شاميّة "المطبخ الفلسطينيّ"

المنسف: طبق المناطق العشائريّة والبدويّة في بلاد الشام

تجادل هذه المقالة بأنّه لا يوجد مطبخ فلسطينيّ مستقلّ عن المطبخ الشاميّ، وكذا مطابخ دول بلاد الشام الأخرى، لا تتمتّع باستقلاليّة. تشترك البلدان الأربعة، سوريّة، ولبنان، والأردنّ، وفلسطين، في مطابخها، فلا تختلف نكهاتها وفق الأفران أو المغارف السياسيّة التي أشعل كبريتها الاستعمار وحرّكها بعد الحرب العالميّة الأولى، إنّما تتمايز وفق الطبيعة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة للمناطق الجغرافيّة المتعدّدة في بلاد الشام.

أطباق المنطقة الساحليّة الشاميّة (إسكندرون، واللاذقيّة، وطرابلس، وبيروت، وحيفا، ويافا...) فيها تشابه كبير، بأذواقها ومكوّناتها، كذلك نجد هذا التشابه في المناطق المدينيّة الداخليّة (حماه، وإدلب، ونابلس، والخليل، بعلبك...)، وتحديدًا الحلويّات، إن كان في طريقة التحضير، أو الشكل، أو المكوّنات. كما أنّ المناطق والمدن الداخليّة العشائريّة، أو القريبة من المناطق البدويّة (حمص، وحماه، ومدن شرق الأردن، وبئر السبع...)، تتشابه هي الأخرى، بينما تتفرّد المدن الكبيرة (دمشق، وحلب، والقدس، وبيروت، وعمّان) بشموليّتها الغذائيّة وتنوّع أطباقها.

مائدة شاميّة

ومن منظور ثقافيّ مختلف عن المنظور الجغرافيّ السابق، سنجد تشابهًا في أرياف بلاد الشام بعامّة، في النمط الثقافيّ الغذائيّ، والذي يتمايز إلى حدّ ما عن النمط الغذائيّ المدينيّ، ما يعني أنّ المطبخ الشاميّ ذا ثقافة واحدة.

تستعرض هذه المقالة، على نحو موجز، طريقة طهو بعض المأكولات في عدد من مناطق بلاد الشام، المشرق العربيّ الصغير، محاولة إيضاح أسباب تشابهها واختلافها.

الصفيحة: أثر أرمنيّ

الصفيحة من الأطباق التي تشتهر بها بلاد الشام، وهي تتشابه في مدنها الداخليّة، إذ غالبًا ما تكون سميكة وصغيرة الحجم، مكوّنها الرئيسيّ اللحم المفروم، ونادرًا ما تضاف إليها الخضار، وهي أقرب إلى ما يسمّى 'اللحم بالعجين'، وهي تختلف في شكلها ومكوّناتها عن الصفيحة في الساحل السوريّ، من إسكندرون إلى طرطوس وبعض المناطق الساحليّة اللبنانيّة، إذ تكون رقيقة وواسعة الحجم، ويدخل في مكوّناتها البصل، والبقدونس، والبندورة، بالإضافة إلى اللحم، وهي تشبه ما يُسمّى 'الصفيحة الأرمنيّة' خارج بلاد الشام.

صفيحة

وتحافظ الصفيحة في حيفا على هذه المكوّنات، لكنّها سميكة وصغيرة الحجم. وربّما وُجِدَتْ على هذا الشكل في الساحل السوريّ واللبنانيّ، نتيجة الهجرات الأرمنيّة إلى أنطاكيا والساحل السوريّ، وحتّى في حلب والحسكة، بينما لم تطرأ تغييرات على شكلها في حيفا لغياب تأثير المكوّن الاجتماعيّ الأرمنيّ.

المناسف: كرم الضيافة

أمّا المناطق العشائريّة في بلاد الشام، فالأطباق الشعبيّة الرئيسيّة فيها مكوّنها الأساسيّ اللبن، مختلطًا مع قطع اللحم، بالإضافة إلى أنواع المناسف المتعدّدة، بالبرغل أو الأرزّ، ما يعكس الطابع الاجتماعيّ المشترك لأهالي تلك المناطق، إن كان في الثقافة البدويّة أو القريبة منها، التي تقوم على الكرم والاعتزاز بالضيف، أو في الموارد الاقتصاديّة السائدة المرتكزة على تربية الحيوانات وزراعة القمح.

يُعدّ المنسف الطبق التقليديّ في بئر السبع ومختلف مناطق شرق الأردن، وهو يحضّر عن طريق مزج جميد اللبن مع اللحم، والأرزّ، والخبز. وإذا ما نظرنا إلى درعا، على الحدود السوريّة الأردنيّة، سنجد أنّ الطبق التقليديّ فيها 'المليحي'، ويُعدّ بطريقة إعداد المنسف نفسها في بئر السبع وشرق الأردن، إذ يتكوّن، أيضًا، من قطع اللحم، والبرغل أو الأرزّ، واللبن الجامد، فلا يختلف عن المنسف إلّا بالتسمية.

المنسف في مضارب شرق الأردنّ

وفي مجمل منطقة حوران، جنوب سوريّة، قد يكون 'آذان الشايب' أحد أهمّ الأطباق الشعبيّة، ويتكوّن من الطحين، واللحم المفروم، واللبن. وفي حمص وحماه، وسط سوريّة القريب من الأرياف التي تربّي الأغنام وتتاجر بها، كما في دير الزور، شرق سوريّة، تُعدّ الشاكريّة (اللبن واللحم)، والكبّة اللبنيّة، والشيش برك (عجين باللحم مع اللبن)، أطباقًا شعبيّة منتشرة جدًّا، تقدّم إلى جانب الأرزّ، في الأعياد بخاصّة.

أطباق يوميّة

لننظر إلى الأطباق اليوميّة في الأرياف الشاميّة بعامّة، في العقود الماضية، وهي مناطق زراعيّة غنيّة وواسعة، تزرع فيها أنواع مختلفة من الخضروات. سنجد أنّ الكثير من تلك الأطباق، في مطابخ عائلاته، عبارة عن تحويل هذه الخضروات، مثل الفاصولياء، والباذنجان، والبامية، والكوسا... إلخ، إلى أطباق بطهوها مع البندورة ومكوّنات أخرى، وقد تُطبخ بطرق أخرى مختلفة. وكذلك طبخات الفول، والبطاطا، والملفوف... إلخ.

ولا تتمايز الأطباق القائمة على الخضروات في أرياف فلسطين عن أرياف سوريّة، ولبنان، والأردنّ. وفي المقابل، تشترك المدن المشرقيّة، المتوسّطة والكبيرة، بهذه الأكلات مع الأرياف، وتضيف لها أنماطًا متعدّدة من الوجبات.

بامية

وتشترك مناطق بلاد الشام بعامّة، في تحضير السمك وفق طرق معروفة ومحدّدة؛ المقليّ، أو المشويّ بأشكاله المختلفة، أو الصيّاديّة، أو بالفرن مع صلصات مرتكزة على الفلفل والثوم، ولا تحضّر أطباقه بطرق مختلفة، مثل إضافة نكهات وبهارات متنوّعة جدًّا، على الطريقة الآسيويّة. وهو الأمر كذلك مع أطباق الباذنجان، والكوسا، وورق العنب، والفليفلة، والبندورة، إذ لها طريقة طهو واحدة تقريبًا. ويمكن قول الأمر نفسه إزاء المجدّرة، والفريكة، والشوربات، والهريس، والكبب، والكفتة، والكباب، والحمّص، والمكدوس، والزعتر، والزيتون، والمعمول، والبقلاوة، وغيرها من الحلويّات... إلخ.

ثورة الدجاج

وقد أعادت ثورة الدجاج في العقدين الماضيين، نتيجة انتشار المداجن في الأرياف وعلى أطراف المدن، تشكيل المطبخ الشاميّ من جديد، ما أدّى إلى تقلّص التفاوت في أشكال المطابخ، سواء بين الأرياف والمدن، أو بين المناطق الساحليّة والداخليّة، أو حتّى الجبليّة، أو في البوادي، فانتشرت طبخات الأرز المتنوّعة مع الدجاج، وأشهرها 'الكبسة'، أو الدجاج مع المكوّنات الأخرى، كالدجاج بالبشاميل، أو الدجاج بالخضار مثلًا، فأصبح المعيار في السلوك الغذائيّ الانتماء الطبقيّ وليس المكانيّ، أو الثقافيّ.

أطباق مهاجرة

أنتج الفلسطينيّون عبر تاريخ علاقتهم مع الأرض، وترويضهم لحيواناتها، ورعايتهم لنباتتها، أطباقًا فلسطينيّة خاصّة، يمكن وصفها بـ 'الوطنيّة'، كالمسخّن، والقدرة، والمفتول، لكنّها لا تبتعد ثقافيًّا عن النمط السائد من الطعام في بلاد الشام، فهي ليست غريبة، لا شكلًا ولا مذاقًا، عن المطبخ الشاميّ.

مسخّن

نقل الفلسطينيّون أطيب وألذّ المأكولات التي أنتجوها عبر تاريخهم الطويل، مثل المقلوبة، والكنافة، والفلافل، مع هجرتهم ولجوئهم إلى دول الجوار العربيّ، قبل النكبة وبعدها، فأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من ثقافة الطعام السوريّة، واللبنانيّة، والأردنيّة، كونها لاقت قبولًا واستحسانًا، لانتمائها لثقافة مشتركة واحدة. وأصبح من الصعب على أيّ مواطن من هذه الدول ألّا ينسب الكنافة، أو الفلافل، أو المقلوبة، إلى ثقافته الوطنيّة.

نعتقد في هذا المقال بوجود مطبخ شاميّ جامع، ساهم في تكوّنه التاريخيّ سكّان المنطقة الجغرافيّة الشاميّة، من دون نفي تأثير مساهمات أخرى، تركيّة، وأرمنيّة، وشركسيّة مثلًا.

ويعود تنوّع أطباق المطبخ الشاميّ لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة فرضتها البيئة الطبيعيّة في بلاد الشام، أي لما تنتجه الأرض من موارد في منطقة جغرافيّة معيّنة، بالإضافة إلى البنى الاجتماعيّة فيها، والنظام الاقتصاديّ السائد. ولا تتعلّق ثقافة الطعام وأنماطه بانتماءات وحدود الدول القطريّة في زمن ما بعد الاستعمار.

 

نيروز ساتيك

 

 

مساعد باحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ويدرس الماجستير في علم الاجتماع والأنثربولوجيا في معهد الدوحة للدراسات العليا.