازيّ. كانت القسوة الوحشيّة الّتي تصرّف بها الجيش الاستعماريّ والشرطة وحتّى الأطبّاء، كشفًا كاملًا لأكذوبة الديمقراطيّة الإسرائيليّة، وتأكيدًا على عنصريّة النظام والدولة.

استُشهِدَ عدد من الفلّاحين العرب، من رجال ونساء وأطفال، وجُرِحَ آخرون، وطُرِدَ بعد ذلك العمّال العرب من وظائفهم، وتحطّمت المنازل وخُرِّبَتْ محتوياتها، كما اعتُقِلَ عدد كبير من أهل المنطقة. لقد هزّت أحداث ذلك اليوم الرأي العامّ الإسرائيليّ والعالميّ، وحطّمت أسطورة الفردوس الّذي يعيش فيه العرب داخل ’إسرائيل‘.

ولم تكتفِ السلطات بهذه المذبحة، بل راحت تغرق الرأي العامّ المحلّيّ والعالميّ بسلسلة من الأكاذيب، وكان لا بدّ من التصدّي لأكاذيب الدعاية العنصريّة؛ فقرّرت «اللجنة القطريّة للدفاع عن الأراضي العربيّة» في ’إسرائيل‘، أن تصدر «الكتاب الأسود عن يوم الأرض»، تسجّل فيه وقائع الجريمة الّتي ارتكبها حكّام إسرائيل، ولتدحض به كذب أجهزة غسل الدماغ في ’إسرائيل‘. انطلاقًا من هذا الكتاب الأسود الّذي أصدره الفلسطينيّون في الأراضي المحتلّة عام 1948، قرّرت «مؤسّسة صامد» استيحاء ما جاء به والتعبير عنه سينمائيًّا، فكان ذلك الفيلم الوثائقيّ الّذي أخرجه الفنّان غالب شعث.

وقد استغلّ غالب شعث الذكرى الأولى ليوم الأرض في 30 آذار (مارس) 1977، ليجمع مادّة فيلميّة لإخراج الفيلم. اعتمدت المادّة الّتي وردت عن طريق وكالات الأنباء العالميّة، وعلى الأفلام الّتي جرى تصويرها على يد فريق عالميّ من مصوّرين سينمائيّين، دَخَلَ إلى الجليل بإيحاء من مخرج الفيلم، ليصوّر الاحتفال الأوّل بذكرى «يوم الأرض»، وليسجّل فيلميًّا شهادات مَنْ شاركوا وعاصروا الأحداث الدامية الّتي جرت في 30 آذار (مارس) 1976.

يبدأ الفيلم بأقوال شمعون بيريز ومناحيم بيغن وآرئيل شارون، الّتي تتناقض كلّيًّا مع ما حدث في «يوم الأرض»، ومع كافّة إجراءات المصادرة والتهويد الّتي تجري حاليًّا. يقول بيريز، وزير الدفاع الإسرائيليّ السابق، في 19 شباط (فبراير) 1976: "إنّ عرب إسرائيل يجب أن يعتبروا أنفسهم مواطنين إسرائيليّين، وأرجوا أن يفعلوا ذلك". ويقول مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل السابق، في 22 أيّار (مايو) 1977: "نريد أن نعيش مع العرب بمساواة في الحقوق (...) والسلامة والكرامة الإنسانيّة". ويقول آرئيل شارون، وزير الزراعة الإسرائيليّ السابق، في 12 أيلول (سبتمبر) 1977: "نحن جميعًا، كنّا دائمًا نحرص جدًّا على عدم إيذاء المواطنين المحلّيّين أو مصادرة أراضيهم".

ثمّ تتابع أحداث وشهادات الفيلم لتؤكّد كذب هذه الأقوال، ولتعرض صورة حيّة لفظائع الحكومة العنصريّة الّتي لم تقبل أن يتمتّع العرب داخل ’إسرائيل‘ بأيّ حقّ من حقوق المواطنة، واستكثرت على العرب أن يمارسوا الحقّ الّذي يمارسه كلّ مواطن إسرائيليّ بحكم القانون، أي حقّ الإضراب السلميّ.

يمكن اعتبار فيلم «يوم الأرض» وثيقة حيّة يجب أن يطّلع عليها العرب في كلّ مكان، حتّى يتثبّتوا من صدق الشعار الّذي سبق لنا وأن أوردناه، والّذي جاء في ختام الفيلم: "إذا كان حكّام إسرائيل قد فشلوا في أن يصيغوا سلامًا مع نصف مليون عربيّ، يعتبرون مواطنين إسرائيليّين، فكيف ستنجح هذه السياسة في أن تصيغ سلامًا مع الشعوب العربيّة".

 

المفتاح... وغالب شعث

لا بدّ أن نسجّل لـ «مؤسّسة صامد» الفلسطينيّة فضل إنتاج هذا الفيلم. هذه المؤسّسة الّتي بدأت بوصفها جمعيّة لأبناء شهداء فلسطين، ثمّ تحوّلت إلى نواة ما يمكن أن يسمّى القطاع العامّ الفلسطينيّ.

وليس هذا هو الإنتاج الأوّل لقسم الإنتاج السينمائيّ في المؤسّسة؛ فقد سبق أن أَنْتَجَ فيلم «المفتاح»، الّذي أخرجه أيضًا الفّان غالب شعث، وشارك به في «مؤتمر الإسكان العالميّ» الّذي نظّمته «هيئة الأمم المتّحدة»، في فانكوفر، كندا، عام 1976.

يتحدّث «المفتاح» عن مشاكل الإسكان بالنسبة للشعب الفلسطينيّ، ومن خلال هذا الفيلم، يُعرَضُ فقدُ البيت، والانتقال إلى المخيّم، ثمّ الطرد من المخيّم، متحدّثًا عن محنة اللاجئ الفلسطينيّ داخل ’إسرائيل‘ وخارجها.

وقد اشتُقّت تسمية المفتاح ممّا حدث عام 1948، عندما احتفظ اللاجئون الفلسطينيّون بمفاتيح بيوتهم الّتي هُجِّروا منها، على أمل العودة إليها. ولهذا يحتلّ المفتاح مكانًا بارزًا في البيوت أو المخيّمات الّتي انتقلوا إليها.

ورغم أنّ ذلك المؤتمر لم يكن مؤتمرًا سياسيًّا، فقد نجحت «صامد»، من خلال اشتراكها بهذا الفيلم، في أن تطرح على أعضاء ذلك المؤتمر، محنة المواطن الفلسطينيّ، المتمثّلة في عمليّات التشريد المتواصلة الّتي يخضع لها. وقد نجح الفيلم في تحقيق هذه النتيجة عند عرضه في المهرجانات العالميّة للفيلم التسجيليّ، مثل «مهرجا كراكوف» في بولندا، و«مهرجان لايبزيج» في ألمانيا، و«قرطاج» في إسبانيا، حيث حصل الفيلم في جميع هذه المهرجانات على الجوائز الفضّيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.