الطبيب الشاهد: يوسف عراقي يروي نجاته من مجزرة تلّ الزعتر

الطبيب يوسف عراقي خلال محاضرة في الناصرة

كُتبت مجزرة تلّ الزعتر بيدين من دماء في تاريخ الشعب الفلسطينيّ. أحمد الزعتر نادى متحدّيًا بقلم محمود درويش: 'من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج، كانوا يعدّون الجنازة وانتخاب المقصلة، أنا أحمد العربي، فليأت الحصار، جسدي هو الأسوار، فليأت الحصار، وأنا حدود النار، فليأت الحصار.'

لكنّ أحمد الزعتر رحل رغم إصراره على العودة إلى حيفا، إذ قُتِلَ ومعه قرابة 4280 فلسطينيًّا عام 1976 في مخيّمات اللجوء بلبنان.

مرّت 40 عامًا على مجزرة تلّ الزعتر، بكلّ معانيها المأساويّة وبتفاصيل جرح أبناء المخيّم الذين حُفِرَتْ أحداث الحصار والمجزرة عميقًا في ذاكرتهم وطُبِعَتْ في قلوبهم حرقة لا ترحل مع الزمن، حتّى يومنا هذا. ومن بين الذين كانوا في المخيّم حينها، الطبيب يوسف عراقي، المولود في حيفا عام 1945 والمُهَجَّر إلى لبنان بعد ثلاثة أعوام من ولادته، في نكبة فلسطين عام 1948.

يوميّات طبيب في تلّ الزعتر

الطبيب، والشاهد، والموثّق لأحداث تلّ الزعتر، يوسف عراقي، دوّن ما عاشه من تجارب في كتاب 'يوميّات طبيب في تلّ الزعتر'، والذي صدر أوّل مرّة عام 1977، أي بعد شهور من وقوع المجزرة. وفي حديث خاصّ لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة معه، قال: 'شعرت بواجب كتابة هذه اليوميّات توثيقًا للذاكرة الجماعيّة كي لا تضيع ويضيع معها تاريخ ما حصل في تلّ الزعتر، فقد كنت شاهدًا وعايشت الحصار والمجزرة، وبعدهما كُتِبَتْ عدّة روايات لا صلة لها بواقع ما حصل، وفيها الكثير من الخيال، وقد كان همّي أن أنقل ما شاهدت وعايشت خلال عملي كطبيب في المخيّم.'

تعلّم عراقي في سنوات طفولته بمدارس الأونروا، وبعد تخرّجه درس الطبّ في موسكو ضمن منحة دراسيّة من منظّمة التحرير، ثمّ عاد إلى لبنان إبّان الحرب الأهليّة والتحق بالهلال الأحمر الفلسطينيّ، وبدأ العمل في مستشفى تلّ الزعتر في 11 آب (أغسطس) 1975، وبقي هناك خلال أيّام الحصار حتّى سقوط المخيّم في 12 آب (أغسطس) 1976.

عن توثيق مجزرة تلّ الزعتر، علّق عراقي بأنّه 'لا يستطيع أيّ إنسان، وحيدًا، أن يغطّي كلّ ما حدث في تلّ الزعتر، لأنّ المجزرة كانت كبيرة وتحتاج لأكثر من شخص ليكتب عنها ويؤرّخ لها حتّى تكتمل الصورة، وقد حاولت بدوري نقل إحساسي تجاه ما عايشته على شكل يوميّات توثّق حياة الناس داخل المخيّم، بتفاصيلها العاديّة والاجتماعيّة، في المدّة القليلة قبل الحصار، وخلاله، وبعد خروجنا من المخيّم إثر المجزرة، لتكون هذه اليوميّات للأجيال القادمة، حتّى تعرف حقيقة ما حدث.'

يوم الخروج... طريق الموت

'كلّ الأحداث خلال الحصار قاسية ومهمّة، لكنّ أهمّ مرحلة هي اليوم الأخير. يوم الخروج كان من أصعب اللحظات التي عشناها،' هذا ما قاله عراقي، مبيّنًا أنّه 'كان من المفترض أنّ هناك اتّفاقًا بين القوّات الانعزاليّة ومنظّمة التحرير، برعاية الجامعة العربيّة، على إخلاء الجرحى والمدنيّين من قبل الصليب الأحمر، لكن تبيّن أنّ ما حصل كان خدعة كبيرة، إذ استغلّت القوّات الانعزاليّة (حزب الكتائب اللبنانيّ، وجيش لبنان الجنوبيّ، والجيش الإسرائيليّ) وجود الاتّفاق، وهاجموا المخيّم ووصلوا إلى الناس وقادوهم في ’طريق الموت‘، فقد أجبرونا على المرور في طريق ثمّ راحوا يطلقون الرصاص على الناس عشوائيًّا، ومن ضمن الذين قُتِلوا 14 ممرّضًا وممرّضة أوقفوهم لدى جدار وأطلقوا النار عليهم جميعًا.'

من الوثائق التي عرضها يوسف عراقي

عراقي كان من بين هؤلاء الأطبّاء والممرّضين والممرّضات المحكوم عليهم بالإعدام، لكنّ أحد مقاتلي الكتائب تعرّف عليه، لأنّه كان جريحًا في يوم ما، وعالجه عراقي وأجرى له عمليّة في منطقة الصدر، فحاول المقاتل إنقاذ حياته بإخراجه من دائرة المعدومين، في الوقت الذي كان فيه بعض الجنود ينوون إطلاق النار عليه، وفي هذه اللحظة الحاسمة ظهر ضابط سوريّ كان قد أجرى له عراقي عمليّة في يده هو الآخر، فحسم الموقف بإنقاذ حياته، ليتحوّل من محكوم بالإعدام إلى معتقل.

وحول هذا يضيف عراقي: 'أصبحت معتقلًا، أخذوني في طريق مليئة بالجثث على امتداد 250 مترًا، نساء ومسنّين وأطفال، في حين خرج المقاتلون من الجبال ولم يبق غير المدنيّين في المخيّم. كان المنظر مرعبًا ومكتظًّا بالجثث، وقد تعرّفت على كثير من هويّات أصحابها الذين عرفت معظمهم. اعْتُقِلْتُ حتّى إجراء المفاوضات في ذلك اليوم، وأُفْرِجَ عنّي في المساء، لأتوجّه بعدها إلى بيروت الغربيّة.'

وحيدون في المعركة

وعن تعامل الإعلام مع مجزرة تلّ الزعتر، أفاد عراقي أنّه خلال الحصار لم تكن وسائل إعلام وفضائيّات، واقتصرت التغطية على الصحافيّين والمراسلين الذين ينقلون الأحداث مرّتين في اليوم، ويتواصلون معنا عبر جهاز لاسلكيّ. صحافيّون إيطاليّون، وغيرهم، اهتمّوا بمسائل التغذية كنقص الماء، لكنّ الإعلام لم يتعرّض لما كان يحدث داخل المخيّم، لأنّهم لم يكونوا موجودين فيه، وبعد خروجنا بدأت المقابلات والمؤتمرات الصحافيّة، وقد سئلنا عن الوضع الذي كان في المخيّم ونقلنا شهادات حيّة لمن بقي وعاش من أهالي المخيّم، ليُصنع بعد ذلك فيلم إيطاليّ عن مخيّم تلّ الزعتر ومجزرته.

تابع عراقي بحزن واضح: 'الحديث عن مجزرة تلّ الزعتر استمرّ لسنوات بعد المجزرة، لكن بدأ حضور هذا الحدث يتراجع إعلاميًّا بعد ذلك، بسبب كثافة الأحداث السياسيّة وتطوّرها، وعلى الرغم من الجرح العميق، إلّا أنّ أهلال مخيّم فقدوا حماس الحديث عن مأساتهم، فقد شعروا بأنّهم تُركوا وحيدين في المعركة.'

ولفت عراقي إلى أنّ الكثيرين حاولوا استخدام دماء شهداء تلّ الزعتر في السياسة وأغراضها ومتاهاتها، تحديدًا في الآونة الأخيرة، مع 'الربيع العربي'، قال: 'أرفض أن يُستخدم اسم تلّ الزعتر لتصفية حسابات سياسيّة بين أطراف عربيّة. كنّا نتحدّث لهم عن تلّ الزعتر لمناسبة 12 آب، وكنت أتّصل بالفضائيّات الكبيرة طالبًا منهم أن يذكروا اسم مجزرة تلّ الزعتر في برامج مثل ’حدث في مثل هذا اليوم‘، وعلى مدى 3 سنوات حاولت مرارًا التواصل معهم، وأرسلت لهم رسائل إلكترونيّة، لكن دون أيّ ردّ يذكر منهم. لكن بعد الذي حصل العالم العربيّ مؤخّرًا، بدأوا يتّصلون بي لإجراء مقابلات معي بهدف استخدامي منصّة للهجوم على بعض الجهات السياسيّة، لذا شعرت أنّ هناك نوعًا من الاستغلال للمجزرة لحسابات سياسيّة، وأنا أرفض ذلك.'

إلى حيفا

يعود عراقي، المولود في حيفا والمُغَيّب عنها قسرًا في الشتات، إلى وطنه، هذه الأيّام، عبر عدّة ندوات تُنَظّم في حيفا والناصرة وأمّ الفحم وعرّابة، يلقيها لمناسبة إشهار الطبعة الثالثة من كتابه، بعد مرور 40 عامًا على المجزرة، بمبادرةٍ من رابطة خرّيجي معاهد وجامعات روسيا والاتّحاد السوفييتي سابقًا.

صور لممرّضين استُشْهِدوا في تلّ الزعتر

في الناصرة، بمركز ليوان الثقافيّ، اجتمع العشرات من المترقّبين حديث عراقي، الذي قال لفُسْحَة مستشهدًا بمحمود درويش: 'أيّها النسيان: إنّك تليق بكلّ الأسماء ولكنّك لن تكون تلّ الزعتر.' وتابع: 'وجودي هنا لغايتين، الأولى إشهار الكتاب بطبعته الثالثة، والثانية للحديث عمّا حصل في تلّ الزعتر، فهناك من لا يعرفون عن حقيقة هذه المجزرة مع غياب الحديث عنها، لا سيّما الجيل الجديد. إنّها الحاجة لإحياء الذاكرة الجماعيّة، وهذا بالنسبة لي مسؤوليّة كبيرة وواجب تجاه الشهداء.'

واختتم عراقي قائلًا إنّ وجوده بين أهله وفي وطنه بعث في نفسه أحاسيس جعلته يشعر بالحياة من جديد، لا سيّما على أرض وطنه الذي يفتقده، مؤكّدًا أنّه شعور غير عاديّ أبدًا.