متى سنعود أبناءً لأولادنا؟ - سؤال نصر الله في "ثلاثيّة الأجراس"

"ثلاثيّة الأجراس" لإبراهيم نصر الله

 

لا أحد يملك إجابة شافية على السؤال: هل شاء الربّ أن يكافئ الفلسطينيّ بما ابتلاه؟ أم أنّ التاريخ شاء أن يُخضعه للتجربة؟

الإجابة عن الأولى بـ "نعم" جازمة، كمن يسعى إلى التهرّب من مسؤوليّاته؛ فيستدعي مواجهتها، والإجابة عن الثانية بـ "لا" تنوء بحمولتها اليوميّة، كمن يُراوغ دائرة محكمة الإغلاق، ما دام لم ينظر في المرايا ليعلم مَنْ أصاب ومَنْ أخطأ، نحن أم التاريخ؟ ما يعني أنّنا عالقون بين هاويتَين: الأولى قد تسلبنا شيئًا من الإيمان، والثانية قد تذهب بالإيمان كلّه. لكنّ الشيء الأكيد أنّنا لا نملك ترف أن نُخبِّئ الشمس وراء إصبع صغير، وكذلك الشمس لا يمكنها إلّا أن ترانا.

ولأنّ حضور الشمس صباح كلّ يوم، تمامًا كحبّ البلاد الّتي لا تقبل القسمة على اثنين، ليس من الصعب أن نستنتج العلاقة الأكيدة، الّتي تربط صاحب "الملهاة الفلسطينيّة"، الشاعر والروائيّ إبراهيم نصر الله، بالواقع والمأمول في قضيّته الوطنيّة؛ وهو ما يدفعه إلى مواصلة اجتراح القول بعد الآخر في عرض مستمرّ، تؤكّد أحد أهمّ قواعده الفقهيّة المُستلهَمة من المرافعات الحقوقيّة، "إن أحسنت العرض، حقّقت القناعة، فحصّلت الحقوق"، وهذا ما وصلني بوضوح كامل، ما إن وصلت إلى السطر الأخير من مجموعته الروائيّة الأخيرة "ثلاثيّة الأجراس" (2019)[1].

الثلاثيّة ... تستعرض حال القضيّة الفلسطينيّة، وتعالج أسئلة نسيجها الاجتماعيّ، مستدعية المسيحيّ منه على وجه الدقّة، منذ مطلع القرن العشرين إلى ما بعد الانتفاضة الأولى

والثلاثيّة الّتي تتكوّن بالترتيب من روايات ثلاث: "ظلال المفاتيح"، و"سيرة عين"، و"دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد"، تستعرض حال القضيّة الفلسطينيّة، وتعالج أسئلة نسيجها الاجتماعيّ، مستدعية المسيحيّ منه على وجه الدقّة، منذ مطلع القرن العشرين إلى ما بعد الانتفاضة الأولى، مع بعض الإشارات الناقدة للحالة الوطنيّة الّتي وصلنا إليها اليوم. ويمثّل الجزء الثالث من العمل، وهو رواية "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد"، موضوع هذا المقال، الإطار الأوسع لتناول كامل المشهد الّذي أسّس له في الجزأين الأوّل والثاني.

 

المرافعات وجلساتها

في الجلسة الأولى من جلسات المرافعة، وهي جلسة الجزء الأوّل من الثلاثيّة المعنون بـ "ظلال المفاتيح"، إن صحّ تقسيمها إلى جلسات، والكاتب مَن قسّمها إلى ليالٍ ولقاءات، حاول نصر الله - ومِن خلال الهاجس الّذي انتاب الإسرائيليّ من "ثنائيّة الظلّ وصاحبه" - أن يُشير إلى واحدة من أهمّ قواعد الغرباء المحتلّين، وهي قاعدة الغدر، حين نجد الأب يعلّم ابنه: "إنّ أفضل مكان يمكن أن تختبئ فيه هو بيوت أعدائك؛ فهي الأكثر أمانًا من غيرها، وأمّا أفضل حياة يمكن أن تعيشها، فهي الحياة الّتي تعيشها في تلك البيوت، بعد أن تتخلّص من أولئك الأعداء"[2]؛ فحدث أن عاش الغرباء حياتهم وما زالوا في العار، بدلًا من أن يعيشوا موتهم فيه.

وأمّا الجلسة الثانية، وهي جلسة الجزء الثاني من الثلاثيّة المعنون بـ "سيرة عين"، فيدخل الروائيّ إلى عوالم ما يمكن أن نسمّيها عوالم "العين الثالثة" أو "حرب الصور"، عبر ما يُطلق عليه "السيرة الغيريّة"، تلك الّتي راح فيها يوثّق حياة بعض الروّاد بأسمائهم الحقيقيّة؛ فكانت شخصيّة كريمة عبّود، رائدة التصوير الفلسطينيّة. وهذا الصراع الخفيّ حينًا، والمُعلَن أحيانًا بين الكاميرا والبندقيّة، حيث الأولى، أي الكاميرا، بما تمثّله من سلطة أشار إليها الكاتب بأنّها أكبر سلطة لامتلاك الزمان، عمل المحتلّ لجعلها أكبر سلطة لسرقة المكان أيضًا. هذه الأداة، أي الكاميرا، تتفوّق بمراحل على الثانية، ونقصد البندقيّة الّتي "تستطيع أن تقتل شخصًا واحدًا أو اثنين، لكنّ الكاميرا تستطيع أن تُبيد مدينة حين تُخليها من سكّانها"[3].

الصراع الخفيّ حينًا، والمُعلَن أحيانًا بين الكاميرا والبندقيّة، حيث الأولى، أي الكاميرا، بما تمثّله من سلطة أشار إليها الكاتب بأنّها أكبر سلطة لامتلاك الزمان، عمل المحتلّ لجعلها أكبر سلطة لسرقة المكان أيضًا

نصر الله الّذي احترف - ولا يزال - فنّ التصوير، كما احترف الشعر والرواية والرسم والموسيقى، ولأنّه يعلم تمامًا بلاغة الصورة وقوّة تأثيرها، الّتي عادةً توظّف لغتها العينيّة والضمنيّة لصالح أهداف سياسيّة بعينها، منذ الظهور الأوّل لهذه الآلة، بوصفها آلة حديثة في بدايات القرن العشرين، تَمكّن من استعراض كيفيّة استخدامها من قِبَل المحتلّ، ومحاولات الجانب الفلسطينيّ متمثّلًا في كريمة عبّود وأقرانها، التصدّي لهذا الاستخدام. نصر الله عبّر بحرفيّة عالية عن أهمّ مضامين توظيف المحتلّ لهذه الأداة بالقول: "في الوقت الّذي يكتفي فيه المصوّر بالتقاط صورة للمكان وقد تجمّد الزمان فيه، ناقلًا المكان إلى الورق، يستطيع السمسار بحنكة ساحر وخفّة يد نشّال، وذكاء ثعلب، أن ينقل المكان من يد إلى يد، مع أنّ المكان يبقى في مكانه"[4].

 

العصيان

هكذا ذهب العمل في معالجاته الثلاث يتّخذ من الكاميرا أداة بتلك الخطورة، وهكذا أقام الكاتب بنيته الروائيّة في الجزء الثالث من الثلاثيّة، المعنون بـ "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد"، وهو المُشكّل الأساس للسرديّة. وعلى الرغم من أنّها تُلقي نظرة فاحصة على أمرين أساسيّين: العصيان المدنيّ، الّذي قامت به مدينة بيت ساحور أيّام الانتفاضة الأولى المعروفة بـ "انتفاضة الحجارة"، والدور المسيحيّ في المواجهة، وإفرازاته المُعبّرة عن مدى تلاحم النسيج الاجتماعيّ للشعب الفلسطينيّ، إلّا أنّ هذا الجزء الثالث تناول المشهد الفلسطينيّ منذ بداية القرن العشرين، من اللقطة البعيدة إلى القريبة، أو كما تُسمّى في لغة السينما من "Zoom OUT" إلى "Zoom in"؛ وهذا ما وفّر للقارئ متعة متابعة نموّ شخصيّات العمل وتفاعلاتها، وأتاح للروائيّ أن يُسلّط الضوء على صراع الأجيال الّذي تشهده القضيّة الفلسطينيّة، فها هم ياكوف، وموشيه، وناحوم، وشاؤول، يصطدمون بمواجهة شرسة من الجدّ إسكندر، والأب بشارة، والابن زيدان، والطفلة رولا.

العصيان؛ لغة المجابهة الأشرس خلال الانتفاضة الأولى، كان الامتياز فيها لمدينة بيت ساحور، الّتي تميّزت عن كامل مشهد الانتفاضة، بإطلاقها هذا الفعل النضاليّ؛ وذلك لسببين أساسيّين: الأوّل أنّها مدينة مسيحيّة في ظاهرها العامّ، أمّا الثاني ففي حسن صياغتها وتدبيرها، وما أنجزته من نتائج؛ عرّت وهن الدولة الّتي انتصرت على جيوش ستّ دول عربيّة مجتمعة، قبل وقت قصير.

هذه المفاجأة، مفاجأة العصيان، وما شكّلته من رمزيّة بالغة التأثير، خلقت صراعًا خاصًّا، بين الكيان الغاصب بكلّ ما يملك من قوّة إرهاب وبطش بشكل عامّ، وناحوم أو الكابتن داود بشكل خاصّ، وبين المكان بكلّ رمزيّته ودلالاته اللذين تمثّلا في انصهار الفعل المقاوم للكنيسة والمسجد، دونما حاجة إلى تحديد هويّته العقائديّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة، وهو ما عبّر عنه الكاتب ببراعة في واحد من أهمّ مشاهد الرواية، حين "سأل أحد الجنود النمر: إنتو مسلمين ولّا مسيحيّين؟ فالتفت النمر إلى رولا وسألها: إحنا شو؟، فردّت: قل له نحن فلسطينيّون"[5].

"هل تريدون أن تُقنعوا أنفسكم بأنّ أطفالنا الرضَّع، وأطفالنا الّذين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم ... أن ينتظروا سيّارات تنوفا الإسرائيليّة لكي تزوّدهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم وننتظر حليبهم؟"

ولأنّ "الدبّابة لم يكن لها وطن في يوم من الأيّام، ولن يكون"[6]؛ كان سؤال إسكندر السؤال الأكثر بلاغة في كامل مشهد الانتفاضة الأولى، الّتي جابت البلاد من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، "هل تريدون أن تُقنعوا أنفسكم بأنّ أطفالنا الرضَّع، وأطفالنا الّذين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم ... أن ينتظروا سيّارات تنوفا الإسرائيليّة لكي تزوّدهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم وننتظر حليبهم؟"[7].

هذا العصيان الّذي ابتكرته مدينة بيت ساحور أثناء الانتفاضة، أسّس لفعلين مهمّين في خطوته الأولى: فعل الاعتماد على الذات، وفعل المقاطعة. ولأنّ "الّذي ثمن حصانه أعلى من ثمنه؛ من العيب أن تحكي معه، ومن العيب أن يكون صاحبك"، على حدّ قول إسكندر[8]. طوّر أهل المدينة من أدواتهم، فأعلنوا رفضهم لدفع الضرائب، تحت شعار "لن ندفع ثمن الرصاص الّذي يقتلنا"[9]؛ ببساطة لأنّ هذه المدينة الّتي تستمدّ قوّتها من بنيتها الاجتماعيّة وكذلك الدينيّة على حدّ سواء، هي "مدينة تسند ظهرها إلى مهد المسيح، وتشرب من بئر السيّدة، وتأكل لقمتها ممّا تزرعه في حقل الرعوات، هذه مدينة لم تُولَد اليوم"[10]. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل تصاعد بشكل منظّم قولًا وفعلًا؛ وهو ما وضع دولة الاحتلال في مأزق التعريف: مَنْ نحن؟ حين راقبت "من كلّ الجهات تدفّق الناس، حاملين هويّاتهم، وكلّ من يصل يرفع هويّته في الهواء، ثمّ يُلقيها، وسط غناء لا ينتهي: إحنا إل رمينا الهويّة/ في بيت ساحور الأبيّة"[11].

 

الاحتلال خطأ مطبعيّ

ختامًا، "ثلاثيّة الأجراس" لإبراهيم نصر الله، الّتي لم ترَ الاحتلال إلّا "خطأ مطبعيًّا فاحشًا في كتاب الزمن"[12]، وبات كاتبها متأكّدًا على لسان أحد أبطاله "أنّنا كفلسطينيّين، أصبحنا أفضل، منذ أن حمل أولادنا الحجارة، وعلّمونا كيف نرشق الجنود (...) في هذه الانتفاضة، كلّنا أبناء أولادنا"[13]، لم يقدّمها الكاتب معالجًا قرنًا من الزمن الفلسطينيّ؛ لأنّه لا يعرف ماضيه، لكن لأنّه يحاول أن يتلمّس مستقبله، ذاك الّذي بحاجة إلى أن نُصغي السمع لأحد أبطاله وهو يقول: "لو قلت لي قبل الانتفاضة إنّنا سنفعل كلّ ما فعلناه، لقلت لك إنّ ذلك مستحيل، ولكنّني توصّلت إلى نتيجة، هي أنّ عليك أن تبدأ، لكي تعرف أنّك تستطيع"[14]، وكأنّي بصوت نصر الله ينادي من علٍ برسالته الأهمّ: "متى سنعود أبناءً لأولادنا؟".

..........

إحالات:

[1] إبراهيم نصر الله، ثلاثيّة الأجراس [الملهاة الفلسطينيّة] (الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2019).

[2] إبراهيم نصر الله، ثلاثيّة الأجراس – ظلال المفاتيح [الملهاة الفلسطينيّة] (الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2019)، ص 12.

[3] إبراهيم نصر الله، ثلاثيّة الأجراس – دبّابة تحت شجرة الميلاد [الملهاة الفلسطينيّة] (الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2019)، ص 103.

[4] المرجع نفسه، ص 62.

[5] المرجع نفسه، ص 271.

[6] المرجع نفسه، ص 296.

[7] المرجع نفسه، ص 316.

[8] المرجع نفسه، ص 441.

[9] المرجع نفسه، ص 395.

[10] المرجع نفسه، ص 441.

[11] المرجع نفسه، ص 442.

[12] المرجع نفسه، ص 369.

[13] المرجع نفسه، ص 279 – 280.

[14] المرجع نفسه، ص 501.

 

 

أحمد زكارنة

 

 

شاعر وإعلاميّ يقيم في رام الله. يعمل في إذاعة "صوت فلسطين"، ويرأس تحرير موقع "اليوم الثامن"، كما عمل سابقًا مستشار تحرير في "صحيفة الحدث". له مجموعة شعريّة بعنوان "ما لم أكنه" (2017).