الجزائريّ مدني قصري: الترجمة في الوطن العربيّ دون مستوى تحدّياتنا

مدني قصري

 

يُعَدّ الكاتب والمترجم الجزائريّ مدني قصري، المقيم في الأردنّ منذ عام 2001، من المبدعين الذين ينجزون مشاريعهم بهدوء، بعيدًا عن ضجيج الوسطين الثقافيّ والإعلاميّ، على الرغم من صداقته لهما وعمله منذ مجيئه إلى عمّان في صحافتها الثقافيّة. مبدع أحبّ المدينة فاستقرّ بها لأنّها منحته الهدوء حتّى ينجز مشاريعه في الترجمة، التي أصدر بعضها عن 'دار المنى' في السويد، منها 'فتاة البرتقال' للكاتب النرويجيّ جوستاين غاردر، وثلاثيّة 'الطريق إلى القدس' ليان غيو، وبعضها قيد الصدور، كمشروع ترجمته الشعر من العربيّة إلى الفرنسيّة، والعكس، الذي يعمل عليه في الوقت الحاليّ.

أنجز بالإضافة إلى الروايتين المذكورتين ترجمة عدّة كتب: 'ما قاله يونج حقًّا' (علم نفس)، 'سرّ الصبر' (رواية)، 'عالم أنّا' (رواية)، 'ملاك النسيان' (رواية)، 'قيصرات روسيا' (رواية تاريخيّة)، 'حوارات بين الشرق والغرب' (إعداد وترجمة، يتناول الكتاب حوارات مع شعراء أردنيّين وعرب، وأخرى مترجمة عن الفرنسيّة مع مفكّرين فرنسيّين)، 'سنوات صدّام (سياسة)، 'الحلم المكسور' (سياسة).

ترجمة مدني قصري

أولى ترجماتك كانت لرواية 'فتاة البرتقال' للكاتب النرويجيّ جوستاين غاردر. ما الذي استفزّك لترجمة هذه الرواية؟

الذي استفزّني بداية، قبل الرواية، اهتمام 'دار المنى' في السويد بترجمة أدب البلدان الإسكندنافيّة الذي يختلف كثيرًا عن أدب باقي البلدان الأوروبيّة، من حيث تناوله للمثل العليا والقيم الإنسانيّة، وللبعد الإنسانيّ والوجوديّ فيه، ما يجعله أقرب إلى تساؤلات الإنسان التي نكاد لا نرى لها أثرًا واضحًا في الأدب الغربيّ الموغل، بعامّة، في المادّيّات والخيال العلميّ والاستهلاك المجّانيّ. 

أمّا اهتمامي برواية 'فتاة البرتقال' تحديدًا، فنابع من الأسئلة الوجوديّة التي يطرحها كاتبها: ما هو الإنسان؟ ما هو الكون؟ إلى أين يمضي العالم؟ فضلًا عن غوصه في الأسئلة الخالدة التي يلفّها الغموض والقلق والحيرة، تلك التي خاض فيها الفلاسفة من غير أن يجدوا لها إجابات شافية، والتي ما فتئت تشغل العقل البشريّ منذ القِدَم، كالعدم والوجود، والزمان والمكان.  

إلى أيّ حدّ يكون المترجم أمينًا في نقل النصّ الأصل إلى لغة أخرى؟

الهدف من الترجمة إقامة معادلة بين النصّ المكتوب باللغة 'الأصل'، واللغة 'الهدف'، بمعنى أن يكون للنصّين، 'الأصل' و'الهدف'، المعنى نفسه، مع الأخذ بالاعتبار الضغوط التي تفرضها كلّ لغة، من سياق، وقواعد لغويّة... إلخ، حتّى يصبح النصّ مفهومًا ومستساغًا في أذهان الأشخاص الذين لا يملكون اللغة الأصل، أو لا يملكون نفس الثقافة، أو نفس المخزون الثقافيّ.

ما تزال الترجمة إلى الآن، وسوف تظلّ، وظيفة إنسانيّة في الأساس، لأنّها لا تقوم على مجرّد كلمات وألفاظ وعبارات، بل أيضًا على دلالات واستعارات، وعلى صور، ورموز، ومشاعر، وأنماط تراثيّة، لا يستطيع أيّ جهاز تكنولوجيّ أن يترجمها ترجمة أوتوماتيكيّة.

هل الترجمة خيانة حقًّا، كما يرى البعض؟

أقول إنّها كذلك أحيانًا، وليس دائمًا، إذ يستطيع المترجم تجاوز مصاعب الترجمة من دون خيانة النصّ الأصل، إذا توفّرت لديه الأدوات اللغويّة والمعرفيّة الواسعة الضروريّة، لذلك، فإنّ اللغة عنصر أساسيّ في عمليّة الترجمة، تربطها بها علاقة حميمة لا جدال فيها؛ فالمترجم يشتغل بلغتين مختلفتين (أو أكثر)، وعليه أن يتقنهما معًا حتّى لا ينقل إلى المتلقّي نصًّا مشوّهًا، لأنّ المتلقّي لا يعرف الكاتب الأصليّ. وعليه، فإنّ ما يصدره من أحكام أو آراء، يتوقّف على النصّ المترجم أساسًا. لذا، يتعيّن على المترجم، أيضًا، أن يكون مطّلعًا على السمات الأساسيّة للمجتمعات، وعلى سياقاتها الحضاريّة والثقافيّة، ودلالاتها اللغويّة، وخلفيّاتها الفكريّة والروحيّة والرمزيّة، حتّى لا يشوّه تصوّرات هذه المجتمعات، التي ينقل رسالتها إلى ثقافة مختلفة.

لا يكفي لأيّ مترجم، عندما ينقل نصًّا من لغة إلى لغة، أن يتحكّم باللغة 'الأصل'، بل من الضروريّ جدًّا أن يتقن اللغة 'الهدف' أيضًا، أي اللغة الأمّ؛ فكم من نصّ أدبيّ جميل، أبدعه مبدع كبير، استحال إلى نصّ إنشائيّ باهت! هنا الخيانة، حتّى وإن لم تكن مقصودة. ناهيك عن أنّ المترجم يجب ألّا يكتفي بما يملكه من أدوات لغويّة، فهو قريب من الكاتب والأديب، والصحافيّ، ومن رجل القانون، والمفكّر، ومن رجل العلم... الخ. والمترجم، فوق ذلك، باحث متعدّد الآفاق، فهو يبحث في اللغات، وفي الثقافات، وفي الحقول الفكريّة والعلميّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والنفسية، وغيرها.

في كثير من الأحيان، نجد مترجمًا يتقن اللغة 'الأصل' ولا يتقن اللغة 'الهدف'، وهي لغته الأمّ في غالب الأحيان، فينتج عن ذلك ترجمة رديئة، أو غير مكتملة، أو مشوّهة، فيسيء هذا المترجم للكاتب الأصليّ، ويسيء لقارئه أيضًا، وأكثر من ذلك، يسيء إلى ثقافته هو وثقافة الآخر، وبذلك يكون قد أخلّ بمسؤوليّته في نقل فكر الآخر نقلًا أمينًا، وهذه في رأيي جريمة يجب أن تضع المترجم تحت طائلة المسؤوليّة، لأنّ الترجمة مسؤوليّة أخلاقيّة ولا تقبل أيّ تدنيس.

ترجمة مدني قصري

ماذا عن حركة الترجمة في وطننا العربيّ؟

لا شكّ في أنّ حركة الترجمة في عالمنا العربيّ تعيش ركودًا مثيرًا للقلق والحيرة، إذ لا ترقى الترجمة إلى مستوى تاريخ العرب الحضاريّ؛ فالترجمة العلميّة والأدبيّة والوظيفيّة لا تحظى بسياسة واضحة، ولا بأيّ منهجيّة رسميّة من قبل الجهات المسؤولة، ولا بسوق تروّج للأعمال المترجمة، ولا ببنك معلومات يخصّ المترجمين العرب وأعمالهم المترجمة، ولا بدور نشر تهتمّ بنشر ما يُترجم، بجدّ. لذلك، صرنا نفتقد إلى المصادر العربيّة التي يمكن أن يرجع إليها الباحث العربيّ، أو حتّى الأجنبيّ الدارس للّغة العربيّة والمهتمّ بثقافتها. وأكثر من ذلك، لا وجود لأيّ نيّة صادقة لترجمة المعارف والعلوم التطبيقيّة، ولعلّ ذلك ما يجعل تدريس العلوم في جامعاتنا ومعاهدنا، حتّى الآن، باللغات الأجنبيّة، الإنجليزيّة والفرنسيّة بخاصّة. فهل القرار السياسيّ هو السبب؟ أم هو تقاعس الجامعات والمعاهد ودور النشر العربيّة عن القيام بهذه المهمّة؟

لا شكّ في أن واقع الترجمة في وطننا العربيّ، سواء من العربيّة إلى اللغات الأخرى، أو بالعكس، لا يبعث على التفاؤل، إذ ما زالت حركة الترجمة محصورة ضمن المبادرات والجهود الفرديّة الضيّقة، والتي لا تتوافر لها شروط الاتساع والاستمرار، ولا حتّى الإتقان. ليس لحركة الترجمة في بلداننا هدف واضح، ولا خطط دقيقة ومعلومة، ولذلك ليست الترجمة، على عكس بلدان متقدّمة، في مستوى التحدّيات الثقافيّة والسياسيّة والحضاريّة.

كان لك إسهام في مشروع 'كلمة' المختصّ بالترجمة الأدبيّة، ما هو تقييمك لهذه المبادرة؟

لا شكّ في أنّ الإمارات العربيّة المتّحدة دولة رائدة في نشر الثقافة، وإحياء حركة الترجمة في العالم العربيّ ودعم الحراك الثقافيّ، وقد سعدت شخصيًّا بإنجاز ترجمة أربعة كتب أطفال لمشروع 'كلمة'، وآمل أن يستمرّ تعاوني مع المشروع لما يميّزه من اختيار وجودة وإتقان وأمانة في نشر وترجمة مختارات واسعة وغنيّة لأهمّ المؤلّفات الكلاسيكيّة والمعاصرة عن لغات عالميّة.  

 الدور الثقافيّ لمشروع 'كلمة'، الذي يختصّ بالترجمة الأدبيّة، يستحقّ التقدير والتشجيع، لريادته، ولما يقدّمه من خدمات قيّمة في مجالات المعرفة، وتوفير خيارات واسعة للقرّاء من مختلف الأعمار. 

لك إسهامات في الترجمة على صعيد الدراسات والروايات، هل سبق وأن ترجمت الشعر؟ 

معظم ما أنجزته من ترجمات لها علاقة بالشعر، حوارات لمفكّرين وأدباء فرنسيّين، وهو ما جمعته في كتابي 'حوارات بين الشرق والغرب' الصادر في عمّان، بالإضافة إلى الكتب التي ترجمتها في مجال الأدب، 'فتاة البرتقال، وسرّ الصبر، وملاك النسيان، والطريق إلى القدس'، وغيرها، وكتب في علم النفس والسياسة. أمّا ترجمة الشعر، فلا تزال إسهاماتي فيها مقتصرة على الصحف والمواقع الثقافيّة، ومنها صحيفة 'الفكر'، حيث نشرت بعض القصائد.

ما هي المشاريع التي تعمل عليها الآن؟

أعمل حاليًّا على ترجمة الجزء الثالث من ثلاثيّة الكاتب يان غيو 'الطريق إلى القدس'، وهي روايات تاريخيّة، فضلًا عن عملي المتواصل مع 'دار المنى' التي أنجزت لها معظم ترجماتي الأدبيّة، إلى جانب مشروع أكبر لترجمة الشعر من العربيّة إلى الفرنسيّة، والعكس.

لماذا اخترت العاصمة عمّان، دون غيرها، للعمل والإقامة؟

لأنّني عاشق عمّان، عشق الكائن للمرأة النائمة في أعماق ذاته. لقد اكتشفت أنّ هذه المدينة الساحرة التي لا أسوار لها، هي رمز حيّ للتواصل مع الذات، ومع العالم، ونموذج للأرض التي لا يشعر فيها أيّ غريب بالغربة. 

 

محمّد عريقات

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. صدرت مجموعته الشعريّة الأولى تحت عنوان 'أرمل السكينة' بطبعتين، عن المركز القوميّ للدراسات والتوثيق في فلسطين 2009، وعن المؤسّسة العربّية للدراسات والنشر في بيروت 2010. صدرت مجموعته الشعريّة الثانية 'أكلتني الشجرة'، عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت 2016. حاصل على عدّة جوائز أردنيّة وعربيّة. يعمل في مجال الكتابة الدراميّة في المركز العربيّ للإنتاج الإعلاميّ.