شعرٌ لنوّاف رضوان ومحمّد المعايطة في عمّان

شاعران في مساحة واحدة، وبوجهين مختلفين، حضر نوّاف رضوان ومحمّد المعايطة في أمسيتهما الشّعريّة الّتي أقامها 'جدل' الثّقافيّ، نهاية الأسبوع الماضي، بمنطقة اللّويبدة بالعاصمة الأردنيّة - عمّان.

استهلّ مؤسّس مبادرة 'حرف'، الشّاعر كايد عواملة، الأمسية، بالحديث عن مبادرته، الّتي أطلقها دعمًا للكتّاب والشّعراء الأردنيّين، حيث يقوم بنشر نصوصهم استخدامها في منتجات زراعيّة ونباتيّة، مثل زراعتها مع نبتة الصّبّار في أصيص.

قرأ الشّاعر محمّد المعايطة (الزّرقاء) عدّة نصوص تباينت موضوعاتها، منها 'مكالمة طوارئ'، و'لا عليك'، و'خيبة شعرية'، محاولاً أن يسرق بها وجوهًا أخرى لليوميّ الّذي نعيشه.

 أمّا الشّاعر نوّاف رضوان (الطّيرة)، فقد أخذ معه الحاضرين في جولة على شواطئ حيفا، بين وجوه البسطاء حينًا، وحينًا لوجه فلسطين، محاولًا هو الآخر أن يسرق وجهه الخاصّ ممّا نعيشه، بنصوص نثريّة وشعريّة.

تنشُر فُسْحَة مجموعةً من نصوص الشّاعرين، رضوان والمعايطة، الّتي ألقوها في الأمسية.

 

نصوص نوّاف رضوان

 

ذبابتان

ذبابتان تتضاجعان تحت لمبة الطّاولة...

وأنا ضجرٌ بما فيه الكفاية لأصف هذا المشهد.

ضجرٌ بما فيه الكفاية لأفرّق بين الضّجر والملل ...

لأقول مثلًا ...

الملل: ذبابٌ على الأنف، والضّجر: ذبابٌ يتضاجع.

 

الملل يهشّ الذّباب عن أنفه،

والضّجر يسأل: لماذا الذّباب موجودٌ يا ربّ؟

والضّجرُ إلهٌ احتار في أن يقولَ :

يا عبادي... أم يا عبيدي.

 

لقد قتلتُ عنكبوتًا ضخمًا. وخرج منه مليون عنكبوت،

إنّها أعدادٌ لا نهائيّة

سوف يقضمون خواصركم ويدخلون في عيونكم.

عناكبُ سوداءُ وبشعةٌ بأعدادٍ هائلة،

عناكبُ على الجدران والسّيّارات وإشارات المرور وأبواب البيوت...

إنّها تمشي داخل قلوبكم وفي آذانكم وأنوفكم ومؤخّراتكم،

على كاسات الشّاي والكراسي في المقهى ...

عناكبُ على كلّ شيء.

 

الجوّ جميلٌ والرّيح هادئة،

وما من شيءٍ أفعله هنا

سوى أن أتفرّج على

مدينةٍ متشابكةٍ بالهياكل العظميّة،

والحرير.

 

الغراب

أنا متعبٌ يا أبي ..

أنا متعبٌ من بلادٍ روتْها دماؤكْ.

أنا متعبٌ من وسائدَ محشوّةٍ بالحنين، ومن مطرٍ خبّأته سماؤكْ

ومن حائطٍ علّقوا وجهك الحجريَّ عليه، ومن ذكرياتٍ تكدّس فيها الغبارْ

ومن لغةٍ، كلّما هزّها شاعرٌ، يسقط الشّهداء على رأسه كالثّمارْ

 

أنا متعبٌ يا أبي...

علّموني المراثي وماتوا، وقالوا ارثِنا

أو تغنّى بِنا

ثمّ مالوا...  ومِلتُ على كسرةِ الميجَنا

أنا متعبٌ من بلادٍ نموت  بها مرّتينْ

أنا متعبٌ من بقايا زمانٍ يجفّ على جزمة العسكريِّ

ومنْ فرسٍ لا تجفّ عليها دماء الحسينْ

 

أنا لستُ منكم، أسمّي الشّهيد قتيلًا

أسمّيه ميتًا جديرًا بهذي الحياةِ

وسمّيتموهُ شهيدًا، لأنّكمُ ما تزالون يومًا جديدًا على قيد هذي الحياةْ

 

علّموني بأنّ مقابر هذي البلاد جماعيّةٌ مثل أحلامنا وانكساراتنا

علّموني بأنّ التّراب يشير  إليه الغرابُ

وقالوا ارثِهم يا غرابُ

 

أنا متعبٌ يا أبي من زغاريدهنَّ

وأرضي سرابُ

وحنجرتي بعدهنَّ خرابُ.

 

افتتاحيّة

أدخل السّنة الجديدة بقدمي اليسرى

أدخلها بجيوبٍ فارغةٍ وقلبٍ فارغ...

أدخلها وأنا أنظر إلى الأعلى؛

أنظر إلى هذه البنايات الشّاهقة والشّوارع النّظيفة...

وأجلق فمي مثل سائحٍ أبله...

 

أدخل السّنة الجديدة حافي القدمين على شاطئ حيفا...

بعد دقيقةٍ سيصير عمري ربع قرن،

وأقول في سرّي:

كيف أخذ منّا أولاد القحبة كلّ هذا...

بينما يجلس عجوزٌ يهوديٌّ بجانبي

ويقول في سرّه:

كيف ترك لنا أولاد القحبة كلّ هذا...

***

نصوص محمّد معايطة

 

'خيبة شعريّة'

لمّ في نظرته كلّ ما حوله

الشّجرة الميتة

الكراسي الفارغة... والممتلئة أيضًا

نظرة حبيبته وسط الحضور...

النّار في المدفئة

البنايات وأحزان سكّانها...

وأفراحهم أيضًا...

أصوات المارّة في شارعٍ مجاورٍ

خمسين كتابًا قرأها في الأشهر الماضية

قصيدةً جاهليّةً

صورة 'محمود دوريش' على الحائط

خلف المنصّة...

صور أدباءَ آخرين لا يعرفهم

على جدارٍ آخر...

أنفاس الحضور الباردة

نظرات فتاةٍ ما ظنّها معجبة...

كلّ خيالات اللّيلة الماضية

عن هذه اللّحظة

قطًّا عابرًا بالخطأ من أمام المنصّة

النّادل المزعج الّذي يأخذ طلبات الجالسين

وسط قراءته نصًّا بالغ الوجوديّة...

.....

لمّها كلّها في شهقةٍ واحدةٍ

وقال: 'يد الباب

        تشبه يد المعزّين

       لا تكفّ عن المصافحة

      .

      .

     يد الباب العجوز

    لا أحد يقبلها...'

أخذ شهقةً أخرى حتّى يتّسع صدره

لتصفيقٍ قادمٍ يناسب حجم فكرةٍ

وقامته الشّعريّة...

.......

صمت... خيبةٌ عابرة...

لم يصفّق أحد...

لكنّي الوحيد الّذي قلت

في نفسي...

'جميلٌ... التفاتةٌ لامعة'

وغادرتُ...

أمّا الشّاعر ربّما  أكله الحزن

ونام في حضن حبيبته

باكيًا..

 

ليس وحيدًا... تمامًا

.

.

هناك مدينة ألعابٍ في رأسه

رغم عزلته

هو ليس وحيدًا تمامًا...

ربّما ونّسه صداعٌ نصفيّ

حتّى يكتب نصًّا قليلًا بعيونٍ جاحظة

نصٌّ محدقٌ بجدار... وجدارٌ محدقٌ فيه...

....

ثلاثون طفلًا يكبرون في رأسه

يضربون جرس الفكرة

ويهربون...

يشترون الحلوى المكشوفة

من حلمٍ فاسدٍ...

....

يلوي ذراع الخيال

حتّى يكون منتصرًا ولو مرّةً واحدةً

في شجار...

....

رغم عزلته

يتشظّى ألف وجهٍ في يديه

تطير في الحجرة كصغار الذّباب...

وتحطّ على ورقةٍ فارغةٍ من الهراء

يكتب عنوانًا برأس الصّفحة

يصيد الذّباب به...

.

.

ثمّ يؤرّخ قصيدته الجديدة

الثّلاثاء/ السّابع من نيسان...

 

البيت العجوز

البيت العجوز..

والبحر الطّاعن في الرّيح

النّجمة الّتي اشتعلت منذ أزل

وعلّقت صورتها في سماء الشّرفة

الحجر الّذي أعياه الوَثْب

فاستراح بخطوةٍ ميتةٍ...

البرد المرغم على السّير

في شوارعنا الفارغة...

كلّها رفقة الشّاعر الكهل...

وضع أسماءها في زجاجة كحول

وشربها دفعةً واحدة

وكما يليق بأيّ سكران

راح يقيئها تحت كلّ نافذة..

...

'هنا...

  أجّلتُ موعدًا مع زوجة بحّار

  كنت خائفًا من أن أكتب عن البحر...

  فأصير خائنًا...'

..

'هنا...

 أغفلتُ موعدًا آخر...

  مراهقةٌ في أوّل العشرين

  كنتُ خائفًا من أن يأتي الرّبيع

   فيراني خائنًا...'

 

'هنا...

قبّلتُها تحت النّافذة.. ورحلتُ

كنتُ خائفًا أن تضيع رائحة

'البراندي' من فمي

  فتدعوني الحانة خائنًا...'

...

وتكوّر على رصيفٍ

ثمّ نام..

كان خائفًا أن يموت في المقبرة

فتدعوه الحياة... خائنًا...

.........

لكي لا تجهض فتيات الحيّ

أفراحهنّ على عتبة المرحاض..

ولا يشتهي الفقير رائحة الخبز

بملابس المارّة..

 

كي لا نستيقظ ونرى ظهر الوطن

يحمل بقجته ويغيب..

 

خذوا قطعة زجاجٍ من شبابيك

البلد القديم... وحدّقوا بوجوهكم جيّدًا...

أن نكون بدائيّين

كي نصل النّهاية في سلام...