فلسطين كما عاشها حنّا أبو حنّا

علي مواسي وحنّا أبو حنّا

 

'هذا البلاط الأصليّ؟' سأل وهو يتأمّل أرضيّة المحطّة في حيفا مطوّلًا، وكأنّه يقرأ في ألوانه وخطوطه حكايات وأسماء كان شاهدًا عليها، ودروبًا سلكها أصحاب المكان في اتّجاه واحد، ولمّا يعودوا.

راح حنّا أبو حنّا ينقلنا من مشهد إلى مشهد، من مكان إلى مكان، من حكاية إلى حكاية، مجيبًا على أسئلة محاوره، محرّر مجلّة فُسْحَة، علي مواسي، حول 'فلسطين الّتي عرفها'، وأبرز محطّاته المتعلقّة فيها، تربويًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا، وأدبيًّا، وذلك خلال ندوة نظّمتها كلّ من جمعيّة ذاكرات (زوخروت) وتعاونيّة المحطّة.

بأسلوب سرديّ ممتع، وبتفاصيل دقيقة جدًّا، روى أبو حنّا المولود عام 1928، كيف تنقّل في الجغرافيا الفلسطينيّة خلال طفولته وصباه، عندما كانت البلاد كيانًا واحدًا قبل النّكبة، ما بين الرّينة، مسقط رأسه في الجليل، وأسدود، ورام الله، والنّاصرة، وحيفا، والقدس، إذ كان والده يعمل مسّاحًا للأراضي ويضطّرّ إلى التّنقّل بين كلّ تلك المواقع مصطحبًا معه عائلته في كثير من الأحيان.

 

الكُتّاب في أسدود

تحدّث أبو حنّا عن الكُتّاب الّذي درس فيه بأسدود، إذ كان مكان التّدريس الوحيد فيها خلال ثلاثينات القرن العشرين، قائلًا إنّه عندما ختم الطّلبة جزء عمّ، نُظّم احتفال صاخب بحضور وجهاء وشيوخ، وقد اصطفّوا في حلقة، وراح الأطفال 'الخرّيجون' يقبّلون أيديهم، إلّا أنّ حنّا الطّفل رفض ذلك، وعندما سُئِلَ عن السّبب قال: 'وما أدراني ماذا فعلوا بأيديهم آخر مرّة؟!'

 

 

وقد حصل حادث شبيه معه عندما أُرْسِلَ إلى المدرسة الحكوميّة في الرّينة، إذ أمره مدير المدرسة أن يحلق رأسه على 'الصّفر' في اليوم الأوّل من المدرسة، وعندما ذهب إلى الحلّاق سعيد الأخرس، هو وزميله سلامة، رآه كيف يستخدم بصاقه خلال الحلاقة، فهرب واختبأ في كروم الزّيتون منتظرًا عودة الطّلّاب من المدرسة، وقد رآه أحد أقاربه هناك وأخبر أهله بالأمر، قائلًا لهم إنّ ابنكم موجود في 'مدرسة الزّيتون!' وعندما عاد إلى البيت سأله والده عن الأمر، فأخبره بما حصل معه، فقرّر والده إرساله إلى مدرسة اللّاتين.

في مدرسة اللّاتين، وفق أبو حنّا، كان معلّم واحد يدرّس أربعة صفوف في القاعة نفسها، وكلّ صفّ عبارة عن طاولة يجلس عليها مجموعة من الطّلّاب، ويحقّ لطالب ما من مرحلة أقلّ أن يجيب على أسئلة مرحلة أعلى إن استطاع، وهذا يكون من معايير ترفيعه من مرحلة إلى مرحلة. وقد وصف كيف كان يُدَرّسُ الدّين المسيحيّ بطريقة تلقينيّة مملّة، تفرض على الطّلبة أن يحفظوا إجابات مجموعة كبيرة من الأسئلة من كرّاسة أُعِدَّت للموضوع، حتّى دون أن يفهموا ما فيها.

 

حيفا في الأربعينات

وصف أبو حنّا أجواء حيفا في الأربعينات، حيث كانت مدينة ناهضة اقتصاديًّا، فيها حركة تجاريّة واسعة وعمّال عرب وأجانب يعملون في مختلف القطاعات، كما كانت خلال تلك السّنوات مليئة بجنود الحلفاء الّذين وصلوا إليها خلال الحرب العالميّة الثّانية.

قال أبو حنّا إنّ قسمًا من أهالي حيفا خرجوا منها خلال الحرب العالميّة الثّانية، إذ أنّ الطّيران الإيطاليّ قصفها، وقد امتلأت سماؤها في حينه بالبالونات الضّخمة لعرقلة دخول طائرات دول المحور إلى أجوائها.

وأشار أبو حنّا إلى أنّ حيفا كانت مركزًا ثقافيًّا فلسطينيًّا مهمًّا، ففيها الصّحف والمجلّات، والسّينما، والنّوادي والجمعيّات، والمكتبات، والأنشطة الفنّيّة والثّقافيّة، وقد كان للمثقّفين فيها دور سياسيّ بارز في حينه، مثل حسن البحيري، ونجيب نصّار، صاحب مجلّة الكرمل، ووديع البستانيّ، اللّبنانيّ الّذي بقي في حيفا حتّى عام 1953، وقد فرضت عليه القوّات الصّهيونيّة إقامة جبريّة بعد احتلال حيفا.

 

 

وقال أبو حنّا إنّ نجيب نصّار، كان قد اطّلع على 'الإنسيكلوبيديا اليهوديّة'، وترجم عنها مجموعة من الوثائق حول الصّهيونيّة وأهدافها، وقد ترك كتابًا حول ذلك عام 1905 (اسم الكتاب: الصّهيونيّة، ملخّص تاريخها، غايتها وامتدادها عام 1905)، مبيّنًا من خلال ذلك أنّ الفلسطينيّين كانوا ومنذ وقت مبكر جدًّا على اطّلاع على أهداف الحركة الصّهيونيّة، ومؤكّدًا على أنّ النّكبة نتاج العمل البريطانيّ الحثيث على إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين وتسليح المستوطنين الصّهاينة، وخيانة الأنظمة العربيّة، وعدم تنظيم الفلسطينيّين.

 

الكلّيّة العربيّة

وتناول أبو حنّا محطّة مركزيّة في حياته، ألا وهي دراسته في الكلّيّة العربيّة في القدس، والّتي حصل منها على شهادة 'الإنترميديت' وإجازة التّعليم؛ وهي كلّيّة أنشأتها دائرة المعارف وكانت لا تقبل إلّا الطّالب الأوّل في كلّ مدرسة ثانويّة من مدارس فلسطين، وكانت تُعَدُّ نواة لجامعة فلسطينيّة، مؤكّدًا على أنّه في عام 1914، كان يُخَطّط لإنشاء جامعة فلسطينيّة، لكنّ اندلاع الحرب العالميّة الأولى أوقف هذا المشروع.

قال أبو حنّا إنّ الكلّيّة العربيّة جمعت نخبة من طلّاب فلسطين، والّذين غدوا شخصيّات سياسيّة وعلميّة معروفة على مستوى العالم العربيّ، مثل إحسان عبّاس وناصر الدّين الأسد ومحمود السّمرة وجبرا إبراهيم جبرا وذوقان الهنداوي، وغيرهم، وكان يدرّس في الكلّيّة أساتذة جامعيّون مهمّون، مثل الدّكتور نقولا زيادة وإسحق موسى الحسيني.

ذكر أبو حنّا أنّه درس في الكلّيّة العربيّة اللّغة اللّاتينيّة مدّة أربع سنوات، وكذلك الفلسفة، منذ أفلاطون وأرسطو مرورًا بالفلسفة الإسلاميّة حتّى الفلسفة الغربيّة الحديثة، وهو ما ترك أثرًا كبيرًا في تكوينه المعرفيّ والفكريّ. كما أنّ المنهاج الدّراسيّ في المدرسة كان يشمل الفنون والآداب والأعمال اليدويّة والرّياضة وغير ذلك.

 

مقاومة ثقافيّة

'أعتقد أنّ جوقة الطّليعة أوّل ردّ فعل ثقافيّ فلسطينيّ مقاوم بعد النّكبة، فما حكايتها؟' سأل المحاور، علي مواسي، حنّا أبو حنّا، فراح الأخير يسرد كيف أسّس الفرقة بعد ستّة شهور من نكبة الشّعب الفلسطينيّ هو وصديقه الأرمنيّ، الموسيقار ميشال درمنكليان، وقد كان أبو حنّا يكتب للجوقة أناشيدها ويلحّنها درمنكليان، ومن بين تلك الأناشيد نشيد 'العودة'، وقد جالت الجوقة في مختلف أنحاء فلسطين، وشاركت في عدد من المهرجانات المحلّيّة والدّوليّة وحصلت على جوائز.

 

 

وتطرّق أبو حنّا إلى تنظيم المهرجانات الأدبيّة في القرى والمدن العربيّة الّتي بقيت في أراضي 48، حيث كانت تعاني من انقطاع تامّ عن محيطها العربيّ، وكان لا بدّ من فعل ثقافيّ يعبّر عن هويّة الفلسطينيّين وآرائهم ويوعّيهم. وقد كان يشارك في هذه المهرجانات عدد كبير من الشّعراء الفلسطينيّين الّذين سيصير لهم حضورهم الوطنيّ المهمّ لاحقًا، مثل سميح القاسم، ومحمود درويش، وراشد حسين، وعيسى لوباني، وغيرهم. وقد كانت هذه المهرجانات تثويريّة، تنتقد سياسات دولة إسرائيل وتعبّر عن الآمال الوطنيّة للفلسطينيّين، وكانت تحضرها حشود كبيرة، وهو ما جعل سلطات الحكم العسكريّ تلاحق هذه المهرجانات وتضيّق على منظّميها وتعتقلهم.

تحدّث أبو حنّا أيضًا عن تأسيسه 'اتّحاد الشّبيبة الدّيمقراطيّة'، وقد كان كيانًا سياسيًّا يعمل على مواجهة سياسات الحكم العسكريّ، ومن ضمن ذلك الدّفاع عن الفلسطينيّين العائدين من بلاد اللّجوء، والّذين كان الإسرائيليّون يسمّونهم 'المتسلّلون'. وروى حنّا أبو حنّا كيف أنّه ومجموعة من زملائه المعلّمين في المدرسة الثّانويّة بالنّاصرة، نظّموا تظاهرة كبيرة عام 1949 في مدينة النّاصرة شارك فيها طلّاب المدارس، ضدّ تهجير العائدين، إذ كانت القوّات الإسرائيليّة قد حاصرت الحارة الشّرقيّة لإخراجهم منها. وقد فُصِلَ حينها حنّا أبو حنّا من سلك التّعليم.

 

الخلاف مع الشّيوعيّين

سُئِلَ أبو حنّا عن سبب افتراقه عن الحزب الشّيوعيّ والجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة، بعد عقود من العمل السّياسيّ والثّقافيّ في صفوفهما، فتحدّث عن تعرّفه إلى الفكر الماركسيّ من خلال مجموعة كتب لصليبا خميس، كان قد خبّأها له بعد دخول قوّات جيش الإنقاذ إلى فلسطين، وإصدارها أوامر اعتقال بحقّ مجموعة من أعضاء عصبة التّحرّر الّتي كان خميس عضوًا فيها. ثمّ قال أبو حنّا إنّ النّقد والنّقد الذّاتيّ كانا غائبين في ثقافة الشّيوعيّين، وإنّهم حاربوا دائمًا كلّ مؤسّسة جديدة تنشأ، وسعوا إلى السّيطرة على كلّ تنظيم، مثلما حصل مع فكرة إنشاء جامعة الجليل، الّتي أصرّت بلديّة النّاصرة برئاسة توفيق زيّاد على السّيطرة عليها، لأنّ المبادرين إليها أناس مستقلّون، ومنذ ذلك الحين لم تقم لها قائمة.

هذه الثّقافة أساسًا، بالإضافة إلى أسباب سياسيّة أخرى، جعلت أبو حنّا يختلف مع القائد الشّيوعيّ إميل حبيبي كثيرًا، والّذي كان 'أديبًا مهمًّا لكنّه لا يصلح لأن يكون سياسيًّا، وقد قلت له هذا الكلام'، وفق أبي حنّا. لاحقًا فُصِلَ إيميل حبيبي نفسه من الحزب بسبب هذه الثّقافة الّتي كان هو نفسه جزءًا منها.

اختُتِمَ الحوار بإلقاء حنّا أبو حنّا قصيدة بعنوان "المجيدل"، أهداها إلى صديق صباه، نمر الصّادق، ابن القرية الّتي صار اسمها بعد احتلال فلسطين "مجدال هعيمق"، قائلًا إنّه وبعد عقود، زار سوريا، وبحث فيها عن صديقه، فأُخْبِرَ أنّه فارق الحياة.

هنا لمعت عينا حنّا أبو حنّا، وحبس الدّمعة.

 

***

حنّا أبو حنّا: أديب وتربويّ وسياسيّ فلسطينيّ، وُلِدَ عام 1928 في قرية الرّينة، وتنقّل ما بين أسدود ورام الله والقدس والنّاصرة وحيفا. له مؤلّفات عديدة في الشّعر، والدّراسات الأدبيّة والتّربويّة، والتّراث، والنّقد الأدبيّ، والتّرجمة، وأدب الأطفال، وهو حاصل على جائزة فلسطين للسّيرة الذّاتيّة عام 1999، وجائزة محمود درويش عام 2013.