الكتابة، والاعتقاد غير المبالي بالتّبرير لنفسه

السّؤال متعلّق بهويّة الشّخص أكثر مما هو متعلّق بما يفعله، ليست الكتابة فعلًا يُختصر بذاته أو ينتهي عند حدوده، هي حالة إلى جانب كونها ممارسة، هي غالبًا هويّة الكاتب نفسه، نتاجُها، النّص المكتوب، هو التّفسير الأكثر إلمامًا لما هو عليه كاتبها.

وإن كان لأحدنا شخصيّتان، واحدة الكاتب أو النص المكتوب، وواحدة حياته الواقعيّة، كأن يكون في إحداهما وقحًا وفي الأخرى خجولًا، من غير الممكن تحديد أيهما الحقيقيّ، أيهما الأقرب إليه، وهو كليهما، والسّؤال أساسًا عن أيهما الحقيقيّ غير مجدي، وغالبًا، إن كان لا بدّ من الاختيار، فالأقرب ليكون حقيقيًا هو كاتب النّص، هو الكاتب في النّص، لما في ذلك من حرّية فرديّة أثناء الكتابة قد تتلاشى في الحياة الاجتماعيّة، فالواقعي ليس بالضّرورة حقيقيًا. تكون كتابة النّص بذلك متعلّقة أكثر من غيرها بهويّة كاتبه، بمصنع المشاعر والأفكار لديه، فتكون أكبر من الممارسة وأكبر من المهنة، وأكبر من كلا الهواية والحرفة حيث يُستسهَل تصنيفها.

لكنّ السّؤال ظلّ شخصيًا، سؤالًا لا إجابات عليه، ولا ينتظر أيًا منها، صار سؤالًا حاضرًا دائمًا، ودوام حضوره جعله في حكم الغائب، كأي حضور مُسلّم به، بالكاد يُلاحَظ.

بعيدًا عن المقدّمة العامة أعلاه، ما يمكن أن تستهلَّ مقالة أقرب للعموميّة وليس نصًا يطرح همًّا ذاتيًا، لستُ، حتى اللحظة، ممن يدركون أنّهم فعلًا كتّاب، رغم أني لا أجيد غير الكتابة، بغض النّظر عن مدى تلك الجودة لكنّي، على الأقل، أكيدٌ بأني لا أجيد أمرًا آخر، دون أن أكون مضطرًا، برأيي، لأن أجيد أمرًا ما، ولو واحدًا، في هذه الحياة.

لا أعرف إن كنت كاتبًا، بالمعنى الهويّاتيّ، أريد أن أكون لكن مازلت أحمل قلب وعقل الفتى الذي بدأ قبل عشر سنين تمامًا بالنّشر في صحف عربيّة، بعد سنة أو أكثر من النّشر في صحفٍ محليّة في فلسطين، والذي كان في حينها ينهي كتابَه الأوّل وينتظر صدوره. ليس لدي، في حياتي الجديدة نسبيًا، شيئًا أفضل، أو أقل سوءًا، أفعله، لا للمتعة ولا لملئ الوقت ولا للشُّغل، وصارت الكتابة عادة شبه يوميّة، تُمارس في البيت والمكتبة العامّة والمقاهي (هذا النّص بدأته في مقهى وأنهيته في المطار)، وصارت كذلك التزامًا مع آخرين، وصارت محاولات غير مقصودة للإجابة على سؤال مَن أنت وماذا تفعل في حياتك.

لستُ صحافيًا، نشرتُ مئات المقالات، في السّياسة والثّقافة، خلال السّنين العشر، ولستُ صحافيًا. أصدرت ثلاثة كتب والرّابع على الطّريق وليستْ، أيّ منها، قادرة على أن تمنحني تسمية: الأول كان نصوصًا نثريّة والثّاني مجموعة قصصيّة والثّالث قصائد والقادم رواية، وكتاب واحد في أي جنس أدبيّ لا أراه كافيًا لمنح التّسمية لصاحبه. أفكّر أحيانًا أنّه لو كان اثنان منهما من جنس واحد لارتحت، ولو قليلًا إلى أن أجد جنسًا آخر أستقرّ فيه. أربعة كتب ومئات المقالات ولا تسمية، غير تلك العامّة الشّاملة للجميع: كاتب، ولستُ حتى أكيدًا منها.

ولا أجد تفضيل مارغريت دوراس التي كتبت في أكثر من جنس أدبيّ، في أن تعرِّف بنفسها ككاتبة، لا روائيّة مثلًا، كما أشارت في كتابها 'كتابة' إن لم أكن مخطئًا، لا أجد هذا التّفضيل مريحًا إلا لمن استوفى التّسميات جميعها، واستحقّها، على حدة، ثمّ جمَعها بـ 'كاتبة'.

لكنّي أجدني مرتاحًا لردّ تشارلز بوكاوسكي الوارد في فيلم وثائقيّ يحمل اسمه، على سؤال متى أدرك بأنّه كاتب، حين قال أنّ لا أحد يدرك بأنّه كاتب، بل يعتقد وحسب بأنّه كاتب.

ردَّ لي ذلك بعض التّصالح مع سؤال ما أفعله في حياتي، بعض الوضوح في الهويّة، إذ يكفي الاعتقاد بأنّي كاتب، ولا أحد يُحاسَب بجديّة على اعتقاده، وهو ما يَسهل التّنازل عنه، ويَسهل التّظاهر بالاعتقاد بغيره في محادثة بسيطة. أستطيع أن أقول بأنّي أعتقد أنّي كاتب، أعتقد بأنّي يمكن أن أكون كاتبًا، إن أخذنا بعين الاعتبار كذا وكذا، دون أن أجد، بعد، ما هو أكثر تحديدًا من كلمة كاتب.

لكن كيف يمكن أن تكون الهويّة مقرونة بالاعتقاد، أن تكون الممارسة اليوميّة، كتابةً ومراجعةً، مقالةً وأدبًا، ولسنوات، أن تكون مفضيةً إلى الاعتقاد، الظّن، الشّك، تلك الحالة الأقرب للغيوم، تملأ السّماء ولا تُمسك؟ لا أعرف.

لكن، هنالك ما زاد القلقَ قلقًا لديّ مؤخَّرًا، ففي مقدّمة ترجمة 'بيغوين بوكس' لأعمال فرانز كافكا القصصيّة، قرأت أنّه: في ليلة 22/9/1912 حيث كتب 'المحاكمة' في جلسة واحدة، أصبح كافكا كافكا.

أعدتُ قراءة السّطر لأكثر من مرّة محاولًا فهم المقصود بذلك، أن يصبح أحدهم كاتبًا في ليلة واحدة، وليس أيّ كاتب، أن يصبح 'الكاتب العظيم' في ليلة واحدة، في جلسة واحدة وقصّة واحدة. هذا رأي مترجم كافكا المبالِغ في إعجابه بالقصّة كما يبدو. لا أعرف رأي فرانز ذاته بذلك، ورؤيته لنفسه قبل جلوسه لكتابة القصّة، وبعد انتهائه منها. لا أعرف إن استيقظ في اليوم التالي مدركًا بأنّه الآن كاتب، أو أنّه الكاتب العظيم كافكا، فارتدى بدلته ومشّط شعره وجلس لتُلتقط له صورتُه الشّهيرة.

يبقى الأنسب لديّ هو الاعتقاد. وليبقَ كذلك، اعتقادًا ومتخفِّفًا من التّبرير لذاته. قال بوكاوسكي أنّه بدأ بالاعتقاد بأنّه كاتب في مراهقته. ولأنّ الكتابة استعارات أكثر مما هي شيء آخر، سأستعير ذلك منه وأقول، بشيء من الاطمئنان، بأنّي سأحاول الاعتقاد بأنّي كاتب، مجرّد المحاولة، دون أن أسعى لتسمية أكثر تحديدًا، سأحاول ذلك إلى أن أعتقد فعلاً بأنّي كاتب، وقد يستغرق ذلك، لنقل، خمسين عامًا، وهذا سبب جيّد لمواصلة الكتابة، لخمسين عام على الأقل، بكلّ أشكالها. ولا أجدني الآن راغبًا بما هو أكثر من ذلك، الاعتقاد غير المبالي بالتّبرير لنفسه.